“منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني” تطلق مشروع تقرير سياسي دولي/ عربي/ لبناني حول الوضع الراهن
“المدارنت”..
مسرح الصراعات الدولية
ـ لا يزال النظام العالمي يشكل شبكة واحدة مترابطة يتربع على قمتها قطب رئيسي يخوض صراعا مفتوحاً مع شركائه، في صيغة حرب باردة بين القوى العظمى، يتخللها حروب ساخنة موضعية في العديد من المناطق، قابلة للتطور والتوسع على نحو يُبقي خطر حدوث حرب عالمية تطال مناطق ودول عديدة في مختلف القارات أمراً قائماً. خاصة وأن الولايات المتحدة الاميركية التي تتربع على رأس النظام الراسمالي العالمي، وبالرغم من أزماتها المتعددة، لا تزال تتحكم به، بقوة اقتصادها وجيوشها وقواعدها التي تنتشر في شتى أرجاء العالم. وهذا ما يعطي الاقتصاد الاميركي بفروعه وعملته الورقية قوة اضافية على نحو يمكنها من تجاوز أزماتها، ومن إدارة ثروات العالم وفقاً لمصالح هيمنتها. يضاف إلى ذلك قدرتها على صناعة وتسويق الاعلام والثقافة النيوليبرالية المهيمنة راهناً على الصعيد العالمي، والتي تطال سائر الطبقات الاجتماعية، بما فيها الطبقات الدنيا من الفقراء والمهمشين الذين يشكلون الغالبية العظمى من البشرية. ما يعني أن الامبريالية لم تعد مجرد سيطرة اقتصادية وعسكرية، بل هي هيمنة مالية وثقافية واعلامية، تتجاوز على سائر الاقتصادات والثقافات الوطنية المحلية. وفي هذا السياق كانت الهجمة ومحاولات الارتداد التي شهدتها البلدان الرأسمالية المتقدمة على مكتسبات الديمقراطية على الصعيدين السياسي والاجتماعي جواباً على أزماتها، التي ساهمت في نهضة تيارات قوى اليمين المتطرف وصعود الحركات العنصرية والفاشية إلى السلطة في العديد من تلك البلدان. الأمر الذي وضع التيارات الديمقراطية وقوى اليسار أمام تحديات تجاوز أزماتها البنيوية المتعددة الأوجه، والعودة إلى ميادين المواجهة السياسية والاجتماعية، وإعادة النظر برؤاها الفكرية وبرامجها وأدوارها ودينامياتها.
ـ لقد كشفت الحرب الروسية الاوكرانية هشاشة الحياة السياسية الروسية، وهزال مؤسسات الدولة وغياب استقلاليتها والديمقراطية عن مركز القرار، بالاضافة إلى تركيبة نظام الحكم وطبيعته الاستبدادية. يؤكد ذلك ضعف الاقتصاد الروسي الذي يعتمد على تصدير النفط والغاز والقمح، في موازاة تراجع تصدير الاسلحة. ورغم أن السلطات الروسية المحاصرة بالعقوبات الاقتصادية والسياسية، قد فشلت في تحقيق أهدافها من الحرب على أوكرانياً. فإنها لاتزال تفتقد خطة واضحة للخروج منها، فيما هي تواجه راهناً خطر الانهيار وفقدان السيادة والتفكك بفعل تجدد الصراع على السلطة، وانعدام قدرة قواتها على صد ما تتعرض له قواتها في المناطق التي احتلتها، وانتقال الهجمات الاوكرانية إلى داخل اراضيها وصولا للعاصمة موسكو. وفي هذا السياق يمكن القول إن أهم انجازات روسيا في تلك الحرب كانت توحيد الغرب بقيادة الولايات المتحدة في مواجهتها، بالاضافة إلى الدمار الهائل الذي حل بمناطق الاشتباكات، والذي اصاب البنية التحتية والمدن الاوكرانية على نحو شبه كلي.
ـ أما العلاقات الاميركية ـ الصينية، التي شهدت سلسلة من التواترات بدأت على الصعيد الاقتصادي، باعتبار الصين أهم منافس استراتيجي لها على الاسواق والمواد الاولية، وعبر محاولاتها المتكررة لتشكيل منظمات اقليمية او دولية بقيادتها. ومن خلال مشروع “طريق الحرير” وغزو الاسواق الافريقية والخليج العربي واستغلال الحصار المفروض على ايران وروسيا، لتأخذ لاحقا صعيدا سياسيا ما واجهته اميركا باستعادة راية حقوق الانسان والتعددية المفقودة والاقليات المضطهدة. جرى ذلك وسط تصاعد التحذيرات من مغبة التحالف الصيني – الروسي في الحرب مع اوكرانيا. قبل أن يتجدد الحوار بين الطرفين راهناً، في اعقاب التوتر السياسي والاستنفار العسكري بشأن مصير تايوان، وآثاره السلبية على الاقتصاد الصيني وحاجته للاستقرار وللاستثمارات الخارجية وخاصة الاميركية منها.
