مقالات

واقعيّة عبد الناصر وواقعيّة “المونتاج”!

الراحل جمال عبد الناصر

“المدارنت”
في المقطع الصوتي “الإلكتروني” مجهول النسب، الذي انتشر بعنوان “تسريبات جمال عبد الناصر ومعمّر القذّافي”، يتحدّث عبد الناصر عن واقع المزايدين عليه بعد هزيمة 1967، فيقول واصفاً لهم: “لا حنحرّر ولا حنعمل”، ويقول ساخراً منهم: “إحنا ناس انهزاميين واستسلاميين، اتفضلوا أنتوا حاربوا”. يتحوّل صوت عبد الناصر على يد أحفاد المزايدين، الذين لا يقلّون نذالة عن أجدادهم، إلى نقيضه؛ تنتقل المزايدة (بالمونتاج وما بعده من تغطيات) من أجدادهم إلى عبد الناصر، والتراجع أمام العدو من أجدادهم إلى عبد الناصر، والاستسلام التام والنهائي من أجدادهم إلى عبد الناصر، والتحوّل لأدواتٍ استعمارية وحلفاءَ لإسرائيل منهم (في واقعنا) إلى تاريخ عبد الناصر، الحاضر في موته أكثر من المزايدين عليه، الأجداد والأحفاد، الأحياء منهم (إن جاز التعبير) والأموات.

محضر الجلسة بين عبد الناصر والقذّافي موجود ومنشور في موقع مكتبة الإسكندرية، وهو من 56 صفحة من القطع المتوسّط. محتوى الجلسة نفسه نشرته صحيفة لأهرام في حينه، باعتباره رسالة من عبد الناصر إلى الرئيس العراقي. وفي المحضر، وفي رسائل عبد الناصر، وحتى في بعض مواضع الفيديو المنتشر (بعد المونتاج)، يتحدّث عبد الناصر عن خطّة الحرب، وليس التراجع أو الاستسلام بدعوى “الواقعية”. والخلاف بينه وبين القذّافي طوال حوارهما حول التوقيت: الآن، أم بعد استكمال الأدوات اللازمة لتقليل الفارق بيننا وبين العدو الذي تدعمه الولايات المتحدة؟ يتحدّث عبد الناصر وهو يحارب بالفعل، في الاستنزاف، ويتحدّث عن مراحل استرداد الأرض، وليس التفريط الكامل فيها، بمبادراتٍ عربية أو الهرولة نحو صفقة قرن أميركية.
الفارق بين واقعية عبد الناصر، من واقع محضر الجلسة، وحتى من بعض المواضع التي لم ينجح المونتاج في إخفائها، وواقعية المزايدين على عبد الناصر، لا يحتاج في ظروف عادية إلى بيان. لكنّه، مع “السوشيال ميديا” يحتاج إلى ما هو أكثر، إلى “ثورة”، فمواقع التواصل بعد الثورات العربية، وبعد تبيّن الأنظمة الحالية خطرَها عليها، تحوّلت لجاناً وأشياءَ أخرى، ومن ثمّ هي قادرة على إعادة إنتاج “الحقيقة” وفق أجندات الأكثر مالاً، والأعزّ نفراً ولجاناً وشاشاتٍ وكُتّاباً وصحافيين ومتعاونين مجّانيين، من أجل الفوز في معارك صغيرة على حساب القضية الحقيقية “الوحيدة” في منطقتنا، والتي تتفرّع منها أزماتنا كلّها.
بالفلوس (وهي كثيرة وزي الرز) يمكنك أن تشتري آلاف الحسابات والقنوات والأقلام والذمم، وأن تُحوّل “سنحارب” إلى “لا حنحارب ولا حنعمل”، فتتحوّل واقعية المقاتل والمقاوم وصاحب المشروع العربي الوحيد في منطقتنا “واقعية” خصومه من الأدوات الاستعمارية. ولا بأس من الاستثمار في خصومات عبد الناصر الداخلية (والحقيقية) لحشد مزيد من الموظّفين، والمرور من ثغرات سلطوية تفوّت جيشاً من الجمال، ومن الخيل والبغال والحمير، لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون.
ولكن، هل السؤال، هنا والآن، هو عبد الناصر؟ أم الأنظمة العربية الحالية “الواقعية جدّاً”؟ الفيديو المقصوص من أطرافه كافّة، والمحذوف منه كلام عبد الناصر عن الحرب، وعن موقف العرب منها، وعن موقف السعودية (محذوف بالكامل)، يخبرك بوضوح عن ورطة الأنظمة العربية الحالية، وخاصّة في الخليج ومصر، وعن احتياجهم إلى رجل ميّت منذ أكثر من 50 عاماً، يغسل سمعتهم أمام جماهير مهمّشة وضعيفة وغير منظّمة وغير موجودة.
لو سلّمنا جدلاً بأن المعركة مستحيلة، وأن العدو لا يُقهر، كما كان يُروّج قبل هزيمته في أكتوبر 1973، فماذا فعلت الأنظمة العربية الحالية غير الحرب؟ ما فائدتها في حياتنا؟ ما مبرّر وجودها؟ وهل استطاعت، بالسياسة وبالتفاوض وبالتطبيع وبالنذالة الوراثية، أن تراكم أوراقاً تضغط بها وقت اللزوم، وقت الحاجة لإيقاف الحرب؟ لفتح المعابر؟ لإدخال المساعدات؟ لإدخال زجاجة مياه من دون إذن إسرائيل؟ الإجابة: لا. ولذلك، وجب تحضير نسخة مزوّرة من عبد الناصر لتخبر الجماهير التي تصدّقه إلى الآن، أنه ليس في الإمكان سوى الاستسلام… “الواقعي”.

محمد طلبة رضوان/ “العربي الجديد”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى