هكذا تفكر “إسرائيل” في الردّ على إيران..!
“المدارنت”..
يعلم القاصي والداني في الشرق الأوسط والعالم، أن إنتاج السلاح النووي في إيران أصبح مجرد قرار سياسي. وأن تغيير العقيدة النووية الإيرانية سيظل دائما متوافقا مع الشريعة الإسلامية، وأن الملاذ الأخير في هذه العقيدة هو مبدأ «المحافظة على النفس». وإذا اعتقدت إسرائيل أنها يمكن أن تنجو بعد أي محاولة لتوجيه ضربة شاملة لإيران فإنها واهمة، إنها بذلك تفتح الباب لإنهاء احتكارها للسلاح النووي في الشرق الأوسط، وإنهاء سياسة فرض الأمر الواقع الذي تريده على شعوبه. إن هدف إسرائيل الاستراتيجي من الرد هو المحافظة على احتكار السلاح النووي، بعد أن أسقطت المقاومة الإسلامية قوة الردع الإسرائيلية ومرغتها في التراب، من غزة إلى حيفا، قوة الردع الإسرائيلية سقطت ولن تعود، منذ أن نقلت المقاومة مجهودها الرئيسي إلى داخل إسرائيل.
ومنذ الضربة الصاروخية الإيرانية لإسرائيل في أول الشهر الحالي، لم يتوقف النقاش في أوساط النخبة السياسية والعسكرية والفكرية الإسرائيلية بشأن كيفية الرد على إيران. ونستطيع القول بلا تردد إن هذه النخبة على اختلاف توجهاتها متفقة تماما على ضرورة توجيه ضربة شديدة إلى طهران، تثبت لها أن إسرائيل ما تزال تملك قوة كافية للردع. يتفق على ذلك نتنياهو وغالانت وبينيت وسموتريتش وبن غفير ولابيد وغانتس وأفيغدور ليبرمان وغيرهم، بما في ذلك يائير غولان زعيم حزب العمل اليساري، الذي طالب بأن يكون الرد الإسرائيلي منسقا مع الولايات المتحدة والقوى الإقليمية الحليفة. المعضلة التي تواجهها تل أبيب في الرد هي أنها تحتاج إلى واشنطن في توجيه الضربة، وفي تلقي رد الفعل. ذلك أن ضرب إيران بالكيفية التي تريدها إسرائيل ينطوي على تداعيات إقليمية ودولية لا تستطيع إسرائيل مواجهتها بمفردها.
حرب المقاومة ضد إسرائيل هي حرب طويلة الأمد
تتميز باستخدام تكتيكات الكرّ والفرّ لتحقيق مكاسب تكتيكية
وأهميتها أنها تترك جروحا غائرة في جسم العدو، حتى ينهار
ويمكن تلخيص أهداف استراتيجية الرد الإسرائيلي على إيران في ضرب البرنامج النووي، وتدمير المنشآت النفطية، وضرب القواعد العسكرية، خصوصا قواعد إطلاق الصواريخ والقواعد البحرية، إضافة إلى ضرب قيادة الحرس الثوري الإيراني. ببساطة تهدف إسرائيل لإعادة إيران 40 عاما إلى الوراء. وتعارض الإدارة الأمريكية الحالية ضرب المنشآت النووية والنفطية. وتطالب بتحديد أهداف استراتيجية إسرائيل داخل نطاق «الرد بالمثل»، أي أن تقتصر على ضرب قواعد الصواريخ والطائرات المسيرة والقواعد البحرية وغيرها من المنشآت العسكرية الرئيسية. وتعتبر إدارة بايدن أن أهداف الاستراتيجية الإسرائيلية ضد البرنامج النووي والقدرات النفطية يمكن تحقيقها بأساليب غير عسكرية. وفي محاولة لإثبات مصداقيتها، أعلنت عقوبات شاملة على القطاع النفطي، لحرمان إيران من تلقي دولار واحد من عائدات النفط.