ـ وامام العجز عن معالجة أزمة النفط والغاز والتنافس على الاسواق والمواد الاولية التي تلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي، خاصة في المراكز الرأسمالية المتقدمة، فإن الصراع الدولي القائم على الصعيدين السياسي والاقتصادي، مرشح لمزيد من التصعيد والاحتدام على كل المستويات، يؤكد ذلك انفلات صراعات النفوذ والهيمنة في صيغة صراعات وحروب أهلية مستعرة، لاسيما في منطقة الشرق الاوسط وأفريقيا واميركا اللاتينية.
ـ وفي ذروة توتر العلاقات بين الولايات المتحدة الاميركية والسعودية بشأن العديد من القضايا الثنائية، وأزمات المنطقة وحول مستويات إنتاج واسعار النفط، في موازاة الحصار الخانق الذي تتعرض له ايران، برز الدور الصيني سواء تحت راية الانفتاح السعودي على الصين، أو من بوابة استغلال الاخيرة لحاجات النظام الايراني للافلات من الحصار المفروض عليه. وفي امتداد الاتفاقات الاقتصادية السعودية والايرانية مع الصين، نجحت الاخيرة في رعاية توقيع اتفاق اعادة العلاقات بين البلدين في بكين. وهو الاتفاق الذي لم تتعدَ مفاعيله وقف التدخل في الشؤون الداخلية لكل منهما. ما أتاح لهما فرصة اعادة تموضعهما وترتيب أوراقهما بشأن سائر أزمات المنطقة التي هي موضع خلافات مستفحلة بينهما، دون الوصول إلى مرحلة البحث بينهما عن تسويات دائمة لها. وعليه، تكشَّف أن الدور الصيني في المنطقة لم يكن يستحق كل الضجيج الذي رافق الاتفاق، جرّاء استمرار الدور الايراني محركاً لأزمات المنطقة ككل، والاطماع الايرانية المتعددة الأوجه، وآخرها حول ملكية حقل الدرة النفطي مع السعودية والكويت، وقبلها الجزر الثلاث للامارات العربية طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى.
ـ إن فشل النظام الايراني في الافلات من الحصار والعقوبات، وانفجار أزماته الداخلية وعجزه غير المسبوق عن السيطرة عليها، دفعا به للعودة إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة التي لم تتراجع عن شروطها لتوقيع الاتفاق النووي معه، والذي يشمل الاسلحة البالستية الاستراتيجية ودوره في اشعال أزمات المنطقة التي ساهم في تأجيجها. وهي المفاوضات التي لا تزال موضع مد وجزر من قبل الطرفين، سعياً منهما إلى توظيف مفاعيلها داخلياً في الانتخابات الرئاسية القادمة. في وقت بدأت فيه الادارة الاميركية إعادة النظر بما كان عليه دورها ومشاركتها في أزمات المنطقة، وعدم الانسحاب منها أو الاكتفاء بوضعية المواكبة لها. ما دفعها إلى العودة لتعزيز وجودها العسكري والأمني الاستراتيجي وتزخيم دورها السياسي، وتفعيل إدارتها العامة وتدخلاتها فيها.
ساحات الاوضاع الاقليمية
ـ بعد تأزم استمر طويلاً في العلاقات التركية الاميركية واستطراداً مع اوروبا وحلف الناتو، جرّاء اختلاف الموقف حول العديد من أزمات المنطقة، على رافعة المسالة الكردية والعلاقة مع حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي دفع بالنظام التركي الى الانفتاح على روسيا على أكثر من صعيد، بما فيه الأزمة السورية والتنسيق مع ايران بشأنها، وصولا للحرب الاوكرانية، ورفض الموافقة على انضمام دولتي السويد وفنلندة الى حلف الاطلسي. لينتهي الامر راهنا في ضوء التطورات وبنتيجة تعهدات الجهات المعنية، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية وفوز اردوغان، إلى عودة العلاقات الاميركية التركية إلى سياقها الاصلي مع أميركا ودول اوروبا بما فيه علاقاتها بحلف الناتو.
