هل تنبأ برنارد لويس بحرب السودان؟!
“المدارنت”..
لا يتمتع المفكر الأمريكي برنارد لويس (1916-2018)، بسمعة حسنة في الوسط الثقافي العربي، فهو متهم بأنه كان ينوي تقسيم البلدان العربية، ما يحوّل المنطقة، التي كانت قسّمت على يد الاستعمار قبل حوالي القرن، إلى مزيد من الكيانات الصغيرة. هذه التهمة الكبيرة، التي ظلت تلاحق لويس، ليست دقيقة تماماً، فالرجل لم يكن يدعو إلى خلق دول أصغر في المطلق، كما كان البعض يروّج، لكنه كان يلفت، على العكس من ذلك لوجود مشكلة متعلقة بالدول الوطنية الناشئة، التي أنتجها المستعمر وأشرف على تكوينها بشكل عشوائي.
هذه المشكلة هي أن هذه الدول، التي تمت صناعتها على عجل من أجل أن يسهل تقاسمها بين الدول المستعمرة، لم يراع في تكوينها الحساسيات الثقافية، ولا الامتدادات الإثنية، وهو الأمر، الذي لن يلبث أن يخلق مشكلة تعدد الولاءات ومشكلة الحدود السائلة، التي لا تحترمها القبائل المشتركة الممتدة ولا السكان، الذين كانوا على مر القرون السابقة يتنقلون في مساحة من الأراضي أصبحت اليوم تتبع لأكثر من دولة. قراءة أفكار برنارد لويس تدفعنا للتفكير في مفارقة طريفة، وهي أن هذه الحدود الاعتباطية، التي صنعها المستعمر على عجل ودون تقديم أي مبرر تاريخي، أو جغرافي أو هوياتي لها، أصبحت من المقدسات، كما أصبح موضوع مناقشتها أو التساؤل عنها من القضايا المحرمة، التي قد تجعل صاحبها متهماً بالتشكيك في «الثوابت الوطنية». من الطريف أيضاً أن السياسيين، الذين يناهضون الاستعمار، ويدبجون الخطب في نقد الامبريالية، لا يجدون غضاضة ولا تناقضاً بين ذلك، وتقديس الحدود، التي وضعها المستعمر، ويعتبرون أن مجرد التفكير بالمساس بها أو تعديلها خيانة.
برنارد لويس لم يكن في المقام الأول سياسياً، لكنه كان أكاديمياً مجتهداً، بل يعد من أبرز الذين درسوا تاريخ منطقة ما يعرف بـ»الشرق الأوسط»، التي تمتد على مساحة العالم العربي وتفيض إلى حدود تركيا وإيران. كان لويس في بداية العشرينيات من عمره، حينما حصل على شهادة الدكتوراه في موضوع معقد متعلق بأصول الطائفة الإسماعيلية، كما استطاع منذ شبابه الباكر إجادة العربية والعبرية واللاتينية والفارسية والتركية وهي اللغات، التي كان يدرك أنه لن يستطيع أن يفهم المنطقة من دون دراستها والتبحر فيها، بالإضافة إلى تكريسه الكثير من الوقت لدراسة المجتمعات العربية.
اعتكف لويس في نهاية الخمسينيات وتفرغ لدراسة التاريخ التركي، فاستغل الإذن، الذي منحه بالوصول إلى الإرشيف العثماني، من أجل التهام الكتب والمخطوطات النادرة، ومن أجل إنجاز دراسات مهمة كان من أبرزها كتابه «نشأة تركيا الحديثة»، الذي ما يزال من المراجع، التي يعود إليها الدارسون والأكاديميون، بسبب أنها تقدم خلاصات لعشرات من الكتب، التي لا يصبر الباحثون الشباب اليوم على الانكباب عليها. هذا التذكير المختصر بالسيرة الأكاديمية للرجل مهم، فهو يجعلنا ننتبه إلى أننا لسنا إزاء شخص عادي، وإنما شخصية كان لها ثقل معرفي كبير مكنها من أن تقول بشكل واضح أن مستقبل دول ما بعد الاستعمار غامض وأنه سيقود، إما لحروب لا تنتهي وتوترات، أو لانقسامات تتآكل فيها الدول وتتحد فيها المجتمعات ذات الهويات المتماثلة.
قد لا يدخل السودان في خريطة «الشرق الأوسط» الكلاسيكية، لكنه يعتبر مثالاً على الدولة، التي أنشأها المستعمر، وأشرف على رسم حدودها، من دون أن يأخذ رأي مواطنيها.
