مقاربات فكرية بين المنطق واللامنطق.. عِلل الموروث وصراع المفاهيم.. الجزء (8-10)
“المدارنت”/
كثيرون هم المفكرون الذين تناولوا أزمة أمتنا، حاضرا وماضيا، ولكن القلة منهم مَن تناولت في أبحاثها عمق الأزمة الحقيقية، وتحصّنوا بعيدا عن الطوباوية والانفعالية، واستطاعوا التخلص من قيود الموروث، وما تركه من تقليد معلول. اضافة لما تعانيه العقلية العربية من اشاكالات عديدة متنوعة، حيث ظهرت مصطلحات الموروث، كالقداسة، والماضي السليم، والاحتكار، والسلطة، والتامر، والمذاهب.. الخ.
ويكمن الحلّ في ضرورة تسديد الانطلاق الفكري المجرد السليم، ثم التوجه الى تأسيس مشروع عربي حضاري، يخرج الأمة مما هي فيه، من التناقض والتنازع، والصحيح والسقيم، وذلك عبر ممرّ سحب الوعي العربي النهضوي من تلك الإشكاليات التي تتخبط بها، وعن طريق استخدام العقل النقدي البناء، ومن خلال مجامع أبحاث ودراسات وآراء – مجردة الأهواء والميول – تضم إليها كافة أهل العلوم الحياتية، انطلاقا من عقل، فاعل منفعل، يتأثر ويؤثر، يملك إرادة التطوير الحضاري الصحيح، مع ضرورة استبعاد كل ما يتصل بالعقل التقليدي المتحجر، والمسند إلى كثير من القصص والأساطير المتحكمة في الوعي واللاوعي، الفردي والجمعي، لدى شعوبنا الغفلة الجهلة، الذين يرون في أولئك الذين يعتلون المنابر، ويتمركزون خلف “الميكروفون”، حيث مكبرات الصوت والظل، انهم أهل علم ومعرفة وعلى ثقافة راقية، بحكم ما يسمعونه من كلمات راقية، وتعابير سامية، تأخذ السامع إلى أماكن ما يحلمون وما يتمنون، والحقيقة الحقة تظهر عكس ما يقولون، من ممارسات واعمال. “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”، انهم سبب البلاء وسبب مصائب الامة وضعفها وانهيارها، لأنهم مسؤولون، مسؤولون عن بناء المواطن الصالح، وعن قول الحق في تصوير الواقع الموضوعي، وليس اعتماد الدعاء من دون تحقيق قوله تعالى:” وأعدوا….”.
إن الشعوب لديها ما لديها من الانفعال والهيجان، بعيدا عن التعقل والتدبر، لما يسمعونه من كلام معسول، يدغدغ مشاعرهم، ثم يذهب مع الريح، كذبذبات صوتية، ما إن تبدأ حتى تنتهي، ومنذ زمن يتردد الخطاب بما يمثل ويقصد، دينيا أو قوميا، وعلى مستوى، قادة ومرجعيات، وما تمثل، بخاصة عند تناولها الصراع العربي/ الصهيوني، وأي مواقف اخرى، فنسمع ما نسمع، كلام وعبارات، تتكرر وتتردد، هي هي، في الأسلوب والغايات، فالاحساس يسيطر على كلّيَتِك، عقلا ومشاعر، يجعلك تعيش أحلام التحرير، وتبدد ظلام الاستبداد، و..و… وكأن الخطاب مصدره واحد وغايته نموذج يحيي في الشعوب، أساطير الأحلام لما تحمله من غفلة ونسيان، وتبعده عن يقظة الحقائق المنطقية والموضوعية. وهكذا يتوالد اجترار الكلام… قوى الأمة، احرار، معركة الجميع، سنقاوم، لن نركع، الثورة ،الكرامة.. الخ، ثم ينتهي الخطاب بالدعاء وتمجيده: حفظ الله، الفكر والرؤية السياسية سبيلا للنصر المحقق.. الخ.
فالأمة التي تحارب المحتل، والفقر، والفساد، بالدعاء والفتاوى، وتحارب الانقسام الطائفي والصراع المذهبي، بخطب المنابر و”الميكروفونات”، وتحارب الجهل والتخلف بالمناهج الجامدة البالية، هي أمة منهارة متهالكة، تلفظ أنفاسها الأخيرة.
ومن جهة ثانية، تجد استمرار وتكرار انعقاد المؤتمرات الحزبية، على مستواه القومي والديني، وترى من يقودها ويوجهها، هو هو، ولسنوات قد تطول إلى نهاية العمر، إضافة إلى انعقاد المؤتمرات بين أنظمة الدول العربية التي بدأت زمن ما قبل الاحتلال الصهيوني، ومستمر إلى ما بعده، بما تحمله وجوه تلك الأنظمة من ألوان قوس قزح، ومع نهاية البيان الصادر تنطلق كلمات الشكر والتحية لزعماء العمالة، المتربعة بالتوارث والارث المستبد على عروشها، ثم تتم الدعوة أخيرا إلى ضرورة تشكيل قيادة نخبوية على الساحة العربية، حتى يومنا هذا، لم تتشكل، وأن تشكلت، فصورية ميتة.
