من التفاعل الورقي إلى الاندماج الرقمي!
خاص “المدارنت”/ رصد الكاتب سعيد الوكيل في كتابه: “من النصّ الرقمي إلى نصّ الحداثة الرقمية”، دراسات نقدية في أعمال أدبية، يحصي فيها مجموعة من الظواهر الثقافية والاجتماعية وفهم الأدب ووسائل الإعلام التي تعتمد على استكشاف التأثيرات الاجتماعية والفلسفية من خلال تحليل النظريات والتفاعلات التي تنشأ بينها.
المؤمنون بفكرة النص التشعبي يرون أننا نشهد ثورة في كيفية كتابة الأعمال الأدبية، حيث ينطبق مبدأ تعدد الأصوات الذي أتى به ميخائيل باختين، كما يبدو أن رغبة ميشيل فوكو في حرية تداول النصوص واستعمالها وتفكيكها وإعادة تركيبها تتجسد في هذه الأعمال، حيث يظهر النص كما لو كان عقدة مشتركة داخل شبكة مرجعية متشعبة، إذْ يشير إلى عدم القدرة على تحديد حدود النص وتخومه بسبب اندماجه في نظام معقد من المراجع و النصوص و العبارات الاخرى.
يبدو أن فكرة جان فرانسوا ليوتار حول حركة ما بعد الحداثية، والتي من بين خصائصها إلغاء البناء الهرمي وتساوي أجزاء التجوال بين أجزاء الكل من حيث قيمتها، قد تتجسد في أعمال أدبية تجريبية مكتوبة بأسلوب النص التشعبي. يتم ذلك من خلال إلغاء الخطية في القراءة وتمكين حرية التجوال بين أجزاء العمل، وذلك باتباع الخطوط الاتصالية الملائمة بين مختلف المواقع داخل النصّ.
سبق للناقد الفرنسي جيرار جنيت استخدام مصطلح “المتعاليات النصّية” لوصف العلاقات المختلفة بين النصوص، مما أدى إلى تحديد مفاهيم أساسية مثل التعلق النصي والتناص. لكن مع انتشار النصوص الإلكترونية بقوة في المجال المعرفي، بدأ المهتمون يتبنون مصطلحًا جديدًا هو “التفاعل النصي” بدلاً من “المتعاليات النصّية”، واستخدام “الترابط النصّي” بدلاً من “التعلق النصّي”. السبب في ذلك هو أن العلاقات التي وصفها جينيت كانت ترتبط بشكل خطي بين نصوص متعددة، بينما أدى ظهور النصوص الإلكترونية إلى ظهور علاقات ومفاهيم جديدة في هذا السياق.
في زمن التكنولوجيا الحديثة، لم يعد العالم مجرد قرية صغيرة، بل أصغر من حجرة في بيت، فقد تحول إلى شاشة زرقاء تملأ الفضاء، تتيح لنا الوصول إلى معارف غير مسبوقة وتواصل فوري مع الآخرين في أقاصي الأرض. هذه الحقيقة ليست سوى تجسيد لقوة الخيال التكنولوجي، حيث يشكل الاختراع العلمي الأساس لهذه الثورة، ويعمل الإنسان كوسيلة وغاية لاستخدام هذه التقنيات بما يخدم الجماعة البشرية ويفيد الإنسانية بشكل عام.
تتعدد الجوانب التي تشملها الدراسات الثقافية، حيث تسعى إلى استكشاف عوالم متنوعة تتضمن الثقافات الراقية والشعبية والهامشية، إلى جانب فهم الأديولوجيات والأدب ووسائل الإعلام. تعتمد هذه الدراسات على تحليل النظريات الفلسفية والاجتماعية لفهم تفاعلات وتأثيرات هذه العناصر على المجتمع والفرد.
تظهر في الكثير من الأبحاث في مجال الدراسات الإنسانية عنوانًا يتضمن عبارة “قراءة ثقافية”، مما يشير إلى أن هذه الأبحاث تتمحور حول تفسير وتحليل الظواهر الثقافية. ومن الممكن تصنيف هذه الأبحاث كقراءة نقدية ثقافية، حيث تسعى إلى استنتاجات نقدية تعكس فهمًا أعمق للثقافة وتأثيراتها على المجتمع والفرد.
كما ينظر الآن كيربي إلى الظواهر الثقافية في العالم المعاصر من منظور النقد الثقافي على نحو لا يدعي الموضوعية ولا الانحياز، تجد في كل قراءة تساؤلية للثقافة أو في التحليل الثقافي الذي يستخدم كأداة للكشف عن الأنساق، عنصرًا نقديًا طبيعيًا. فهذا النهج يعتمد على النقد الثقافي كأسلوب لفهم الظواهر الثقافية في العالم المعاصر. يرى الباحث الآن كيربي هذه الظواهر من خلال عدسة النقد الثقافي، ويقف في إطار الثقافة العالمية بموقف يتجنب الموضوعية المطلقة ويتجنب الانحياز لنوع محدد من النصوص.
يتميز نصّ الحداثة الرقمية بعدة سمات تميزه عن النصوص التقليدية، ومن هذه السمات:
* التفاعلية: يتيح النصّ الحداثي الرقمي تفاعلًا مباشرًا مع القارئ من خلال العناصر الرقمية المتنوعة مثل الروابط، والصور المتحركة، والفيديوهات؛
* التعددية: يمكن أن يحتوي النصّ الرقمي على عدة طبقات من المعلومات والأصوات المتنوعة، مما يخلق تجربة قراءة متعددة الأبعاد؛
* الدينامية: يمكن تغيير وتحديث النصّ الرقمي بسهولة، مما يتيح للكتّاب تجديد المحتوى وإضافة عناصر جديدة بشكل مستمر؛
* الانفتاحية: يتيح النصّ الرقمي الوصول السهل والشامل لمجموعات متنوعة من القراء في مختلف أنحاء العالم؛
* الهجينية: يمزج النصّ الحداثي الرقمي بين عناصر النص الكتابي التقليدي والوسائط الرقمية الحديثة مثل الصوت والصورة والتفاعل؛
* الإشراك: يشجع النصّ الحداثي الرقمي على مشاركة القراء والمستخدمين في عملية الإنتاج الثقافي من خلال التعليقات والمشاركات الفعّالة؛
* الديموقراطية: يعتبر النصّ الحداثي الرقمي وسيلة لتعزيز الديموقراطية في عملية الوصول للمعرفة والتواصل بين الأفراد والمجتمعات.
على الرغم من إشارات كيربي المتعددة إلى الأدب والسرد، إلا أنه يعبر عن رأي قاسٍ بشأنه، حيث يتجاهل الكثير من إنجازات الأدب التفاعلي التي تنتمي إلى الحداثة الرقمية. في رأيي، يقدم كيربي رأيه بصراحة من دون مواربة، على عكس طريقته في إصدار أحكام قطعية بشأن العديد من القضايا،يقول “لن يجانبنا الصواب اذ جادلنا في ان الادب الحداثي الرقمي لم تكتب له بعد شهادة الميلاد ،وتعمل هنا حتمية تكنولوجيا ما: التكلفة الكبيرة لإنتاج التلفزيون وصناعة السينما وتخلق ضرورة تحقيق الأرباح ضغطا مستمرا ودافعا لتبني التجديد والابتداع في مواد الانتاج “(كيربي ص 358).
جماليات نصّ الحداثة الرقمية تتمثل في عدة جوانب تجمع بين الابتكار التقني والتعبير الفني، ومنها:
* التجديد والابتكار: يسمح النص الحداثي الرقمي بتجديد الأساليب الإبداعية والتعبيرية، مما يخلق فرصًا جديدة للتجريب والابتكار في عالم الأدب؛
* التفاعل والمشاركة: يتيح النص الرقمي للقراء المشاركة الفعالة والتفاعل مع المحتوى، مما يعزز التجربة الجمالية ويخلق تفاعلًا ديناميكيًا بين الكتاب والقرّاء؛
* التعددية والتنوع: يمكن للنص الحداثي الرقمي أن يجمع بين عدة وسائط فنية مثل النصوص الكتابية والصور والفيديوهات والصوتيات، مما يثري التجربة الفنية ويوسع مدى التعبير؛
* الدينامية والمرونة: يمكن تغيير وتحديث النص الرقمي بسهولة وسرعة، مما يتيح للفنانين والكتّاب استكشاف مختلف الأفكار والتقنيات وتطبيقها بحرية؛
* الوصول الشامل: يتيح النصّ الحداثي الرقمي الوصول الشامل للمحتوى الفني لجمهور واسع من المستخدمين في مختلف أنحاء العالم، مما يعزز التفاعل الثقافي والتبادل الفني بين الثقافات المختلفة.
* التكنولوجيا والجمالية: يدمج النصّ الحداثي الرقمي بين التكنولوجيا والجمالية، حيث يسعى لإيجاد توازن متناغم بين العناصر التقنية والجمالية لإنتاج تجربة فنية فريدة وملهمة.
في الفصل السابع من كتابه: “نحو مجتمع حداثي رقمي”، استعرض كيري بحزن النزعة الاستهلاكية المسيطرة في المجتمعات الغربية، بخاصة المجتمع البريطاني، حيث يتحدث عن تحول ملموس في القيم والمعايير التي كانت تحكم حياة الأفراد في الستينيات، حيث تغيرت تمامًا طريقة تعريفهم لأنفسهم وللآخرين، سواء في محيط العمل أو الأسرة، إلى تعريفهم بوصفهم مجرد مستهلكين يحكمون حياتهم بقرارات استهلاكية متطرفة، وتمييزهم بعبارة “جنون العظمة”.
* باحثة في “جامعة ابن طفيل”/ القنيطرة، المغرب