ـ وفي سياق تبدّل الموقف التركي وتوقف التنسيق مع روسيا. وبالتزامن مع الاستنفار والتحشيد العسكري الاميركي في الخليج العربي والمحيط الهادىء. كذلك في العراق وسوريا، في موازاة تصعيد الاستفزازات المتبادلة هناك مع القوات الروسية، يأتي التهديد الاميركي بإقفال الحدود العراقية السورية. ما يعني قطع طريق الإمداد البري الايراني إلى سوريا ولبنان على السواء. في موازاة استمرار وتصعيد وتيرة الغارات الجوية والصاروخية الاسرائيلية التي تستهدف مواقع ومراكز الميليشيات الايرانية والتنظيمات التابعة لها في سوريا، كما تطال المرافق العامة التي تستخدمها بموافقة النظام السوري. في وقت تشهد فيه العلاقات بين الإدارة الاميركية والحكومة الاسرائيلية اضطراباً غير مسبوق، على خلفية وصول اليمين الصهيوني المتطرف للحكم، وسعيه لإقرار تعديلات قضائية تنال من الديمقراطية المُدَّعاة للدولة العبرية في ظل تصاعد الانقسامات المجتمعية والصراعات الاسرائيلية الداخلية التي دقت أبواب المؤسسات العسكرية والأمنية.
ـ في المقابل تتابع حكومة اليمين المتطرف بقيادة نتانياهو، استغلال الانقسام الفلسطيني حول برنامج المواجهة مع سياساتها، والأداء المغامر من قبل بعض الاطراف التي تستخف بمخاطر سياسة القمع والعدوان التدميرية، التي تمارسها بدعم اميركي وتواطوء دولي ضد الشعب الفلسطيني، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية والقدس، وتنفيذ أوسع عملية بناء للمستوطنات على نحو يجعل خيار حل الدولتين مشروعاً مستحيلاً. فيما تتابع الإدارة الاميركية جهودها الحثيثة لتكريس نهج التطبيع الاسرائيلي مع الدول العربية، وسعيها الدؤوب لتحقيق ذلك مع السعودية، على رافعة القبول المبدئي بالعودة الى الاتفاقات الاستراتيجية العسكرية والأمنية معها، وإمكانية حصولها على اسلحة استراتيجية ومفاعلات نووية في المستقبل.
ـ وفي اعقاب موسم طويل من التوتر والاضطراب مع السعودية والامارات ومصر، وعلاقاتها الراسخة مع قطر. شكلت زيارة الرئيس التركي لهذه الدول تزخيما لعودة العلاقات إلى سابق عهدها. وتلا ذلك زيارة الرئيس الفلسطيني لأنقرة واللقاء مع قيادة حماس. الامر الذي رأت فيه القيادة الايرانية، مشروع تشكل جبهة مواجهة معها في أكثر من ساحة بدعم ورعاية اميركية، سواء في العراق حيث لا يزال الصراع قائما بين ايران واميركا على الإمساك بالقرار السياسي، أو في اليمن نظراً لرفض ايران وضع حد لتدخلاتها ودعمها للحوثيين، في موازاة انفجار الخلاف معها حول حقل الدرة. ولا يختلف الامر عنه في الساحة السورية حيث تتصاعد الحشود الاميركية، وتتجدد الاحتكاكات على سائر جبهاتها بين الاطراف المحلية والقوى الدولية والاقليمية، في وقت تعثرت فيه مسيرة تطبيع الدول العربية مع النظام السوري، جرَّاء عدم استجابته لشروطها، التي تتعلق بالحد من الدور الايراني والحوار مع المعارضة وقضية عودة النازحيين السوريين ووقف انتاج وتهريب المخدرات.
ــ من الواضح أن المعطيات والوقائع القائمة، تشي بأن الحروب والنزاعات الاهلية في سائر مناطق العالم، بما فيها المنازعات بين الدول العربية والأزمات المتفجرة في العديد من دواخل بلدانها، مرشحة للمزيد من الاحتدام، في ظل عجز قواها المحلية عن انتاج تسويات الحد الادنى التي تمكِّن مجتمعاتها من العودة إلى الاستقرار، الذي افتقدته جرَّاء انعدام قدرتها في السيطرة على مشكلاتها، بفعل غياب الحد الادنى من حصاناتها الوطنية والمجتمعية وبقائها أسيرة بناها المتخلفة، وتحولها ساحات مفتوحة لكل انواع التدخلات الدولية والاقليمية. ما ساهم في تعميق ازماتها الكيانية البنيوية، وشكّل ولا يزال، تهديداً لمصائرها، كما هو الحال راهناً في العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان ولبنان..
