23يوليو مجددًا.. عبد الناصر ومانديلا وموارد التاريخ!
“المدارنت”..
فور إطلاق سراح «نيلسون مانديلا» من سجنه الطويل، زار دولا إفريقية في مقدمتها مصر. كان ذلك حدثا مدويا ومفعما بالمشاعر الجياشة.
طلب من بروتوكول رئاسة الجمهورية أن يكون بجواره في العشاء الرسمي صديقه القديم «محمد فائق»، رجل «جمال عبد الناصر» في إفريقيا، الذي تعاون معه لإزاحة الحكم العنصري قبل أن يدخل سجنه الطويل قائلا: «بيننا موعد تأخر 27 عاما».
حسب رواية «فائق» ـ كما استمعت إليها ـ فإنه ذهب إلى منشية البكري وبصحبته المناضل الجنوب إفريقي «نيلسون مانديلا» للقاء «عبد الناصر».
انتظرا سويا أن ينتهي اجتماع بين «عبد الناصر و«(جوزف بروز) تيتو»، غير أن الاجتماع طال عما كان مقررا، وجد «مانديلا» نفسه مضطرا للمغادرة حتى يلحق بطائرته على أن يعود مرة أخرى للقاء الزعيم العربي، وهو ما لم يحدث أبدا.
زار ضريح «عبد الناصر»، ووصفه بأنه «زعيم زعماء إفريقيا».
خاطب رجلا رحل منذ سنوات طويلة إنه كان يحاول أن «يشب» على قدميه من على طرف القارة «حتى تراني».
تلك إشارة تخيلية لحجم الرهان الإفريقي على الدور، الذي كانت تلعبه مصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
رغم استقباله الرسمي في القاهرة عندما زارها بعد تحريره، فإن نظام الحكم وقتها لم يدرك القيمة التي اكتسبها في الضمير الإنساني المعاصر، ولا ضرورات بناء علاقة خاصة مع جنوب إفريقيا الحرة، أو التوقف عن التنكر للقارة الإفريقية وقضاياها.
بعد سنوات من مغادرته الاختيارية لمقعده الرئاسي، أشرف «مانديلا» على ملف بلاده لتنظيم كأس العالم لكرة القدم.
كان أسوأ ما حدث في أروقة الحكم، حيث كانت مصر قد رشحت نفسها لتنظيم ذات البطولة، وصف «مانديلا» بأنه «شوية كراكيب» ـ على ما روى لي الأستاذ «محمد حسنين هيكل» نقلا عن مسئول كبير متصل بالملف في منتصف “مايو” (2004).
بدأ «هيكل» منزعجًا من العبارة وحماقاتها: «الرجل وراءه أسطورة».
من مفارقات التاريخ أن نظام الحكم، الذي استهتر به، سقط في (11) فبراير (2011)، بعد واحد وعشرين عاما باليوم من إطلاق سراح «مانديلا».
بصياغة «محمد فائق» في كتابه: «عبد الناصر والثورة الإفريقية»: «عندما كشفت مصر عن وجهها الإفريقي الصحيح لأول مرة في تاريخها الحديث بعيدا عن فكرة الإمبراطورية التي ظلت تملأ عقول زعمائنا الوطنيين حقب طويلة من الزمن، وأعلن عبد الناصر انتماء مصر للحركة الإفريقية وتحملها عبء حركة التحرر الإفريقية، وأصبح هذا الانتماء جزءًا لا يتجزأ من الشخصية المصرية، كان قد أضاف بذلك حضارة مصر العريقة لتصبح رصيدا لإفريقيا كلها، الى جانب حضارتها الزنجية، وهو شيء كانت إفريقيا في أمسّ الحاجة إليه، وهي ما تزال في مرحلة تتحسّس فيها جذورها لتستقي منها ما تدفع به حركتها أمام العالم وفي مواجهة قوى الاستعمار الشرسة».
قد تبدو هذه الشهادة لمن لم يعاصروا التجربة ولا قرأوا عنها واطلعوا على وثائقها تحليقا في الإنشاء السياسى، لكنها في الحقيقة تعكس بدرجة عالية من الدقة الدور الذي لعبته مصر، ولا يزال ماثلا في ذاكرة القارة.
لم تكن مصادفة أن ترشح صحيفة «التايمز» البريطانية ـ مع مطلع القرن الحادي والعشرين ـ «عبد الناصر» و«مانديلا» مع الأديب الروسي «ليو تولستوي» للفوز بلقب «الشخصية الأعظم» في العالم.
تحت عنوان: «البحث عن الأفضل»، الذي كتبه الصحافي البريطاني «آدم شروين»، تساءلت يوم (23) “فبراير”/ شباط (2001): «من هي الشخصية الأكثر تأثيرا وإلهاما في التاريخ؟».
في ذلك الوقت نظمت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» استطلاع رأي لاختيار الشخصية البريطانية الأعظم.
استقر رأي البريطانيين على أنه «ونستون تشرشل»، بوصفه الأكثر احتراما في تاريخ الأمة.
كما اختار ـ في استفتاء مماثل ـ (3) ملايين ألماني «كونراد إديناور» مستشار ألمانيا الفيدرالية بعد الحرب العالمية الثانية بوصفه تجسيدا للعزة الوطنية.