إلحاق مساحات واسعة مما بات يعرف اليوم بدولة «جنوب السودان»، التي انفصلت مؤخراً بعد عقود من الحرب المريرة والصراع الدامي، إضافة إلى ما حدث من ضم متأخر لسلطنة دارفور أفرز واقعاً معقداً وهويات لم تنجح كل الأدبيات الوطنية في توحيدها وصهرها. هذا التركيب، الذي صنع البلد المعروف باسم السودان، وبالإضافة إلى أنه جمع شعوباً متفاوتة ومختلفة في نظرتها لنفسها وللعالم، كان يعاني من مشكلة أخرى تشترك فيها كثير من دول المستعمرات السابقة، وهي ما سميناه بالحدود السائلة، فالقبائل، في أغلب الاتجاهات مشتركة مع دول الجوار.
أنتج هذا أزمة متعلقة بضبط الولاءات وتحديد تعريف من يستحق أن يوصف بأنه سوداني. إلى جانب تاثير هذه السيولة على الصراعات القائمة، حيث يستجلب المحاربون والمتمردون أبناء عمومتهم من دول الجوار القريب أو من امتداداتهم البعيدة من أجل المشاركة في الحرب، التي يعتبر أولئك بدورهم أنها حربهم، وهو ما ظهر بشكل سافر في الصراع الحالي.
هنالك ثلاثة مستويات يمكن من خلالها النظر لتعقيدات الحرب الدائرة في السودان، المستوى الأول هو المستوى البسيط المتعلق بالتوصيف السهل، الذي يحكي عن «حرب بين جنرالين»، أو عن تمرد إحدى القوات التابعة للدولة على قوة الجيش الرئيسة بهدف تحقيق انقلاب.
هذا التفسير، الذي كان شائعاً، طيلة أشهر طويلة من بداية الحرب، والذي ما يزال البعض يستند إليه في توصيف الحالة السودانية، كان فيه تبسيط مخل يمنع من رؤية حقيقة ما حدث، فالتمرد العسكري أو السياسي المحض لا يمكنه أن يفسر ذلك النزوع المخيف للسرقة والنهب، وتلك الأعمال الانتقامية، التي شملت الإذلال المتعمد للمدنيين والتعذيب والاغتصاب وغيرها من الممارسات، التي عانى، وما يزال يعاني منها، سكان الوسط الموصفون بـ»النيليين».
المستوى الثاني هو الاجتماعي، الذي كنت وصفته في مقال سابق بـ»نظرية اللكزس»، والذي يعتبر أن الانتهاكات بواسطة الأفراد المغبونين هي انعكاس للتفاوت الطبقي الحاد، والحقد الاجتماعي، الذي أفرز مجموعات سكانية تعيش على هامش المدن والاقتصاد، وتنتظر فرصة للثأر من المواطنين المترفين، الذين يعيشون في درجة من الرفاه لا يستحقونها.
هذا التحليل يبدو أكثر إقناعاً من التوصيف الأول، خاصة حينما يكون هذا الحقد الاجتماعي متأسساً على خطاب قادر على تبرير كل جريمة ومتعلق بنظرية حول الهوامش المظلومة والمركز، الذي استأثر بكل السلطة والثروة على حساب المعدمين، الذين لم يجدوا الفرص المناسبة للتعليم أو التكسّب. مع هذا، فإن طرح الأمر بهذه الطريقة يعجز أيضاً على تفسير واقع ما حدث في السودان خلال العامين الماضيين، خاصة أن هناك سؤالا لا مفر من طرحه وهو:
هل انخرط المسحوقون، من كل مناطق السودان، ضمن عصابات النهب والسلب، ولماذا كانت خطابات الثأر جاذبة بشكل أوضح لأبناء قبائل الجنجويد، حتى لمن كانت لهم منهم مكانة اجتماعية ومن كانوا لا يعانون، بشكل شخصي، من أي نوع من التهميش؟
هذه الأسئلة يمكنها أن تنقلنا للمستوى الثالث، الذي سيعيدنا من جديد لأفكار برنارد لويس حول التركيبات الاجتماعية المتناقضة داخل الدولة الواحدة. في هذا المستوى يمكن أن ننظر لحرب السودان على أساس أنها تمظهر من تمظهرات الاصطفاف القبلي والمناطقي، الذي ترى فيه مكونات بعينها أنها أحق بالحكم والأرض من غيرها.
من المهم هنا مقارنة الانقسام، الذي أصاب الجبهة اليسارية المسماة «تقدم»، بما حدث من انقسام لدى «الحركة الإسلامية»، التي انحاز كثير من أبنائها وقياداتها المنتمية للقبائل المتمردة إلى حواضنهم ضد الدولة.
يعيد كل ذلك إلى الأذهان «معضلة لويس»، التي تقول إنه في هذه الحالة، فلا خيار للدولة سوى بدء حرب طويلة الأمد لإخضاع الشعوب المتمردة، وهو ما يحتاج للكثير من العنف، أما البديل الوحيد لذلك فهو القبول بطرح الانفصال.