هلِ الأنبياءُ ثوارٌ أم سياسيون بالمعنى الحديث؟!
خاص موقعيّ “المدارنت” و”ملتقى العروبيّين”..
… “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [الأنفال:67-69].
استشار النبيُّ الناسَ في الأسارى يوم بدر، فقال: إنَّ الله قد أمكنكم منهم، فقام عمر بن الخطاب.
فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبيُّ.
ثم عاد رسولُ الله، فقال: يا أيُّها الناس، إنَّ الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانُكم بالأمس، فقام عمر، فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبيُّ.
ثم عاد النبي، فقال للناس مثل ذلك.
فقام أبو بكر الصّديق، فقال: يا رسول الله، نرى أن تعفوَ عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله ما كان فيه من الغمِّ، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء.
ربما كان النبي، سياسيًا في هذا الموقف, لكن قرارَ الخالق كان قراراً حاسماً بوجوب قتل المشركين. لكن هل طرْحُ المسألة بهذا الشكل هي للتندر والترفيه الفكري أم لها صلة بواقعنا الراهن؟
في ثورات الربيع العربي انقسم الناسُ بين ثائرين وسياسيين وكثير من المتفرجين الصامتين, لن نناقش الصنف الثالث الصامت, بل لنرَ أين سار السياسي والثائر؟ و ما آلت إليه الأمور!
جيفارا كان ثائراً انتصر بعد معركة خليج الخنازير، ثم انقلب سياسياً ممثلاً لكوبا في المحافل الدولية، ثم عاد ثائراً وقُتِلَ على تلك الحالة.
مارتن لوثر كينغ في خطابه “عندي حلم”, لم يكن حلمه سياسيًا يتناول أنصاف الحلول ويراعي موازين القوى القائمة في ذلك الوقت, بل كان حلماً ثورياً بامتياز لا يمت للسياسة والبراغماتية بصلة! كذلك كان مالكوم اكس ومانديلا…. والقائمة تطول…
هناك صنف ثالث -غيرُ النظام القائم ومن استُجلِبَ على أنه معارضة سياسية- أفرزته الثورة السورية وتفرزه على استحياء باقي ثورات الربيع العربي, وهي منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وحديثاً مؤسسات التنوير والتحديث, التي ترفع شعاراتٍ مختلفةً، لكنها تتغذى من منبع واحد يُسمى النظامُ المالي العالمي، وتصب في بحيرة واحدة تدعى الواقعية السياسية! لكن لو سألنا من يعملون ويؤسسون ويديرون تلك المنظمات والهياكل المدنية: ماذا تصنفون أنفسكم بين الثلاثة أصناف التي أشرنا إليها أنفا: سياسي, ثائر أم متفرج؟ لربما وجدنا إجاباتٍ مختلفةً من هؤلاء سواء الصادقين منهم أو المتلونين, لكن مخرجات العمل المدني لا يشك عاقل أنها تصب في بوابة المُخرَج السياسي البراغماتي الذي لا يشذ عن قواعد اللعبة المتعارف عليها دولياً, لذا لو كانت إجابات هؤلاء مختلفة عن المُخرجات، لكان جواب هؤلاء يصب في باب خداع النفس أو الوهم المريح وكلاهما غير مُنجٍ!
لكن لماذا استدعاء هذه المسألة الآن؟ ربما لأن إعادة تأهيل الأنظمة الاستبدادية بحاجة إلى حصان طروادة حين نصل إلى حالة تدعى status quo, وحصان طروادة تحديداً في المسألة السورية سيكون عبر منظمات المجتمع المدني دون غيرها، سيتوفر المال والإمكانات وستربط عودة الحياة بهذه المنظمات التي كانت طوال فترة الثورة تُغربل وتَرشح لتتأهل للعب الأدوار النهائية المطلوبة حين تأتيها الإشارة. سيقول كثيرون أنه لولا تلك المنظمات لمات الناس جوعاً ومرضاً وتشرداً, لكن من هو الحر الذي لم يمت جوعاً ومرضاً وتشرداً لآلاف المرات -بعيداً عن نشاطات المنظمات – بانتظار تحقق ما انتفض لأجله؟
الحلول السياسية بطبيعتها ترتبط بالدول وموازين القوى، وتُدار في أقبية الاستخبارات, أما الثورات، فترتبط بفلسفة الحياة وغايتها ونهاياتها، ولا تُدار بالحوكمة والتنظير وبناء القدرات, بل ترتبط بالإرادة على الاستمرار لو بعد آلاف الهزائم العسكرية والنفسية؛ لأن معادلة أبي سفيان وهو ينادي بعد نصره بمعركة أحد” لنا العُزَّى، ولا عُزّى لكم”، قابلتها معادلة النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -حين قال: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟.
قال: قولوا: الله مولانا ولا مولَى لكم، قال أبو سفيان بعدها: يوم بيومِ بدر، والحربُ سِجال” فكان جواب الثائر: (لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار).
ستظل المنظومات السياسية في دول الربيع العربي قائمةً بإرادة المنظومة الدولية، وإن تغيرت الوجوه: السيسي بدلاً من مبارك، و قيس سعيد بدلاً من بن علي… لكن الجوهر واحد، وثورات الربيع العربي كغيرها من الثورات قامت على الجوهر، وليس على الوجوه، وإن تشوشت الصورة بدايةً لالتصاق الاثنين ببعضهما بحكم التقادم, لكن وعي الثائر-بكل تأكيد- أعمق من وعي السياسي ونظرته ثاقبة أكثر؛ لأنه يرى بنور الفطرة التي زرعها الله فيه, بينما السياسي يرى بنور العقل الذي يضل طريقه، إن غاب الإخلاص وكانت كفة الميزان في غير صالحه.
لن أقول لمن يعملون في المنظمات احذروا, ففي النهاية تتبدل الوجوه وكل نفس بما كسبت رهينة, لكن أقول للثائرين احذروا قول أبي سفيان ” لنا العزى ولا عزى لكم, وقوله يوم بيوم والحرب سجال”, فالثائر لا ينظر للنتائج لكن يكفيه اختيار الطريق.