نجاح الاستفتاءين أغرى المؤسسة الإعلامية العريقة لدعوة المشاهدين في كل أرجاء المعمورة، لتحديد الشخصية الأكثر تأثيرا في التاريخ.
لم يتم الاستفتاء بتدخل من جهات عربية، حتى لا تأتي النتيجة لصالح «عبد الناصر».
ما نحتاجه ـ بالضبط ـ أن ندرك الحقائق، أو ألا نهدر ما يستحق الاعتزاز به من دون التخلي عن حق النقد والاختلاف.
لأي شعب موارد تاريخية تنتسب إلى معارك خاضها مع شعوب أخرى، وفواتير دم دفعها من أجل قضايا بعينها.
إهدار الموارد التاريخية خطيئة لا تغتفر.
بتعبير الأستاذ «هيكل»: «لا تراهن على التاريخ وحده أيا كان بريقه، فالمصالح تسبقه في العلاقات بين الدول».. «قد تساعد العلاقات القديمة في التمهيد لتبادل لغة المصالح بشيء من الود، لكن لا تنس أنها مجرد تمهيد قبل الدخول في صلب المصالح المتبادلة».
من أسوأ ما جرى بعد «عبد الناصر»، أن ما استقر عميقًا في القارة السمراء أهدر فادحا في السياسات.
على لسان قروي إفريقي من كينيا، رصد الروائي الكبير «بهاء طاهر» المفارقات التى جرت في شهادة توليت نشرها على صفحات جريدة «العربي»:
«كنت في رحلة من العاصمة نيروبي إلى مدينة كينية أخرى، وتوقفت بالسيارة في قرية صغيرة على الطريق، فتوجهت مع مجموعة من جنسيات مختلفة نبحث عن سجائر في ذلك المكان.
“دلّونا” (أرشدونا) على دكان صغير يشبه مثله في أي قرية من قرانا؛ حيث تتكوم أجولة السكر والدقيق في ناحية، وبجوارها صفائح الزيت وقطع الصابون المرصوصة، وأوعية تضمّ حلوى للأطفال، ورفّ للسجائر.. إلخ، ووسط كل تلك الفوضى كان هناك في صدر المحل صورة مثبتة بالدبابيس في الحائط، صورة ملونة قديمة لوجه يتبسم وكنت أعرفه جيدًا.
عندما اشتريت السجائر من صاحب الدكان العجوز، سألته بشكل عابر:
ـ صورة من هذه المعلقة هناك؟
فالتفت الرجل خلفه في دهشة، مشيرا إلى الصورة وهو يسألني؟!
ـ ألا تعرف من هو؟!
ـ لا.
فقال الرجل ببساطة: هذا هو أبو إفريقيا.
لن أنسى ما حييت البساطة واليقين في لهجة هذا الرجل الأشيب، وهو يقول لي بلكنته الإفريقية This is the father of Africa، وقفت صامتا للحظة.
كنت قد تركت مصر وقتها، وصحف العهد تتبارى في الهجوم على عبد الناصر، لم يترك الكُتاب نقيصة إلا وألصقوها به، وكان نشر صورته أيامها من المحرمات، ناهيك بالطبع عن إذاعة صوته أو الإشارة إلى أي شيء حسن فعله في حياته، حتى بحيرة ناصر خلف السدّ العالى، معركته الكبرى وإنجازه الباقي، شطبوا اسمه من عليها مخافة أن يذكر الناس به».
مشكلة مصر في إدارة أزماتها الإفريقية التي تنشأ من وقت لآخر أنها تتذكر التاريخ في غير موضعه وتبنى عليه بغير أساس.
التاريخ حاضر في الذاكرة العامة، فالإفريقي يعتدّ بمعاركه للانعتاق من التمييز العنصرى، ويعتزّ بأبطاله التاريخيّين من أمثال «عبد الناصر» و«نكروما» و«لومومبا» و«نيريرى» و«مانديلا»، لكنه لا يعيش في الماضي.
لديه كوابيسه وأحلامه وتساؤلات عن مستقبله.
لا ينكر قيمتها التاريخية، لكنه يدرك أن القضايا المشتركة والمعارك الملهمة في الماضي لا تصلح عنوانا أبديًا لعلاقات الدول.
موارد التاريخ ضرورية، بقدر ما تبنى على ما بنيت، وأن تكون حاضرًا ومؤثرًا ومستجيبًا لتحديات عصرك.
موارد التاريخ تفسح المجال لكنها ليست المجال ذاته.
أخلينا مواقعنا عن استهتار بالغ بالمصالح المصرية العليا، وزحف آخرون على المواقع التي أخليت.
لم يكن ذلك سوء تقدير سياسي، بقدر ما كان منهجا جديدًا في الحكم.
في وقت واحد، تزامن تفكيك مقومات الاقتصاد الوطني والقرار الوطني، ورهن البلد كله لخيار وحيد وضع (99%) من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة.
كانت تلك دعوة لـ”إسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة)، وغيرها أن تملأ الفراغ.
وكانت تلك مأساة كاملة لبلد، قاد حركات تحريرها، ولعب الدور الأكثر جوهرية في تأسيس «منظمة الوحدة الإفريقية» “الاتحاد الإفريقي الآن”.