انتقادات إسرائيلية لأميركا
تنطلق نظرة إسرائيل إلى طبيعة استراتيجية الرد على إيران، من أن اغتيال السيد حسن نصر الله وعدد من قيادات الصف الأول في حزب الله، ودخول القوات الاسرائيلية برا إلى جنوب لبنان، أدى إلى تغيير معادلة توازن القوى في الشرق الأوسط، وإضعاف منظومة الردع الإيرانية، ما يمنحها فرصة ذهبية لضرب إيران. ويقول عدد من المفكرين العسكريين في مراكز التفكير الإسرائيلية إن واشنطن تخطئ عندما لا تأخذ ذلك في الاعتبار، ومن ثم فإن الإجماع الإسرائيلي تقريبا على ضرورة توجيه ضربة إلى إيران، يقلل من أهمية أخذ التحفظات الأمريكية في الاعتبار، لأنها من وجهة النظر هذه تتجاهل الحقائق الجديدة على الأرض. ويمكننا تلخيص نظرة إسرائيل إلى نظام الردع الإيراني على النحو التالي: إنه يتكون من ثلاثة مستويات.
الأول: والقلب منه هو أن تصبح إيران دولة نووية كاملة القدرات (امتلاك السلاح، والقدرة على إرساله إلى الهدف، والاستعداد لتلقي الضربة الثانية).
الثاني، هو تحالف إقليمي عسكري وسياسي مع «محور المقاومة»، وأن حجر الزاوية في هذا التحالف هو قوة حزب الله. لكن التحالف يضم عددا من القوى الأخرى في العراق وسوريا وفلسطين واليمن.
الثالث، هو بناء تحالف قوى سياسي وعسكري واقتصادي مع روسيا والصين، ليكون بمثابة إطار الدعم السياسي والمعنوي الخارجي. وتعتبر إسرائيل أن اغتيال السيد حسن نصر الله أسقط خط الدفاع الأول عن نظام الردع الإيراني، وأنها يجب أن تنتهز الفرصة لضرب قلب نظام الردع وليس محيطه. ومع ذلك فإن إسرائيل ما تزال توازن بين قدراتها، وقوة رد الفعل الإيراني، ومن ثم فإنها تقيّم مدى حاجتها إلى الغطاء العسكري الأمريكي، في توجيه الضربة، وفي تلقي رد الفعل.
لكن مدى الاستعانة بالغطاء الأمريكي ليس قرارا إسرائيليا، وإنما هو يتوقف على موقف القيادة السياسية في واشنطن. ويبدو هذا الموقف في أضعف حالاته الآن، قبل أقل من ثلاثة أسابيع على التصويت في انتخابات الرئاسة الأمريكية. ومع أن الرد الإسرائيلي سيظل مقيدا بخيارات الإدارة الأمريكية الحالية، حتى مجئ إدارة جديدة، فإننا لا نظن أن إسرائيل ستكون في غيبة تامة عن الساحة الإيرانية، خلال تلك الفترة.
ومع ذلك فإن تركيز المجهود الرئيسي الإسرائيلي سيتركز على إقامة حقائق جديدة في الجبهة اللبنانية، وتقسيم قطاع غزة، وتفريغ شماله من السكان، والسعي لإقامة إدارة جديدة بمساعدة الدول العربية والولايات المتحدة تكون تحت الهيمنة العسكرية والسياسية الإسرائيلية. كما ستستمر في عمليات التمشيط العسكرية لتفريغ الضفة الغربية من قوى المقاومة النشيطة وتوسيع نطاق الاستيطان. أما في مواجهة إيران والجبهات المتبقية في سوريا والعراق واليمن، فإن إسرائيل من المرجح أن تقوم بعمليات انتقائية surgical operations محدودة ولكن مؤثرة تكتيكيا، من باب التسهيل لعملية كبرى ضد إيران، في حال فاز ترامب بالرئاسة، أو مواصلة التنسيق المحدود مع الولايات المتحدة في حال فوز كامالا هاريس.
