مناظرة هاريس وترامب: من الرابح في معركة الهواء؟!
“المدارنت”..
لم تكن المناظرة التلفزيونية الأولى بين كامالا هاريس ودونالد ترامب حاسمة، ولم تنجح هاريس رغم تقدمها الهجومي أن تفوز بالضربة القاضية في مباراة الهواء، فقد ابتعد المرشح الجمهوري بنصائح مستشاريه عن توجيه السباب الشخصي للمرشحة الديمقراطية، بينما سعت هاريس لاستفزاز غريمها إلى أقصى حد، واتهمته بالديكتاتورية والإجرام والكذب والعداء للديمقراطية وحكم القانون.
وفي قضايا الداخل الأمريكي الأكثر أهمية للناخبين، بدا ترامب حريصا على بيان موقفه الكلاسيكي الرافض لتدفقات ملايين المهاجرين غير الشرعيين، بينما لجأت هاريس إلى حصار خصمها في قضية حق النساء بالإجهاض، وبدا الطرفان على كفتي ميزان متناوش في قضايا الاقتصاد وأزماته، وفي القضايا الدولية، بدت هاريس حريصة على إبراز طابع قيادي، ووصفت صورة ترامب بأنها مخزية ومثيرة للسخرية عند الحلفاء الأجانب.
بينما وجد ترامب ضالته الوحيدة في مديح حظي به من فيكتور أوربان رئيس الوزراء المجري، واتهم هاريس بقيادة العالم باستفزاز موسكو إلى حرب نووية، واكتفى بتكرار ألفاظه المعتادة عن قدراته السحرية في وقف حروب العالم، والحصول على مئات مليارات الدولارات من شركاء أمريكا في حلف شمال الأطلنطي.
وفي القضية الفلسطينية، زايد ترامب على هاريس في إشهار الولاء لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، واتهم هاريس بالعداء لإسرائيل المهددة بالتلاشي، خلال سنتين إذا فازت هاريس، بينما أعادت هاريس تأكيد موقف الدعم المطلق للكيان الإسرائيلي، والسعي لإيقاف حرب غزة، وإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين، وإعادة إعمار غزة، والمضي إلى حل الدولتين، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.
الديمقراطيون يربطون أحاديثهم بنيل رضا وموافقة “إسرائيل” أولا كما في أحاديثهم مثلا عن الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة، لكن بشروط “إسرائيل”
حملة هاريس من جانبها، تشجعت بأداء مرشحتها في مناظرتها الرئاسية الأولى، وبإتقانها استخدام لغة الجسد وتعبيرات الوجه في السخرية من كلام ترامب، وبالذات حين ردد أخبارا كاذبة عن أكل المهاجرين لقطط وكلاب الأمريكيين، وطالبت حملة هاريس بتكرار المناظرة في وقت قريب، وهو ما بدا ترامب مترددا في قبوله، ورغم أن ترامب بدا مقموعا وممنوعا من استثمار هوايته في الردح الشخصي، اللهم إلا في وصف هاريس بأنها ماركسية كأبيها الهندي.
وهو ما ردت عليه هاريس بنصف ابتسامة ساخرة، لكنها لم تسكت على اتهام ترامب لها بالعداء لإسرائيل، وقالت إن تاريخها كله حافل بالولاء الأكيد لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، فالولاء للكيان الإسرائيلي بمثابة البقرة المقدسة في المجتمع السياسي الأمريكي، وإن بدت الرواية الفلسطينية ظاهرة الأثر في خطاب هاريس، القريبة أكثر من رئيسها جو بايدن إلى الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، والحريصة على اجتذاب أصوات الأمريكيين من أصول عربية ومسلمة، وهي كتلة تصويت تقارب 700 ألف صوت، قد يكون لها أثر بارز في بعض الولايات المتأرجحة، ويلزم هاريس الحصول على أصوات ولايات ثلاث منها في المجمع الانتخابي العام، وبالذات ولايات بنسلفانيا وويسكونسون وميتشغان.
وحتى تستطيع الوصول إلى رقم الفوز الذهبي، وهو الحصول على أكثر من 270 صوتا لمندوبي المجمع الانتخابي البالغ عددهم 540، فالنظام الانتخابي الأمريكي يمضي على درجتين، أولاهما التصويت الشعبي، وتبدو هاريس متقدمة فيه على ترامب في أغلب استطلاعات الرأي، لكنه لا ينعكس تلقائيا في عدد أصوات مندوبي المجمع الانتخابي، فالمرشح الرئاسي الذي يفوز بأكثر من خمسين في المئة في ولاية ما، يكسب مئة بالمئة من أصوات مندوبي الولاية في المجمع الانتخابي، ما يؤدي لعديد المفارقات في تاريخ ونتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
وقد خسر ترامب انتخابات 2020 بسبب ولاية جورجيا، التي تقدم فيها بايدن بعشرة آلاف صوت لا غير، فحصل على كل أصوات مندوبي الولاية، وفي انتخابات سبقتها، فاز ترامب في النهاية على منافسته هيلاري كلينتون في انتخابات 2016، رغم أن هيلاري تفوقت عليه بملايين الأصوات الشعبية، وهو ما كانت له سوابق، بينها حالة المنافسة بين آل غور وجورج بوش الابن، كانت كفة التصويت الشعبي راجحة بالملايين لصالح آل غور، لكن بوش الابن فاز في النهاية بأصوات مندوبي ولاية فلوريدا، وعلى عكس آل غور الديمقراطي، الذي لم يعاند في النتائج.
لم يسلم ترامب أبدا بهزيمته في انتخابات 2020، وظل يتحدث عن فساد النظام الانتخابي الأمريكي، ثم عن فساد النظام القضائي كله، الذي اتهمه بالتحيز ضده، وإدانته في دعاوى تزوير وتحرش جنسي، وبدا سعيه للرئاسة مجددا، وترشحه المتكرر لمرة ثالثة، وبالمخالفة لعرف الترشح لمرتين لا غير، بدا ذلك كله في جانب لا يخفى منه، كسعي من ترامب لاستصدار عفو رئاسي عن إدانات دامغة لحقت بشخصه، لكن ترامب قد لا ينجح في الوصول للرئاسة هذه المرة، رغم أن قاعدته الانتخابية تبدو راسخة، وترتكز بالأساس على قواعد اليمين المحافظ المقتنع ـ كما ترامب ـ بوجود مؤامرة على أمريكا والجنس الأبيض، الذي يعتبر نفسه حجر الأساس في البنيان الأمريكي، ويخشى من تزايد تدفقات المهاجرين الملونين، الذين يهددون أولوية جماعة الواسب، أي البيض الأنكلوساكسون البروتستانت، وقطاعات كبيرة منهم، تردى وضعها الاجتماعي والاقتصادي مع فقر التعليم.
ومع تراجع معدلات تفوقهم السكاني، وكان هؤلاء البيض يشكلون نحو 70% من السكان إلى عهد قريب، وصاروا أقل من 60% بين السكان اليوم، ما ولد بالمقابل عنفا لفظيا وفعليا دفاعا عن مظلومية مدعاة للجنس الأبيض في أمريكا، وظهورا لنزعات شبه نازية ضد جماعات السود والملونين الزاحفة سكانيا، وكان انتخاب باراك أوباما الملون رئيسا قبل أقل من عقدين، نذير شؤم عند البيض المتعصبين، وهم مع ترامب اليوم في مواجهة مع الملونة هاريس ذات الأصول الهندية الافريقية، المستندة إلى تأييد حار من أوباما نفسه، وتبدو كأنها طبعة نسائية من أوباما.
وهو ما يزيد من استثارة نزعات تفوق العرق الأبيض المظلوم في زعمهم، رغم دوره الأول في تأسيس أمريكا بعد إبادة الهنود الحمر واضطهادهم العبيد السود، ما يبرز طابعا ثأريا وراء التنافس الانتخابي الرئاسي الراهن، وتآكل الأجنحة المعتدلة في الحزب الجمهوري، وتحويله إلى حزب خاص ملاكي لشخصية ترامب العنصرية المتعجرفة، التي تربط عودة ما تسميه أمريكا عظيمة مرة أخرى باسترداد العظمة للجنس الأبيض، وتنفر من موزاييك أمريكا المتعددة الألوان، وتخشى من تنامي الهجرة الشرعية وغير الشرعية المدمرة لسيادة البيض، فوق تنمية نزعات التعصب الديني البروتستانتي، وفئاته الإنجيلية الأكثر تعصبا لأولوية التوراة والعهد القديم، بما فيها نزعة الصهيونية المسيحية، التي تعطي أولوية دينية لدعم الكيان الإسرائيلي، وهدم المسجد الأقصى، وإقامة ما يسمى هيكل سليمان الثالث مكانه، وتسييد وضع يهودي، يهيئ الظروف المطلوبة لعودة السيد المسيح ثانية إلى الأرض، وقيادة حرب هرمجدون الأخيرة ضد العرب والمسلمين عموما.
ومن هنا نفهم، كيف أن ترامب الملياردير المقاول غير المبالي تقريبا بالأديان، يضع استقطاب مشاعر الصهيونية المسيحية إلى صفه الانتخابي، ويرى أن إسرائيل الحالية صغيرة جدا، وأنه لا بد من توسيعها، وقد سبق له أن أيد ضم القدس والجولان لهذه الـ”إسرائيل”، ولن يعجب أحد إن فاز برئاسة ثانية، وأعلن تأييده لضم الضفة الغربية وغزة رسميا إلى هذه الـ”إسرائيل”، وربما مساعدة اليمين الصهيوني الديني في ضم مناطق من أقطار عربية مجاورة لهذه الـ”إسرائيل”، ما يدفع بنيامين نتنياهو لانتظار قدوم ترامب مجددا إلى رئاسة البيت الأبيض، مع حماس حكام وأنظمة عربية لانتظار ترامب أيضا، وكثير منهم حلفاء موضوعيون لنتنياهو وإسرائيله، فوق أنهم يجدون في ترامب شخصية مناسبة أكثر لأوضاعهم الداخلية.
فهو لا يكترث لحقوق الإنسان التي يدهسونها، وهو رجل يمكن شراء ذمته بفوائض مليارات البترول، وقد لا تبدو هاريس وحزبها الديمقراطي أفضل من ترامب بالنسبة لقضايانا، رغم أن هاريس تبدو أقل فجاجة، وتتخفى كعادة الرؤساء الديمقراطيين الأمريكيين وراء شعارات بمظهر براق، قد تخدع بعض الأوساط الشعبية العربية.
لكنها لا تختلف في الأثر والجوهر العملي، فهم يتحدثون أحيانا عن بعض الحق الفلسطيني، لكنهم يربطون أحاديثهم بنيل رضا وموافقة إسرائيل أولا، كما في أحاديثهم مثلا عن الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة، لكنهم يربطون الأمر كله بشروط إسرائيل، التي لن ترضى طوعا أبدا بإقامة أي كيان فلسطيني، وقد كان أوباما وبايدن ـ مثلا ـ على خلاف شخصي مع نتنياهو، لكنهما قدما إليه كل أنواع الدعم بالمال والسلاح والتأييد في المحافل الدولية، فالحقيقة القديمة المستجدة تبقى مؤكدة، وهي أن إسرائيل هي أمريكا في مطلق الأحوال، وإلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا عندنا قبل واشنطن.