وهكذا نستمر إلى حصاد نتيجة واحدة، هي هي تلك التي حصدناها، مفكرون، ومثقفون، حكماء وعلماء، مجتمعا وشعوبا، إنه الاجترار والتكرار والفشل، جرّاء ما سمّوه نضالا وكفاحا، لدى حاملي لواء الدين التقليدي الموروث، من جهة، أولئك حاملي لواء القومية العلمانية، من جهة ثانية، والصراع متجذر بينهم، وفيما بينهم، فالاقتتال سوس الامة، والكل غرق فيه من الأذنين حتى الأخمصين. إلا يكفي كفرا بفكر متصلب انا أو لا أحد..
لقد شبعت شعوبنا العربية، كفاحًا مسلحًا ضد بعضنا البعض، غافلين عمّا يخططه العدو للاطباق على مقومات نهضتنا وصحوتنا، فيعمل وباستمرار، إشعال فتيل النزاع، بين الديني واللاديني، إضافة لما يدسه من مناهج تخلخل نظامنا الاسري الاجتماعي، وما يرمي من أفكار تأخذنا إلى الانقسام والاقتتال، مما يؤدي إلى التفكك والانحلال،على كافة الصعد والمستويات الحياتية. ويهمل المسؤولون، في أي موقع، ما يجب القيام به، فيتركون وبمحض إرادتهم، الحصن الحصين، لكل عمل نهضوي متقدم، وهو الأخذ بنصوص القرآن العظيم، حيث يحمل الشرع العام، لكل زمان ومكان، ويحمل ايضا، وجه التجدد والتجديد، لما يجد على مستوى “التكنولوجيا” العلمية، وما يخصّ بناء حضارة يتساوى فيها الأفراد والجماعات والشعوب والأمم، في الحقوق والواجبات، وحيث يتحقق العدل ويعم الخير، وحيث تسمو راية الإنسانية للعالمين.
نحن أمة العرب التي حملت معالم الإنسانية وقدمتها للعالمين، كانت السباقة في بناء حضارة عالمية عادلة، حيث انبعثت، وكانت أمة صهرت وحدة لغتها بالهوية والعقيدة، وإخراجها كامة عربية مؤمنة، آخذة بروحها وثوابتها في نشر عقيدة التوحيد، بأمر الهي سماوي، حيث حققت العدل الإلهي وسادت العالمين بقدر ما التزمت بحدود ما نص عليه الدستور القرآني وما شـرع.
إن في ذلك لأساس جوهري، وأصل تأكيدي على أن أمتنا العربية المؤمنة، هي أمة حيّة، لن تنقرض ولن تموت، مهما خطط العدو وتآمر ونفذ. انطلاقا من واجب عدم التسليم بما نحن فيه
من أفكار ومناهج، من أساليب وغايات، صحيح أن كل شيء مشكل، ولكنه قابل للتسديد والتعديل، بعد وضعه تحت عين التدقيق والتمحيص، ثم التحري والتغيير إلى ما حق في شرع الله، لقوله تعالى: “خير أمة أخرجت للناس…”.
وعليه، فالخطوة الأولى تتمثل في التوجه إلى نسف قواعد ذلك العقل الجمعي المتحجر، صاحب السلطة الخفية، والمتحكمة بسلوك الفرد والمجتمع، من دون وعي ومن دون إدراك، وقد انتشرت على نحو مجموعة لبس المفاهيم في المبادئ والقيم، إلى جانب ظهور اللامنطق في بعض ممارسات المعتقدات والعادات والتقاليد السائدة، حيث تكونت عبر تفاعلات الأحداث، ومجريات الواقع المتخلف، ثم تراكمت مع العصور الأزمان، كي تشكل عقدة الإشكالية في قوالب عصبية جامدة، فكرا ومعرفة، ونحن كأفراد ومجتمع، نتغذى على مواءدها، ونخضع لقواعدها، ذلك منذ طفولتنا المبكرة، ثم اكتسبناها تلقائيا، وبلا شعور بالمسؤولية، وايضا، بلا تفكر ولا تعقل، فليس لدينا الخيار في ما نحمل من قيم ومعتقدات.
لقد قتلوا فينا إلارادة الشخصية، وقتلوا فينا العقول الفاعلة، ونحروا عملية التعقل، (نحن نفكر عنك). فجعلوا منا أنعامًا، وإلى المذبح، نسير بارادتنا، مطواعين. إنه اللامنطق لواقع شعوبنا العربية المؤمنة. إنها حقيقة الضاحك الباكي، حقيقة تلعنها الحيرة، ويمجها القلق والاضطراب. نحن شعوب سجناء تلك السلطة القاهرة العاهرة، والسجّانون لا يرحمون، رغم انهم معنا مسجونين، لا يفقهون ولا يعقلون. “صُمٌ بُكمٌ عُميٌ….”.