استراتيجية لاستنزاف المقاومة
هذا التقييم يدعو إلى تعزيز اليقظة الكاملة داخل محور المقاومة بأكمله، تحسبا لمثل تلك العمليات، مع تكثيف عمليات المقاومة الفلسطينية ضد الأهداف الإسرائيلية العسكرية الداخلية. وليس من المتوقع أن تنخرط إسرائيل في أي محاولة دبلوماسية لإنهاء الحرب في الشرق الأوسط كليا أو جزئيا. وإن حدث ذلك فإنه سيكون لمجرد إضاعة الوقت وإبقاء العالم مشغولا عما تقوم هي بتنفيذه من أعمال عدائية على الأرض ضد كل خصومها. وتعتبر إسرائيل صراحة أن الدبلوماسية طالما أنها من دون إجراءات على الأرض لا قيمة لها، وهو الموقف الذي تترجمه بتجاهل الشرعية الدولية والاعتداءات على قوات اليونيفيل.
القيود التي تحاول الإدارة الأمريكية الحالية فرضها على طبيعة الرد العسكري على إيران، وتفضيلها اللجوء إلى تسوية سياسية للوضع برمته في قطاع غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان، تظل مجرد قيود شكلية بلا قيمة سياسية، طالما أنها تفتقر إلى أي آلية للتنفيذ أو ضغوط لوضعها موضع التنفيذ، ولذلك فإن من مصلحة نتنياهو الضغط بكل السبل من أجل خسارة كامالا هاريس وفوز دونالد ترامب، ففي حال فوز هاريس سيكون لدى الولايات المتحدة هامش للضغط على إسرائيل، لكن واشنطن لن تفعل ذلك متطوعة، وإنما يمكن أن تفعل إلى حد كاف إذا تعرضت هي نفسها لضغوط من دول الشرق الأوسط التي تربطها بها مصالح قوية.
أما في حال فوز ترامب فإن فرصة الضغط على إسرائيل ربما تختفي تماما، وراء التأييد المطلق للرئيس والكونغرس بمجلسيه. وهناك دلائل كثيرة ترجح فوز الجمهوريين بالأغلبية في مجلس الشيوخ بدلا من الديمقراطيين.
ومع ذلك فإن إدارة بايدن بالتعاون مع مصر والسعودية والإمارات والسلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، تحاول حاليا إقامة حقائق جديدة على الأرض في قطاع غزة، خصوصا في ما يتعلق بإقامة إدارة بديلة لحماس والمقاومة. إلى جانب التعاون مع الحكومة اللبنانية على وقف مؤقت لإطلاق النار في جنوب لبنان، وإحلال قوات الجيش اللبناني محل قوات حـزب الله.
في الوقت نفسه، إسرائيل تدرس أيضا وضع خيارات استراتيجية بديلة، لمواجهة احتمال فوز هاريس، إحدى هذه الاستراتيجيات هي جر إيران إلى حرب استنزاف في لبنان. وفي هذا السياق فإنها تروج لفكرة أن إيران قد ترسل قوات أو متطوعين لمساندة حزب الله. ببساطة تحاول إسرائيل، بدلا من أن تكون إيران هي مهندس حرب استنزاف ضد إسرائيل، أن تقع في المصيدة.
هذا يذكرنا بالمصيدة التي نصبها بريجنسكي للقوات الروسية التي ذهبت إلى أفغانستان، للدفاع عن حكومة الضباط الشيوعيين في كابول، وكانت نتيجتها هي سقوط هيبة الجيش الروسي في حرب جبال وكهوف لم يألفها في أفغانستان، ثم سقوط الاتحاد السوفييتي نفسه. حرب المقاومة ضد إسرائيل، من حيث طبيعتها هي حرب طويلة الأمد، تتميز باستخدام تكتيكات الكر والفر لتحقيق مكاسب تكتيكية، حتى وإن كانت قصيرة الأمد، إلا أن أهميتها أنها تترك جروحا غائرة في جسم العدو، تنزف وتنزف حتى يخور العدو وينهار.