تربية وثقافة

من «جلحة» بغداد إلى أطفال غزة.. حين يربّي الجرح أجنحة!

“المدارنت”
لم تكن تدرك الطفلة العراقية، ذات السنوات السبع، أنها في لحظة عابرة على رصيف ما، ستصبح مرآة لوطن بأكمله. لم تكن ترتب كلماتها، ولا تحاول أن تكون ذكية أو جذابة. كانت فقط واقفة، كزهرة برية لم يروها أحد، إلا حين مالت الريح وفضحت مكانها.
في أحد شوارع بغداد، كانت كاميرا هاتف تتمايل بين يدي مذيعة، تبحث عن مادة سريعة لمقطع عفوي. رأت امرأة شقراء تمسك بيد طفلتها. الأم كانت لافتة، بيضاء البشرة، شعرها مصفف بعناية، وابتسامتها جاهزة لمقابلة عدسة أي صحافي. أما الطفلة، فكانت هناك تقف بهدوء، ببشرتها السمراء، وبعينيها الكبيرتين اللتين تشبهان ليل العراق حين يتأمل نهر دجلة.
اقتربت المذيعة. نظرت إلى الأم، ثم إلى الطفلة، ثم همست الأم بسخرية وهي تشير إلى ابنتها: «جلحة… جلحة». ضحكت، وكأنها أطلقت نكتة خفيفة لا تستحق التوقف. أما المذيعة، فتابعت السيناريو ببرود احترافي، التفتت نحو المرأة وقالت: «البنية ما تشبهك». وضحكت هي الأخرى كأن الطفلة كائن زائد في اللقطة.
مرت لحظة صمت قصيرة. الطفلة لم تبك. لم تتكلم. لكنها ابتسمت.
ابتسامة كانت تشبه طلقة في صدر الجحود. ابتسامة بريئة، لم تعر الكلمات وزناً، لكنها اخترقت قلوب الملايين لاحقاً. حين نشر المقطع، لم يكن أحد يتوقع أن يتحول إلى زلزال وجداني يهز مواقع التواصل ويعيد تعريف الجمال والكرامة.
الناس لم تر «جلحة»، كما وصفتها أمها. رأوا طفلة، بنظرة تشبه أسئلة الوجود، وضحكة تهز بقايا الطفولة في كل بالغ فقد نقاءه. رأوا الجمال النقي. رأوا الشعر الناعم والعينين اللامعتين، وقرأوا فيهما كل الحب.
فجأة امتلأ الفضاء برسومات، فنان يرسم وجهها على ورق، وآخر ينحت ابتسامتها من ضوء، وثالث يكتب: «التي قالت عنها أمها جلحة.. هي أجمل من الورد».
ثم ظهرت الطفلة في مقابلة لاحقة، تجلس أمام المذيعة وتهزّ قدميها الصغيرتين بخجل. سئلت عن أمها، فابتسمت كأن الدنيا لا تزال جديرة بالغفران، وقالت:
«ماما تحبني… هي تدلعني تقول جلحة ملحة… ما تقصد شي.»
قالت ذلك وكأنها تعتذر للعالم نيابة عن أم لا تجيد التعبير، أو ربما تجيد القسوة أكثر مما يجيد طفل صغير الدفاع عن نفسه. لكنها دافعت. دافعت وكأنها الأم، وكأن قلبها أكبر من خذلان العالم.
تأمل الناس في المشهد، وراحوا يسألون أنفسهم: كيف يمكن لطفلة تربت على قسوة أن تكون بهذا النبل؟ كيف تمسح الدموع لمن كانوا يريدون أن يمسحوا دمعتها؟
كانت «جلحة»، كما نادوها ساخرين، درساً علّمه طفل للكبار. درس في الصبر، في الغفران، في الإدراك العميق بأن الكلمات تجرح أكثر من السكاكين، لكن الضحكة حين تكون صادقة، تداوي ما لا تداويه لغة. ربما كانت تلك الطفلة بحاجة إلى حضن، إلى اعتذار، إلى كلمة «أنت جميلة» تقال بلا تصنع. لكن ما حصل أنها منحت كل ذلك للعالم، دون أن تنتظر شيئاً في المقابل.. الأمهات أحياناً يخطئن. ولسنا هنا لنحاكم أماً. ولكننا نتساءل: كيف ترى في ابنتها ملامح غريبة عنها؟ من رسم لها صورة للأنوثة لا تعترف بالبشرة السمراء؟ ومن أقنعها أن الضحك على حساب ابنتها، لن يسمع صداه.. في المساء، رسم أحد الفنانين وجه الطفلة، ومن حولها كتب عبارة واحدة: «في وجهك سكنت الطيبة كلها». هكذا تحوّلت الطفلة إلى أيقونة لأنها تشبه الكثير منا. تشبه من لم ير، ولم يمدح، ولم يحبّ كما يستحق. تشبه أطفالاً نسيهم العالم في الزوايا.
لكنها لمعت. رغم كل شيء، وصار من كانوا يسخرون، هم أنفسهم يكتبون في التعليقات: «نعتذر منك، لأننا لم نعرفك إلا حين جرحت. ومن كان يتحدث عن أمها، أصبح يقول: «ليتنا نملك من قلبك ما يغفر للآخرين وهم يجرحوننا.»
وفي خضم هذا المشهد، انتصر شيء أعمق من الجمال. انتصر الوعي. هذه الطفلة ليست مجرد طفلة عراقية، هي قصّة كل من كسرت صورته في مرآة الآخرين، وقام ليعيد رسمها بنفسه. كل من وصف بما لا يشبهه، ورفض أن يصدق الوصف. كل من مشى إلى مدرسته ذات صباح، وكلمة جارحة تلاحقه، لكنه مع ذلك أكمل طريقه، وحلم.
هي قصتنا جميعاً، حين كنا صغاراً، نبكي من كلمة، ونخبّئ دمعنا في الدفاتر، ثم نكبر ولا ننسى. لكنها، هذه الصغيرة، قررت أن تبتسم، وتسامح، وتضيء.
في نهاية المشهد، تبقى «جلحة»، كما أرادوا لها أن تُدعى، أجمل من كثيرين. لا لأنها امتلكت ملامح غير مألوفة، بل لأنها لم تسمح للقسوة أن تغيّر روحها.
ومن خلف الشاشات، يتعلم الناس أن أجمل الوجوه هي التي تظلمها الكلمة وتضيئها الروح.