ــ وفي الاطار عينه، يتصاعد العدوان الاسرائيلي الذي يستهدف تصفية القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، وقطع الطريق على أي تسوية محتملة بشأنها، بما يفتح على بشنهاومنع إقامة دولته الوطنية المستقلة على ارضه، واستغلال انقسامات قواه وعجزها، بما فيها سلطته الوطنية عن الاتفاق على برنامج الحد الادنى للمواجهة، وملاقاة نضالات الشعب الفلسطيني وتضحياته البطولية دفاعا عن قضيتة ووجوده على أرضه.
الصعيد اللبناني ومأزق “الثنائي الشيعي”
ــ بلغت الأزمة اللبنانية التي تعصف بالكيان والنظام وبنى الدولة والاقتصاد والمجتمع مرحلة بالغة الخطورة، مع تصاعد الاشتباك السياسي بين اطراف السلطة، وبشكل محموم ومستميت لإثبات قدرة كل منها على تعطيل مخططات الطرف الآخر، ومساعيه لتكريس دوره وفرض هيمنته الطائفية أو الفئوية. أما المحصلة الاجمالية فهي تعطيل جميع الاستحقاقات، والاطاحة الكاملة بالقطاعات الاساسية التي تشكل ركائز ومقومات وجود الدولة، بما فيها مؤسسات الحكم وإعادة انتاج السلطة وأجهزة وأداء وخدمات الادارة العامة والقضاء والقطاعين المصرفي والتعليمي الرسمي..، وسط محاولات متكررة لتعطيل عمل الأجهزة الامنية والتشكيك بدور وأداء الجيش وقيادته، ومحاصرتهما للاجهاز على ما تبقى لهما من دور راهن وفي المستقبل. ما يعني عودة البلد إلى مرحلة ما قبل تاسيس الكيان والدولة..
ــ وما يزيد في خطورة الوضع، أن الطبقة السياسية التي تدير البلد ليست بوارد، ولا من مصلحتها أصلاً إعادة النظر بادائها وممارساتها الفئوية من مواقعها الطائفية في اطار نظام المحاصصة الذي بات البلد يُحكَم بموجبه. وهو النظام الذي ساهم ولا يزال يزخِّم إعادة إنتاج الأزمات والانقسامات الأهلية حول مختلف قضاياه وشؤونه، بالاضافة إلى تشريع التدخلات الخارجية بأوضاعه، وإحالة معالجة أزماته عليها في ظل حالة الانسداد الداخلي التي تعززها موازين القوى الراهنة، ويكرسها الترابط المستدام والمحكم بين العوامل الداخلية والخارجية. الأمر الذي أدى إلى بقاء البلد ساحة اشتباك سياسي متشابكة مع أزمات المنطقة المتفجرة، على نحو يصعب معه ولادة تسوية تلجم الانهيار، وتضع حداً للفوضى المستشرية، وتفتح الأفق أمام الخروج من أزمة الفراغ الرئاسي المرشحة للاستطالة.
ـ وما يعزز هذا الاحتمال، القراءات المختلفة لبيان اللجنة الخماسية الأخير، الذي أعاد التذكير بشروطها الاصلاحية ومواصفات الرئيس الانقاذي. كما تجاهل المبادرة الفرنسية التي ترى في الاستجابة لشروط حزب الله مخرجاً من مأزق الفراغ الرئاسي، ومدخلاً لضمان مصالحها في لبنان ومع العراق وايران. ويؤكده ايضاً، مسلسل تبادل الاتهامات، بين اطراف السلطة على نحو يتجاوز المسؤولية عن التعطيل وحماية الفساد والصراع على الصلاحيات ودور الحكومة والمجلس النيابي في ظل الفراغ الرئاسي، إلى تهم التخوين والتآمر مع اميركا واسرائيل لنشر الفوضى للنيل من حزب الله. مقابل اعتبار الاخير احتلالاً ايرانياً مقنَّعاً للسيطرة على لبنان وربطه بمشروعها الاقليمي. شكل ذلك تصعيداً في التضليل السياسي وشد العصب الاهلي لتزخيم حالة الانقسام، وتغطية وتبرير المشاريع الفئوية، لتكريس مقولتي: “الشعوب الطائفية” و”استحالة وحدة أو اتفاق اللبنانيين”، بذرائع فائض قوة حزب الله وسلاحه وحكم الامر الواقع، مقابل إعلاء راية مشاريع اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة والفدرالية بين الطوائف. ولذلك وفي موازاة الاحداث الامنية المتنقلة شهد البلد موجة عاتية من التعبئة الحربية، التي يستسهل اصحابها العودة للحرب الاهلية، من خلال الاستقواء بالخارج ودعوة بعض قواه لإدارة أوضاع البلد، ومطالبتها صراحة بتنفيذ القرارات الدولية كما ورد في بيان ما سمي بـ “المعارضة النيابية” المزعومة.
