نحو حوار شعبي مُلحّ..
خاص “المدارنت”..
فيما يتواصل العدوان الوحشي الإجرامي على لبنان، تشنّه جيوش اميركا والكيان العنصري، مستهدفا لبنان الوطن والقيم والخصائص البشرية؛ يستمر حديث بغيض في دوائر متنوعة عن مسائل مذهبية تخصّ المسلمين “سنة” و”شيعة”.. بينما يتواصل حديث من نوع آخر يطال المصير الوطني للبنان بأكمله، إنما أيضا على قواعد طائفية وخلفيات فئوية غير وطنية..
اما ما يخصّ الوضع المذهبي بين المسلمين، فليس جديدا القول أن فتنة ذات طابع مذهبي بين “السنة” و”الشيعة”، تشكل أحد أعمدة المشروع الصهيو – أميركي، لتفتيت المجتمعات العربية والمسلمة، بإعتبار أن مثل هذه الفتنة تمهد لحرب اهلية بينهم تمتد لسنوات، وربما عقودا من الزمن، يدفع فيها الجميع خسائر ضخمة، ويكون من شأنها تمكين العدو الصهيوني بمزيد من السيطرة والتحكم في توجيه الاحداث وإدارة السياسات في تلك المجتمعات بسهولة أكبر وكلفة اقل، هذا ما تؤكده الوثائق وتدمغه الوقائع بالبرهان، ذاك تخطيط لكل البلاد العربية والمسلمة ولبنان منها بطبيعة الحال..
أما والحال كذلك، فإن لبنان هذا البلد الصغير مساحة وجغرافية وسكانا؛ يحتل مكانة متميزة في هذا الإطار، ليس فقط بسبب محاذاته لأرض فلسطين، وإنما لتكامل الجغرافيا البشرية/ الإجتماعية بينه وبينها، مضافا إليها تعدده المذهبي إسلاميًا، وتحديدا توزع مسلميه بين “سنة” و”شيعة”..
ولما كان هذا التنوع الديني في لبنان، بما فيه الوجود المسيحي الأصيل والعريق؛ يشكل نقيضا مقلقا لأحد مقومات الفكر الصهيوني التلمودي، القائمة على وحدانية الهوية الدينية للكيان الغاصب المحتل بكونها دولة لليهود فقط، ولهذه الاسباب مجتمعة يشكل لبنان أهمية خاصة في نطاق التغول الصهيوني وأخطاره الوجودية الجمّة، ولهذا تركزت مساع صهيونية كثيفة ومبكرة لتقويض وحدته ومؤسسات دولته، وفي مراحل متعددة منذ الإستقلال وحتى اليوم؛ تناوبت طروحات مختلفة ومشاريع عديدة تصب في ذاك الهدف الصهيوني، بعلم من أصحابها أو بغير علم، فشهدت أغلبية أزمنة الدولة ومراحلها إلتزامات فئوية متنوعة أفقدت مؤسسات الدولة مضمونها الإيجابي ودورها الوطني، كما افقدت المجتمع اللبناني صلابة الوحدة ومتانة الروابط الوطنية..
وقد تركزت جهود إقليمية ودولية كثيرة منذ بداية حرب 1975، بهدف تسخيف فكرة الدولة وتجميد فعاليتها، ولا تزال تلك الجهود مستمرة إلى اليوم، وهي كانت تحظى داىما برعاية وتسهيل النفوذ الأجنبي المستحكم في لبنان، والجديد في الامر حالة النزوح الكثيفة التي تتسبب بها الإعتداءات الصهيونية المستمرة..
وبصرف النظر عن إختلاف بيّن في رؤى اللبنانيين للحرب القائمة الحالية، وما يرافقها من عدوان “إسرائيلي” همجي على لبنان؛ يتسبب عمدا في تدمير ممنهج وقتل المدنيين وتهجيرهم؛ فإن بعض ما أدى إليه هذا العدوان كان تهجير مئات الآلاف من اللبنانيين من أبناء الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية والبقاع وبعلبك وقراها – وغالبيتهم من “الشيعة” – ونزوحهم إلى مناطق لبنانية أخرى، يسكنها مسلمون “سُنة” ومسيحيون، على اعتبار أن المستهدف من العدوان هم “الشيعة” – بيئة “حزب الله”، المطلوب القضاء عليه من قبل العدو الصهيوني، كل هذا معروف وواضح، إلا أن مجريات العدوان اليومي تبيّن أنه يستهدف لبنان أرضا وشعبا وميزات..
