نـشـــــأة عـــلـــــم الـــدلالـــــــة..
خاص “المدارنت”..
يخطئ من يظن بأن البحث الدلالي حديث الولادة، فالاهتمام بعلم الدلالة – المرتبط تاريخيا بعلوم شتى تطور مع تطور العلوم، لا سيما الإنسانية منها كالفلسفة وعلم النفس وغيرها – قديم تجدد عبر مراحل التاريخ وما زال. فالصراع حول طبيعة العلاقة بين الكلمات ومدلولاتها كان محور جهود المفكرين القدماء، من اليونان والهند والرومان الذين اسهموا من خلال أبحاثهم في تحويل البحث الدلالي إلى علم مستقل له قواعده ومنطلقاته.
لقد شغلت العلاقة بين اللفظ والمعنى علماء اليونان قديما، فافلاطون، يرى أن العلاقة بينهما طبيعية ذاتية وواضحة في بدء نشأتها، لكنها مع تطور الألفاظ لم يعد من السهل تحديد هذه العلاقة بوضوح.
أما أرسطو، فيرى أن العلاقة بين اللفظ والمعنى اصطلاحية حيث فصل بين الصوت (اللفظ) والمعنى، وأن الصلة بينهما مرتبطة بعلاقة عرفية تواضع عليها الناس. ولم يكن الهنود أقل اهتماما في البحث حول العلاقة بين المفردات والجمل ومعانيها، فبحثوا في نشوء اللغة واكتساب المفردات لمعانيها، وتكلموا عن إشكالية نشوء اللغة فهل هي من صنع البشر أم هبة إلهية، كما تحدثوا عن العلاقة بين اللفظ والمعنى فمنهم من رفض فكرة التباين بينهما، واعتبروا أنه لا يمكن فصلهما بأي حال، ومنهم من وجد أن العلاقة بينهما فطرية طبيعية، وآخرين وجدوا تلازما في العلاقة بينهما كتلازم النار والدخان، ومن أهم ما أشار إليه علماؤهم أهمية السياق في إيضاح المعنى ووجود الترادف والمشترك اللفظي، كظاهرة في اللغات عامة. ولم يكن الرومان بعيدين عن هذا الانقسام بين عرفية العلاقة وذاتيتها.
اما عند العرب، فقد بدأ الاهتمام بالبحث الدلالي مبكرا، برز ذلك من خلال ضبط المصحف الشريف، فتغيير ضبط الكلمة يؤدي حكما إلى تغيير وظيفتها وبالتالي تغيير دلالتها ومعناها، فجاء ضبط أبو الأسود الدؤلي، لأواخر كلمات المصحف الشريف، ليشكل نواة أولى نضجت في كتاب سيبويه، الذي حوى دلالات عديدة لمستويات اللغة، كالفونولوجي والمورفولوجي والتركيبي والسياقي، عوضا عن محاولته للربط بين اللفظ والمعنى. ولم تتوقف اهتمامات اللغويين عند هذا الحد، فجاءت محاولة ابن فارس، في معجمه المقاييس لربط المعاني الجزئية للمادة بمعنى عام يجمعها، عوضا عن محاولة الزمخشري، من خلال معجمه أساس البلاغة للتفرقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، ولا ننسى محاولة ابن جني، في الخصائص لربط تقلبات المادة الممكنة بمعنى واحد، وتناول العلاقة بين الألفاظ ومعانيها والمناسبة بينهما..
إن هذه الجهود للقدماء من اليونان والهنود والرومان والعرب، أدت على إرساء قواعد هامة في البحث الدلالي، حولته إلى نمط علمي مستند الى منهج وأصول ومعايير فوُلـِد مصطلح “علم الدلالة”، كعلم يختص بجانب المعنى في اللغة على يد العالم الفرنسي برايل (Breal)، وأصبح علم الدلالة يعنى بتلك القوانين التي تشرف على تغير المعاني، ويهتم بجوهر الكلمات ومضامينها. ومن ثم استبدل أولمان (Ullman)، مصطلح اللفظ بالدال، ومصطلح الفكرة بالمدلول، ليصبح طرفي القضية الدال والمدلول.
ان البحث الدلالي، توسع، وأخذ مسارات جديدة، لتشمل ما هو لغوي وغير لغوي، وتطور تطورا سريعًا، مع كل ما يحمله من تنوع واختلاف، ليكون علمًا مستقلا، له نظمه وقوانينه وسماته الخاصة.
=======================