ــ وفي المقابل أخذ مسار التصعيد من قبل حزب الله ابعاداً خطيرة. خاصة في أعقاب رفض الخارج الدولي والعربي تقديم أي ضمانات لدوره وسلاحه، رغم مساهمته المكشوفة في تمرير ترسيم الحدود البحرية مع “دولة اسرائيل” برعاية وضمانات الولايات المتحدة الاميركية، وإقراره بخضوع البلد لنفوذها. وفي مواجهة عمل قوات الطوارىء الدولية وشروط التجديد لها وفق مندرجات القرار 1701. وفي ظل تحميله من قبل الجهات الخارجية القسط الاكبر من المسؤولية عن الانهيار وتعطيل الاستحقاقات الدستورية. ومن ثم في ضوء عجزه عن ايصال مرشحه الرئاسي إلى الحكم في ظل موازين القوى السياسية الراهنة داخلياً، ورفض خصومه وشركائه في السلطة دعواته لحوار يكرس هيمنته بقوة الامر الواقع، ورداً على فشل المبادرة الفرنسية التي تستجيب لطموحاته في إنهاء الشغور الرئاسي لصالحه.
ـ ولذلك تعمد الحزب استحضار كل الذرائع المتاحة له، لتغطية مشروعه ودوره وممارساته في الداخل والخارج، ولتبرير بقاء ترسانته العسكرية بدعاوى حماية لبنان من “الإرهاب الأصولي” والدفاع عن حدوده وتحرير اراضيه المحتلة، وضمان حصوله على ثروته النفطية، رغم مساهمته في التفريط بحقوقه ومصالحه. بالاضافة إلى التمويه على حصته من المسؤولية عن الانهيار الشامل والمشاركة في إنتاج وتعميم الفوضى، وتغطية أهدافه الفئوية وعجزه عن تمريرها. ولذلك اتخذ التصعيد مستويات عدة، بدأت مع تنظيم المناورات والعراضات العسكرية العلنية. وتسهيل عودة لبنان ساحة لبعض تنظيمات المقاومة الفلسطينية الاسلاموية المسلحة تحت شعار وحدة الساحات، مما يشكل ذريعة للتهديدات الاسرائيلية. إلى استحضار مشكلات ترسيم الحدود البرية من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، إلى الجزء اللبناني من قرية الغجر السورية المحتلة. مروراً بالامعان في مصادرة قرار السلم والحرب مع العدو الاسرائيلي، والاستهانة بمصير البلد باعتباره ساحة مرتهنة لسياسات ومصالح محور الممانعة، واستسهال دفعه لخوض حروب مدمرة لا قدرة له على تحمّل اعبائها ونتائجها، وتعريض ما تبقّى من الدولة والمؤسسات لمخاطر الدمار والخراب الكامل.
ــ ومع عجز سائر الاطراف عن تمرير خياراتها الرئاسية، واستمرار الاشتباك المستعر حول صلاحيات حكومة تصريف الاعمال والمجلس النيابي، واحتدام المنازعات بشأن سائر الملفات وآخرها تعيين حاكم للمصرف المركزي وإحالة إدارته على نوابه. يتجدد يومياً رهان تلك القوى على نتائج الصراعات والحروب المتداخلة المحتدمة ومصير الأزمات في المنطقة، وعلى حركة الاتصالات بين الجهات الاقليمية والدولية المتدخلة فيها، وعلى احتمال حصول مفاجآت داخلية أو خارجية تؤثر في مسار الأزمة اللبنانية وحالة الفراغ والتعطيل المستدام، علّها تمكن أي من تلك الاطراف في دفع الاخرين للرضوخ والقبول بشروطه. وفي هذا السياق، يحرص الحزب بكل الوسائل على تحصين ثنائية التمثيل الشيعي، وتمكينها من التحكم بسائر مؤسسات الحكم. بدءاً من رئاسة الجمهورية، والتشبث بمرشحه، رغم افتقاده للتغطية في بيئته المسيحية. إلى محاولة تكريس الدور التشريعي للمجلس النيابي في ظل الفراغ الرئاسي. بالاضافة إلى مصادرة صلاحيات حكومة تصريف الاعمال ورئيسها، ورهن انعقاد جلساتها والقرارات التي تصدر عنها لإرادة حزب الله و حركة أمل، اللذين يفتقدان راهناً القدرة على التواصل مع سائر قوى السلطة ومرجعياتها الطائفية، باعتبارهما شركاء في تعطيل جلسات انتخاب رئيس للجمهورية وتغطية الفراغ.
ـ يؤكد ذلك، حرص حزب الله على عدم القطيعة مع التيار الحر وعودة التواصل معه، بأمل ايجاد مخرج لمأزق كليهما في ظل تباين اهدافهما وعجزهما عن التوافق بشأن رئاسة الجمهورية على صيغة تضمن مصالحهما. إن لناحية حماية ما حققه التيار من مكاسب خلال سنوات العهد العوني تحت راية استعادة حقوق المسيحيين، أو لجهة الفوز بتعهدات تضمن له مكاسب إضافية في المستقبل لتغطية وتبرير تجديد تحالفه مع الحزب، الذي يسعي جاهداً لتكريس هيمنته الطائفية والفئوية وتشريع تحكمه بالبلد ومؤسسات الحكم والدولة باعتبارها أمراً واقعاً، ضمانة محلية وخارجية لدوره وسلاحه. في المقابل تحاول قيادة التيار ورئيسه بكل الوسائل الالتفاف على مأزقه والبحث عن مخارج لأزمته وخطر تفككه. ولذلك خاض معركة استدراج خصومه في الساحة المسيحية إلى خياراته تحت راية التقاطع على مرشح مواجهة مع الثنائي الشيعي، فيما المضمر هو فتح الباب مواربة لتجديد قنوات التواصل والحوار الذي لا يزال قائماً مع حزب الله، سعياً من الطرفين للاتفاق، ولقطع الطريق على امكانية وصول قائد الجيش لسدة الرئاسة.
باقي القوى… واستعصاء الخيارات
ــ لا يختلف مأزق القوات اللبنانية عن بقية اطراف السلطة، سواء في البحث عن السيادة في الخارج، أو في ما خص معركة رئاسة الجمهورية، وعجزها عن تسويق أي مرشح خارج دائرة حلفائها والملتحقين بها. في موازاة فشل محاولات استقطاب نواب آخرين للتحالف معها من الذين يخاصمون حزب الله، وتحديدا نواب السُنة والتغيير، رغم الضغوط السياسية والحملات الاعلامية التي تستهدف إلحاقهم بخيارات القوات وبموقعها الطائفي والفئوي في آن. وهي التي لم تغادر دائرة التشكيك بمواقف التيار الحر وأدائه، وسط بازار مفتوح من المواقف الشعبوية وشد العصب الطائفي، والتشدد اللفظي حول الأزمة ومحاربة الفساد والاصلاحات واولوية انتخاب رئيس للجمهورية. مما يشكل الوجه الآخر لخطاب حزب الله بذريعة رفض مرشحه. وفي امتداد ذلك، لم يكن مفاجئاً أن يستعيد حزب الكتائب هو الآخر خطابه السياسي من موقعه الطائفي التاريخي بعد تعثر محاولاته لتشكيل لقاء نيابي يجمع تلاوين معارضة لخوض معركة الرئاسة، الامر الذي أعاده إلى دائرة التنسيق مع القوات اللبنانية.
ــ في المقابل بقي الحزب الاشتراكي الطرف الاكثر دينامية في ترتيب شؤونه القيادية الداخلية بسلاسة، كما في توازنه السياسي العام بحثاً عن تسوية وسط أفق مسدود داخلياً وخارجياً، وفي التعبير عن قلقه حول مصير الكيان، واستشعار الخطر الوجودي الذي يهدد مستقبل ودور مكوناته الطائفية خاصة المسيحية والدرزية منها. وفي هذا الاطار تقع محاولاته المتكررة للبحث عن مخارج تسووية لمأزق انتخابات الرئاسة، في ظل حرص شديد على عدم القطع مع اطراف السلطة المأزومة والعاجزة في الوقت نفسه عن فرض خياراتها الفئوية.
