نازحون.. شهود على النار والرماد..!
“المدارنت”..
من يفترشون العشب والشواطئ والأرض ويلتحفون الفضاء اليوم يبحثون عن الأمان لا عن الزهد الذي تحدث عنه الشاعر والفيلسوف جبران خليل جبران «هل فرشتَ العشب ليلاً.. وتلحّفتَ الفضا زاهداً في ما سيأْتي.. ناسياً ما قد مضى وسكوت الليل بحرٌ.. موجهُ في مسمعكْ..»، ليلهم بحر من الخوف وأمواج القلق تتقاذفهم على شاطئ تتكسر عنده الأحلام.
هؤلاء الذين يدفعون أثمان الحروب دائماً أينما كانوا حول العالم، تقطعت أوصال آمالهم وأحلامهم، لا بيوت يعودون إليها، الماضي والذكريات وكل أشيائهم وتفاصيل حياتهم الصغيرة والكبيرة أصبحت مدفونة تحت الأنقاض، والمستقبل مجهول مرهون بوقف إطلاق نار وبنزاعات وصراعات وقرارات وإقرار ورفض وتعنّت وتجاهل وصمـت كونـيّ رهيب.
ليسوا محاربين، لا بندقية على الكتف بل أطفال والقليل القليل مما استطاعوا حمله ليستروا به أجسادهم.. شهود على الحرب، شهود على الدمار، وشهود على النار والرماد.. هل يعلم هؤلاء أن الطغاة لا يشيدون للمساكين والأبرياء بيوتاً بل مقابر، ويصنعون منهم لا لهم دروعاً للحروب؟ وما أكثر الطغاة الذين يدكّون الأرض بحروبهم وبعنجهية وغرور وأنانية قراراتهم وصراعاتهم دون الأخذ بالاعتبار ما سيؤول إليه حال هؤلاء الأبرياء؟ ما همهم لو دفعوا الثمن أكثر من مرة، ولو تشردوا أكثر من مرة، ولو بقي الوطن على كف عفريت لسنين طويلة؟ فالعفريت يعشق التلاعب بالأوطان على كفه وبين أصابعه.
باسم السلام والأمان يشن هؤلاء حروبهم، كيف يولد من رحم الإجرام سلام؟ وكيف ينبت من تحت الرماد زنابق؟ وكيف يشرق من عمق البغض والعنف أمان؟ كل أبناء الوطن الجريح يتعذبون، كلهم يعيشون نفس المأساة ويتشاركون نفس الوجع، وإن اختلفت وجهات النظر، كلهم يشعرون بنفس الغصة والحرقة وكلهم في مهب المجهول. لا المشرد يعرف شكل غده، ولا ساكن منزله ينعم بالرخاء وراحة البال ويمسك قرار أحواله بيده.
يحزنك أن يسرق الطغاة الأضواء ويشغلون كل مساحة البث والأخبار ويتحكمون بالمصائر ويزدادون إصراراً على المبارزة في القتل والتدمير والتباهي بما يصنعون، بينما يصبح أعداد الموتى والجرحى مجرد أرقام في ذيل الخبر، مشاهد الدمار والحجارة المتراكمة التي يخبروننا أنها كانت بيوتاً، يعتبرها طرف نصراً وإنجازاً حقق به ضربة لعدوه والآخر يراها نقطة يضيفها إلى رصيد أسباب الرد بالمثل أو أكثر، لكن أصوات من ماتوا تحتها وعيون من تمكنوا من النجاة والمغادرة تقول حكايات أخرى وحقائق لا يراها ولا يسمعها إلا من يعرف معنى أن تكون إنساناً وأن تكون كائناً حياً لا حائط دفاع ولا آلة من آلات الحرب، حكايات وذكريات وأوجاع لا يسمعها ولا يشعر بها إلا الإنسان المؤمن بالعيش بأمان والمكتفي بالسلام.