وجوه صغيرة تسند ذاكرة وطن منهك
على شاشة الهاتف، تظهر صورة لصبي في العاشرة من عمره. يسأله المراسل: «إيش تغديت اليوم؟»، فيضحك ضحكة قصيرة، ثم يرد: «ما تغدّيت». لا بكاء في صوته، لا شكوى صريحة، فقط صدق موجع يختصر معاناة شعب بأكمله. لم يكن سؤالاً عن وجبة، بل عن حق مسلوب في أبسط مظاهر الحياة: الخبز.
في صورة أخرى، طفل يمسك قطعة خبز يابسة كأنها كنز. عيناه لا تريان الكاميرا، بل تنظران إلى ما بعد العدسة، حيث لا قصف ولا دمار. عالم وهمي في خياله فقط، فيه بيت وسرير وألعاب.
في إحدى الصور، نرى طفلة تغسل وجهها بماء قليل. تتقن الطهارة أكثر من النوم، تتقن الانتظار أكثر من اللعب. وعلى الجدار خلفها، خطوط من الشقوق التي تشهد على الانفجارات الماضية. في غزة، الجدران لا ترمم، بل تتذكر.
صور كثيرة مرت. في بعضها أطفال يحملون كرات من القماش، لأن الكرات الحقيقية أصبحت رفاهية. في غيرها، يركضون بين خيام مهترئة لا تصلح حتى للشتاء، يركضون وهم حفاة، كأن الأرض عهد بينهم وبين أقدامهم الصغيرة. لا أحذية، لا دفء، فقط الطين يرافقهم كظل.
لكن المفارقة العظمى تكمن في تلك الابتسامة التي لم تمزق. ترى وجوهاً هزيلة، بعيون غائرة من الجوع، ثم تفاجأ بضحكة، بريشة، برقصة عفوية على صوت الرصاص. أطفال غزة لا يعرفون معنى الراحة، لكنهم يعرفون كيف يضحكون رغم كل شيء. وهنا تكمن معجزتهم.
هؤلاء الأطفال ليسوا أرقاماً في تقارير إخبارية.. إنهم قصص حية، تؤرّخ لحرب مستمرة على الطفولة. طفل فقد أمه، وآخر لم ير والده منذ شهور، وثالث يسأل عن معنى كلمة «هدنة» التي تتردد بين أهله دون أن تصل خيمتهم. هؤلاء ليسوا أطفالاً عاديين. هم أبناء الدخان والبكاء، أحفاد الزيتون المحاصر، ورفاق الشموع. فيهم من يشبه شاعراً لم يولد، وفيهم من يخبّئ داخل صدره صوت وطن بأكمله.

مريم مشتاوي/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى