مقالات

هذه المبادرات في العراق!

“المدارنت”..
بعد تكاثر الحديث عن تغيير العملية السياسية في العراق، وإبعاد أحزابها وشخصياتها عن السلطة، واستلام عدّة رسائل من الإدارة الأميركية تطلب منها إنهاء أذرع إيران من الفصائل المسلحة والحشد الشعبي وحصر السلاح بيد الدولة، شهدت العاصمة بغداد قبل أيام مبادرات للإصلاح السياسي من أحزاب في العملية السياسية بمكوناتها الطائفية والعِرقية، ودعوات من شخصياتٍ أكاديمية وإعلامية تدعو إلى التغيير الداخلي وإصلاح العملية السياسية من داخل البلد، بدلا من الإملاءات الخارجية المفروضة من الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة ترامب.
فقد أعلن نديم الجابري، وهو نائب سابق ومرشّح سابق لرئاسة الوزراء ونائب أمين عام حزب الفضيلة القريب من التيار الصدري، مبادرة سمّاها مبادرة الإنقاذ، محاطا بمجموعة من أحزاب العملية السياسية، هدفها توعية القوى السياسية وتحذيرها من المخاطر التي تحيق بالعراق، والتي يجب تداركها من الداخل، قبل أن تأتي من الخارج! هذا هو فحوى المبادرة التي قال صاحبها إنها فكرة رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، لكن اللافت أن المجموعة التي سمّاها الجابري شخصيات وطنية وأحزابا واعية لا تضم أي شخصية من خارج المنظومة السياسية بعد عام 2003، لا تضم شباباً ولا نساء، بل سياسيون من الوجوه التي ليس لها شعبية عند الجمهور العراقي، ليحصر صفة الوطنية والوعي فقط بالمشاركين بالعملية السياسية وأحزاب الاحتلال الأميركي الإيراني، وكأنما لا يوجد وطني ولا واع عراقي إلا في هذه الطبقة التي نبذها الشعب العراقي منذ أكثر من عقد؟ كما ادّعى الجابري أن هذه المجموعة من الأصوات ارتأت أن تتحرّك ولا تبقى مكتوفة الأيدي بانتظار ما سيجري في العراق!
السؤال الذي يطرح على صاحب هذه المبادرة من معه، كيف تنادون بالإصلاح وأنت ومن معك جزء من عملية الاحتلال الفاسدة التي رفضها شعبنا بنسبة 80% في انتخابات 2021؟ أين كنتم كل هذه السنين من عمر العملية السياسية المتهالكة التي عملت معاولها لمحو العراق وتدميره، لتطالبوا بالإصلاح اليوم وبمعية أشخاص معروف تاريخهم الملطخ بالفساد والتواطؤ؟
أما الأغرب فأن الجابري الذي يقول، في مقابلة تلفزيونية، إن الطبقة السياسية في عالم آخر، وهي غير مدركة وغير مؤهلة ومتصارعة فيما بينها على المكاسب، يدّعي أنه يمكن له ولزملائه تقديم النصائح لها كي تتصالح مع الشعب؟ كما يدّعي الجابري أيضا أن مبادرته هذه هي الأولى التي تنطلق من داخل العراق؟ متناسياً، وبتعمّد وسوء نية، وهو أستاذ العلوم السياسية، أن الشعب العراقي لم يتوقف عن المطالبة بالإصلاحات، ولا توقف عن التظاهرات والاحتجاجات ضد العملية السياسية منذ عام 2011، ليتوّج احتجاجاته بثورة تشرين العظيمة عام 2019، التي طالبت بجملة من الإصلاحات، هي الأهم بين الاحتجاجات التي شهدها العراق.
وعلقت مطالبها الواحد والعشرين على بناية المطعم التركي، حيث أيّدتها غالبية أبناء الشعب العراقي، لكن زميله رئيس الوزراء السابق، عادل عبد المهدي، قمعها بكل أنواع الأسلحة بمليشيات الأحزاب والحرس الإيراني وقنّاصيه المقرّبين منه، فهل يعتبر الجابري أن هذه الثورة والانتفاضة وطلب الإصلاح، كانت مؤامرة خارجية كما ادّعى عبد المهدي ونوري المالكي وردّدها وراءهم كل أحزاب الاحتلال، ولم تكن ثورة عراقية أصيلة امتدت من جنوب العراق إلى شماله، والتحقت بها ولأول مرة كل المكوّنات والأطياف العراقية، رافعة علم العراق فقط؟
يبدو أن هذه الطبقة السياسية التي استفادت من فساد النظام الطائفي بشكل واسع قد اغترّت بالسلطة والمال السائب والامتيازات غير المعقولة، ولم تعد ترى الوطنية ولا الإصلاح إلا منها ومن أحزابها وقادة مليشياتها الملطخة أياديهم بدم أبناء شعبنا. لذا وبعد أيام من مبادرة الفرصة الأخيرة، جاءت مبادرة ثانية بمسمّى تحالف الشرعية وهو تحالفٌ طائفيٌّ سنيٌّ يضم شخصياتٍ كردية، داعم للعملية السياسية، لكنه يطالب بمظلوميّة المكوّن السنٌي الذي تم استخدامه منهم (سُنة الاحتلال) بطرق وأساليب هي أسوأ من أفعال الأحزاب والمليشيات الأخرى.
ففي حين يتحدّث الناطق باسم هذا التحالف عن معاناة المناطق الغربية منذ الغزو، وعن التغيير الحتمي القادم، لكنه في الوقت نفسه يدعو رئيس المجلس الوطني السابق محمد الحلبوسي الذي أقيل من منصبه بسبب التزوير، وجمّدت أمواله التي حاول إدخالها أخيراً إلى الإمارات، وتبعها قرار تجميد مماثل من الأردن، يدعوه إلى الانضمام إلى هذا التحالف بحجّة أن الباب لا يغلق على من يرغب بالالتحاق بهم؟
أي مصداقيةٍ يريد الوزير السابق محمد الجميلي الذي يرأس هذا التحالف إعطاءها لتجمعه، وهو يعلن، وبصراحة، أنه مستعدٌّ لانضمام، شخصٍ مثل محمد الحلبوسي؟ ومن ثم، كيف يصدّقك الشعب العراقي ويصدّق من معك وأنت تقول بدعم العملية السياسية المنتهية، التي كانت أصل التهجير والسجن والقتل والاعتقال لمئات الآف العراقيين وكنت جزءاً منها ومن كل إجراءاتها، من جهة، ومن جهة أخرى، ترغب حالياً القفز من سفينتها، وترسل رسالة إلى الإدارة الأميركية أن هناك نواباً يدعمون توجه إدارة ترامب في طرد (وتحجيم) أتباع إيران في العملية السياسية، ومستعدّون للتعاون معكم؟ يتناقض تضمين برنامج الائتلاف هذا فقرة دعم وحدة الشعب العراقي مع الأداء والتصريحات التي لم تقطع مع خطاب المحاصصة والطائفية التي يرفضها الشعب العراقي وتجاوزها منذ سنوات طويلة، بينما لا تزال أحزاب المنطقة الخضراء تعتاش عليها وتحاول تسويقها للبقاء في السلطة.
جاءت المبادرة الثالثة التي تحدّث عنها الإعلام العراقي من الأكاديميين والإعلاميين وصنّاع الرأي الذين سارعوا بدورهم إلى الدعوة إلى تغيير العملية السياسية من الداخل، لدعم المبادرات السابقة، ولتسجيل موقف قبل مجيء العاصفة المرتقبة، والأغلب أن هؤلاء هم مستشارو حكومة الخضراء والمطبلون لها ومحللوها السياسيون وأصدقاء أشهر رجالات الفساد فيها، المستقتلون في الإعلام من أجل بقائها وبقاء مناصبهم ومنافعهم المادية، إذ تضمنت مبادرتهم عشرة بنود، منها إقرار قانون الأحزاب الذي ينام منذ سنوات في مكاتب البرلمان، ومحاسبة الفاسدين، وسيادة القانون.
الخوف والهلع من مستقبل أصحاب العملية السياسية في الخريطة الجديدة للشرق الأوسط، التي تسعى الولايات المتحدة ودولة الاحتلال لترسيمها هما ما دفعا نوري المالكي إلى طلب مبادرة الإنقاذ للبقاء في الحكم، والأمر نفسه هو الذي يخيف رئيس البرلمان، محمود المشهداني، الذي استلم تأكيدا آخر ورسالة جديدة من الإدارة الأميركية، وتوسل المحافظة على العملية السياسية، كما استلم عمار الحكيم المحتوى ذاته، فهل تنقذ هذه المبادرات التي جاءت حصرياً من شخصيات من داخل العملية السياسية نفسها، حكومة المنطقة الخضراء وأحزابها وبرلمانها؟ خاصة بعد أن قال المرشد الإيراني، خامئني، لرئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، إن عليه دعم الفصائل والحشد.
وهو ما أثار حفيظة فريق ترامب الذي أرسل مباشرة رسالة استياء واستفهام عن موقف العراق، هل هو مع الولايات المتحدة أم مع إيران؟ لقد تلقت إيران ضربات موجعة في لبنان وسوريا، وهي لن تترك ورقة فصائلها وحشدها الباقية في العراق بسهولة. وفي أسوأ الأحوال ستقايض إيران هذه الورقة بتفاصيل وكسب وقت لصالحها في مفاوضاتها المقبلة بشأن ملفها النووي، والإبقاء على نظامها، مع الولايات المتحدة التي لن تبدأ إلا بعد تنصيب ترامب رئيسا بعد أيام. وربما تتحقق مفاجأة سارّة كالتي حصلت في سوريا، يخرج فيها الشعب العراقي المهيّأ منذ سنوات لهذا اليوم، ليسقط النظام الجاثم على مقدّراته منذ 22 عاماً، ويقول لإيران هذه المرّة كش ملك.

المصدر: د. ولاء سعيد السامرائي/ “العربي الجديد”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى