هجوم “كورسك”.. وآفاق الحرب الروسية الأوكرانية!
“المدارنت”..
شهدت الحرب الروسية الأوكرانية تطورات دراماتيكية خلال هذا الشهر، فقد شنت القوات الأوكرانية هجوماً مفاجئاً ومباغتاً على مقاطعة كورسك جنوب غربي روسيا، في السادس من شهر أغسطس/ آب الجاري.
وعلى عكس التوقعات، والسلوك السابق لتوغلات المجموعات المسلحة الروسية المدعومة من أوكرانيا، يستمر توغل القوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك، وتُحقق تقدماً إضافياً، وإن بوتيرة أبطأ بكثير مما كان عليه الحال في الأسبوع الأول لهجومها.
وتتباين التقديرات الروسية والأوكرانية عن نطاق التوغل للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك، وطبيعته، وحجمه، لكن وفقاً لمصادر متنوعة، فقد تمكنت القوات الأوكرانية من الاستيلاء على عشرات البلدات والقرى في المقاطعة، يقدّر المراقبون مساحتها بنحو 1000 كم2، أي بحجم يعادل ما استولت عليه روسيا من أراضٍ أوكرانية منذ بداية العام الجاري.
وتزعم الحكومة الأوكرانية أنها تمكنت من إنشاء «منطقة عازلة» في كورسك لمنع الهجمات الروسية على أراضيها، الأمر الذي لم تستطع موسكو فِعل مثله في خاركيف منذ بدء هجومها في مايو/ أيار المنصرم، لكن يُلاحظ أن أجزاء كبيرة من مناطق التوغل الأوكراني متنازع عليها بين الجانبين الأوكراني والروسي.
يهدف هجوم كورسك إلى رفع الروح المعنوية للقوات الأوكرانية التي تعاني وضعاً دفاعياً صعباً على طول جبهات القتال (نحو 1000 كم)، وتحويل اهتمام روسيا عن هذه الجبهات لتخفيف الضغط على قواتها في جبهات أخرى، وإضعاف الوضع العسكري الروسي لتحسين الموقف التفاوضي الأوكراني في أية محادثات تسوية مقبلة.
والواقع أن عملية كورسك تُعدّ أكبر هجوم على روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، وكما كشفت عن قدرة أوكرانيا على المفاجأة والمباغتة، أظهرت أوجه قصور تكتيكية لدى القوات الروسية، فقد أدت إلى خلق خط جبهة جديدة (محدودة النطاق) رابعة في الحرب المستمرة منذ ما يقارب ثلاثين شهراً، تأخذ روسيا فيها موقفاً دفاعياً لأول مرة، ودفعت الأخيرة إلى تعديل استراتيجيتها العسكرية، وإعادة نشر بعض قواتها، وبشكلٍ أساسي من قوات الاحتياط، ومن الجبهتين الجنوبية والشمالية – الشرقية، اللتين تتسمان بأن مستوى القتال فيهما ليس شديداً.
تقييم أغلب المحللين العسكريين يذهب إلى صعوبة استمرار احتفاظ أوكرانيا بالأراضي التي سيطرت عليها، ويرون أن عملية كورسك ستكون بمثابة عملية محدودة، ومؤقتة، وأن تأثير التوغل الأوكراني على مسار الحرب محدود حتى الآن، فلم يتمكن التوغل الأوكراني من وقف القصف الروسي الكثيف على المناطق الحدودية الأوكرانية، كما أن توسيع جبهة القتال بنحو 155 كم إضافياً زاد الضغط على كلا الجانبين، وليس على القوات الروسية فقط.
والأهم من ذلك، أن هجوم كورسك لم يغير الديناميكيات في ساحات القتال الرئيسية في شرقي أوكرانيا، وبالتحديد في مقاطعة دونيتسك، حيث تتقدم روسيا نحو مدينة بوكروفسك بشكل حثيث، وهي مركز لوجستي رئيسي أمرت الحكومة الأوكرانية سكانه أخيراً، بالإخلاء الفوري، وتوريستك، وهي مدينة ذات أهمية استراتيجية لموسكو، حيث إنه من الواضح أن روسيا تعطي الأولوية للحفاظ على المبادرة في شرقي أوكرانيا، لإكمال السيطرة على دونيتسك، ومن ثم إقليم الدونباس بأكمله، لذلك، تكثف هجماتها في الجبهة الشرقية، وتواصل تأمين مكاسب ثابتة ومتزايدة، وإن بوتيرة أبطأ.
وفيما عدا ذلك، يستمر القتال الموضعي في الخطوط الأمامية بأكملها، بما في ذلك الجبهة الجنوبية، التي نفذت فيها أوكرانيا سلسلة من الضربات القوية لأسطول البحر الأسود الروسي، وفي المنطقة المحيطة بمدينة خاركيف، علاوة على ذلك، يتبادل الطرفان الضربات الجوية والصاروخية ضد مرافق البنية التحتية، والأهداف العسكرية، واللوجستية، وتتصاعد، بصفة خاصة، حرب المُسيّرات بينهما.
غير أنه من اللافت، وتم تسجيله باعتباره من أبرز التطورات هذا الشهر، هو شن أكبر هجوم أوكراني بالمسّيرات منذ بدء الحرب على موسكو، وعلى الرغم من وجود مؤشرات سابقة أوحت بالتفاؤل بالنسبة لآفاق التفاوض بين الطرفين، وإتمام صفقة تبادل للأسرى (230 أسيراً مناصفة بينهما)، بوساطة إماراتية، تشير ثلة من المراقبين إلى أن هجوم كورسك قد يُعطل الوساطات الدولية، بما في ذلك الصينية والهندية، لوقف الحرب، وقد تواترت التأكيدات الروسية بأنه لا مفاوضات بعد التوغل الأوكراني في مقاطعة كورسك، ومن ثم، تبدو آفاق التسوية السياسية للحرب قاتمة، على الأقل في المرحلة الحالية التي تزداد فيها ضراوة المعارك في أكثر من جبهة قتال.
وكما هو الحال منذ بدء الحرب، يتواصل الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية والدانمارك عن حزمتي مساعدات جديدة لأوكرانيا، وأرسلت ألمانيا نظام الدفاع الجوي IRIS-T SLS لكييف، فيما سمحت بريطانيا للقوات الأوكرانية باستخدام أسلحتها داخل الأراضي الروسية، عدا صواريخ ستورم شادو.
يهدف الدعم الغربي المتنامي لأوكرانيا إلى تقوية قدراتها الدفاعية، لكنه يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة مستوى الصراع بين روسيا والغرب لدرجة مثيرة للقلق، كانت آخر مظاهره اتهامات روسية لدول غربية بالوقوف وراء هجوم كورسك بالتدريب، والسلاح، والاستخبارات.
توسع الحرب إلى كورسك الروسية سيسهم في إطالة أمد حرب الاستنزاف التي تمتلك فيها روسيا موارد تفوق الجانب الأوكراني، كما أن توسع الحرب إلى مناطق جديدة سوف يصب في مصلحة الجانب الذي يتمتع بموارد أكبر، وهو بالطبع روسيا التي لديها 3 أضعاف عدد سكان أوكرانيا، وقاعدة صناعية أكبر.
والخلاصة، أنه من المرجح أن يهيمن التصعيد العسكري على مسار الحرب حتى نهاية هذا العام، ولاسيما جبهتي الدونباس وكورسك، وسوف يستمر القتال الموضعي، ويتواصل الاستنزاف المتبادل على طول خطوط القتال، وقد تظل روسيا وأوكرانيا منخرطتين في حرب موضعية منخفضة المستوى لسنوات طويلة.