ــ أما الساحة السنية المفككة، فإن محاولات مرجعيتها الدينية بالتنسيق مع السفارة السعودية، لم تفلح في لملمة أوضاعها وبلورة تمثيلها النيابي، وسط استمرار حالة التخبط والعجز، نظراً لعدم وجود قوى أو شخصيات ذات أدوار فاعلة نسبياً، بمكنتها الحد من الخلل في علاقتها مع الآخر الطائفي في السلطة، والتخفيف من سلبيات انهيار تيار المستقبل، الذي لا تزال تتحكم بشراذمه المأزومة وخصومها في آن. الامر الذي انعكس سلباً على وضع رئيس حكومة تصريف الاعمال وأبقاه تحت وصاية طرفي الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل. باعتبارهما الطرفين اللذين يكادان ينفردان في التحكم بإدارة البلد وشؤونه كافة، بقوة التعطيل والفوضى الدستورية وقوة الامر الواقع. بالاضافة إلى قدرتهما معا إلى جانب سائر اطراف السلطة على استغلال العوامل الداخلية، والرهان على صراعات القوى الخارجية وتشابكها المديد مع سائر ازمات المنطقة. وهي التي تشارك في التلاعب بأوضاع البلد وتصعيد أزماته على كل المستويات، من مختلف بواباتها السياسية والاقتصادية والأمنية، ومدخل ذلك كله يتمثل في إطالة أمد الفراغ الرئاسي. وهي الاطراف التي تعتمد سياسات الهروب إلى الامام لحماية مواقعها الطائفية والفئوية، ورفض العودة عن خياراتها الانتحارية. يؤكد ذلك استهانتها بالمصلحة الوطنية اللبنانية وتعريض البلد لأخطار الدمار والخراب، وتصعيد الانقسام الاهلي وتزخيم الاصطفافات الطائفية. إلى جانب تسعير النزاعات مع النازحين السوريين في أماكن تواجدهم، والاستثمار في الانقسام الفلسطيني واستغلاله، بما فيه الاستخفاف بالمخاطر والتهديدات الاسرائيلية وعدم الاكتفاء بالرهان على الخارج، بل مطالبته بتولي حل أزمات البلد. ويدخل في هذا السياق رهان الثنائي الشيعي على الدور الفرنسي، ومطالبة القوات وحلفائها بتنفيذ القرارات الدولية لمعالجة معضلة السلاح ونزعه، مما يضع لبنان تحت وصاية الخارج وإدارته وامام مصير مجهول. وما يزيد من خطورة الوضع تكاثر الحديث عن تطورات وأحداث قادمة تستهدف انضاج الظروف الملائمة عبر تغيير المعادلات القائمة وتعديل موازين القوى في الداخل اللبناني، تمهيداً لصياغة التسوية الممكنة التي تحفظ مصالح الخارج، ويمكن فرضها على قوى السلطة ودفعهم للقبول بها.
قوى المعارضة المستقلة والتحديات امام اللبنانيين
ـ إن ما يجعل التحديات التي تواجه اللبنانيين أكثر صعوبة، ليس تجاوز الخطوط الحمر من قبل قوى السلطة والخارج في التلاعب بأوضاع البلد ومصيره فقط، إنما عجز التيارات الليبرالية واليسارية لقوى المعارضة الديمقراطية المستقلة، عن الانتساب إلى أزمة البلد والتعامل معها على نحو يمكنها من صياغة برنامج الحد الأدنى الإنقاذي، والسعي بالاستناد له لتجميع واستقطاب الفئات المتضررة، عبر استحضار حقوقها المستباحة والمهدورة، باعتبارها صاحبة المصلحة الحقيقية في بقاء البلد وإنقاذه. وهو الهدف الذي لم تحققه تجارب جميع القوى التي استقوت بالخارج، أو التي ارتهنت لتوازنات تيارات واحزاب الطوائف، أو الالتحاق بها ومشاركتها صراعاتها. وهو لن يتحقق سوى بتحمل اللبنانيين لمسؤولياتهم في مواجهة اطراف السلطة، وصولاً إلى محاصرتها، وإجبارها على إعادة النظر في سياستها الفئوية، وممارساتها الميليشياوية والمافياوية في آن، الآن وقبل فوات الآوان. وإلى ذلك الحين فإن الأكلاف التي سيتحملها اللبنانيون أولاً والفلسطينيون والسوريون المتواجدون على أرض لبنان ثانياً، ستكون باهظة الثمن وخطيرة جداً.
ــ لا جدال في مسؤولية اطراف السلطة التي تعاقبت على حكم البلد، عن الأزمات التي تعصف بأوضاعه وتهدد مصيره. وبعيدا عن الاتهامات والتضليل المتبادل وادعاءات البراءة التي لا تقدم أو تؤخر. لا بد من القول إن قوى المعارضة تتحمل هي أيضاً قسطها من المسؤولية عن فشلها في تجميع قواها، والتشكل في اطار يمكنها من القيام بدورها الانقاذي، والتصدي للسياسات المعتمدة في الداخل وللتدخلات الخارجية، والممارسات السائدة التي تعبر عن مصالح اصحابها وتخدم اهدافهم، بعيداً عن مصالح وحقوق الغالبية الساحقة من اللبنانيين والمصلحة الوطنية بكافة ابعادها.
ــ والمسؤولية لا تقتصر على فشل قوى ومجموعات المعارضة في بناء حالة اعتراضية فاعلة، قادرة على التعامل مع ايجابيات انتفاضة تشرين 2019، أو في عجزها عن الاستفادة مما عكسته نتائج الانتخابات النيابية، والتلاقي حول برنامج الحد الادنى لاستعادة ثقة الفئات المتضررة. ولا في تجاوز القراءات التبسيطية لأزمات البلد وقضاياه وتباينها، واستسهال الاعلان عن الاوراق السياسية وعن التشكيلات التي تولد عاجزة، إنما المسؤولية تكمن في إمعان قوى المعارضة احزاباً ومجموعات وناشطين، البحث عن الادوار الاعلامية، وتكرار الشعارات العامة حول القضايا الرئيسية، وإدمان الهروب من مراجعة تجاربهم الفاشلة وعدم تكرارها. ما يعكس مأزق دورها وأزمتها وما تواجهه من تحديات، على نحو يُسهل معه تجاهلها من قبل اطراف السلطة.
ـ ولذلك ليس مستغرباً استمرار حالة التشرذم والهامشية في ساحة المعارضة على نحو فادح ومأساوي، في مقابل الاستهانة المفرطة بها من قبل قوى السلطة، والاستباحة الكاملة لحقوق ومطالب ومصالح أكثرية اللبنانيين، الذين يفتقدون راهنا من ينطق باسمهم، أو يعبر عن معاناتهم والمطالبة بالحد الادنى من اولوياتهم على نحو عام، وعلى الصعيدين الاجتماعي والمناطقي، في وقت تحولت فيه الاطر النقابية المشلولة والمعطلة، إلى هياكل خاوية تتعيّش على ادمان الضجيج وتصدير البيانات الفارغة.
ـ وفي السياق ذاته تُقرأ وضعية نواب المعارضة أو ما يسمى نواب “التغيير”، وحالة الارتباك والتشرذم والدور المفقود في العلاقة مع بيئاتهم الاجتماعية وعلى الصعيد العام، وحصر التنسيق السياسي بين عدد منهم حول معركة رئاسة الجمهورية وعلى الصعيد البرلماني، مقابل التحاق الآخرين بالاصطفافات الطائفية. وما يفاقم مأزق تلك المجموعة من النواب ويعطل فاعليتها الشلل السائد بين قوى المعارضة، التي فشلت لغاية الآن في تشكيل مرجعية جامعة للتنسيق والتكامل بين قواها كافة.
ــ أخيراً ومع دخول البلد مرحلة التفكك والانهيار الشامل على كل المستويات، وسيادة الفوضى شبه المطلقة، على نحو لا سابق له في تاريخه. ومع انسداد الافق جرَّاء انغلاق قوى السلطة، واقفالها الابواب حتى على الحد الادنى من التسويات أو المعالجات لأزمات البلد ومشكلاته، بدءا من رئاسة الجمهورية إلى سائر القضايا والملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ظل غياب الحد الادنى أيضا من التوافق الخارجي لإيجاد مخرج انقاذي للبلد يقيه مخاطر الارتطام الكبير. تبعاَ لذلك، تتأكد حاجة البلد الملحة لحركة معارضة ديمقراطية تعددية مستقلة تستند إلى الثوابت الاساسية التي وردت في وثيقة الوفاق الوطني حول هوية الكيان الوطنية الجامعة المنتسبة للعروبة الديمقراطية، بعيداً عن اشكال وسياسات الإلحاق والوصاية. حركة نضال سياسي اجتماعي على كل المستويات، وذات بُعد اصلاحي ـ انقاذي تساهم في إعادة توحيد قوى المجتمع اللبناني المقيم والمغترب، وتعمل على توحيد فئاته المتضررة لاطلاق مسيرة التغيير والتقدم والحداثة.
ــ وفي هذا الاطار وعلى هذا الصعيد تقع المسؤولية التاريخية لقوى المعارضة الديمقراطية قبل فوات الأوان. وهي القوى التي يجب أن يحتشد في صفوفها النواب والاحزاب والمجموعات الناشطة المستقلين عن منظومة السلطة والخارجين عليها، وجميع الحريصين على انقاذ البلد من مخاطر الانهيار والفوضى، ومن الاصطفافات الطائفية والارتهان للخارج، عبر مسار تراكمي يؤدي في نهاية المطاف إلى انقاذ البلد، بديلاً عن القبول بالأمر الواقع والاستسلام للواقع الصعب، وانتظار المجهول الذي سيقرره الخارج لنا بموافقة اطراف السلطة. وهو مسار بالغ الوعورة، ولكنه يضمن بقاء البلد وطناً قابلاً للحياة لجميع ابنائه ومواطنيه”.