أما ظهور حالة من التضامن الشعبي مع النازحين وإحتضانهم، فكانت علامة فارقة في مسيرة الوضع اللبناني في المرحلة الراهنة، إنها وإن كانت تدل بوضوح على سطحية كل الطروحات الطائفية والمذهبية التي كانت تبدو عميقة ومستحكمة، غير القابلة للحلّ؛ فإنها تستلزم نهجا وطنيا مختلفا عند جميع الأطراف السياسية والإجتماعية والحزبية، فبمجرد إطمئنان النازح “الشيعي” في الاوساط “المسيحية” أو “السنية”، فهذا يستدعي الإبتعاد عن أيّ طروحات مذهبية – إنقسامية في الوسط “الشيعي”، وتعميق فكرة الإنصهار الوطني كأحد مقومات الوطن المشترك بين جميع أبنائه..
وبمجرد إحتضان الوسط “السني” و”المسيحي”، للنازح “الشيعي”؛ فهذا يستدعي الإبتعاد أيضا عن أيّ طروحات طائفية او مذهبية إنقسامية؛ أكانت أصيلة أو مقابلة؛ والتمسك بفكرة الإنصهار الوطني الذي يشكل أساس البناء الوطني الموحد المطلوب..
إن تثبيت فكرة الولاء للوطن، من دون أيّ ولاءات خارجية؛ تشكل مدخلا حقيقيا وضروريا لإنطلاق مسيرة إعادة بناء الدولة ومؤسساتها الواحدة كتعبير عن وجود وطن واحد مشترك بين جميع أبنائه.
ومن المهم والمفيد التأكيد على تلك البديهية التي غيّبتها العصبيات الفئوية في كل ناحية وصوب؛ والتي تقول أن الإختلاف في الطروحات والرؤى السياسية لا يلغي مقومات الوطن الواحد، طالما بقي الولاء للوطن، كما أن التفاوت الثقافي والإجتماعي لا يلغي تلك المقومات ولا يهز أسسها الموضوعية والتاريخية، فلا داعي لأي حديث عن تميزات إجتماعية كسبب لإنقسام وطني أو تعدد في الهوية، يستجلب تعددًا في المصائر..
فإذا كانت النوايا صادقة راغبة في إستعادة الدولة المضمحلة العاجزة قبل إختطافها أو إخضاعها؛ وهو مطلب لا يختلف عليه – نظريا – أحد؛ فلتكن الأحداث الراهنة وما يصاحبها من متغيرات ليس آخرها مسألة النزوح، والإحتضان والرعاية والتفاعل الإيجابي؛ مناسبة لإعادة النظر في الطروحات السياسية الفئوية ذات الطابع الإنقسامي بمعرفة أصحابها أو بإنكارهم ذلك..
ليس خافيا أو منكرًا من أحد، أن وجود الوطن مهدد برمته، وأن الوقت ليس في صالحه، وأن السكاكين العاملة في تقطيع أوصاله كثيرة متشعبة، فإذا لم تبادر كافة القوى السياسية إلى إعادة النظر في ولاءاتها وطروحاتها ومشاريعها؛ مستفيدة من دلالات الاحداث الراهنة؛ فإن الخطر الوجودي لن يستثني أحدا، ومصير الوطن كله في الميزان.
فبأيّ أركان وطنهم الغالي يتأرجحون، إنهم سَاءَ ما يعملون طالما بقوا خلف متاريسهم الفئوية، طائفية كانت أم مذهبية..
إن إضطرابات ومنازعات تنجاوز الاسلوب المدني السياسي؛ مرشحة للحدوث ما يفتح آفاق حرب داخلية محتملة أو أقله تزايد تعبيرات إضمحلال الدولة، وصولا إلى تقسيم وارد مطلوب لأكثر من جهة خارجية في مقدمتها دولة الكيان الغاصب..
إن نشكيل هيئة وطنية للحوار، تضم إلى كافة أطراف النظام السياسي القائم؛ كل الأحزاب والنقابات المهنية والإتحادات والروابط العمالية من أجل تثبيت مقومات الولاء الوطني وإعادة بناء الدولة وبالتالي إنعاش الوطن، بات مطلبا شعبيا وطنيا ملحا جدا.
وطالما أن التواصل المباشر بين الجميع متاح بفعل النزوح فلما لا تتولى الهيئات النقابية والمهنية الجامعة حوارات شعبية متواصلة تعمق التقارب وتزيد فعالية التفاعل الإيجابي، ولتكن بداية في الاوساط الإسلامية لتجاوز ووأد العصبيات المذهبية وتلك مسؤولية المتنورين من الهيئات الدينية والبعيدين عن المصالح الفئوية بين “رجال الدين”، علها تكون مدخلا لحوار شعبي وسياسي لبناني جاد وأمين ومسؤول..