28 أيلول/ “سبتمبر”.. اليوم الأسود..!
كتب د. مخلص الصيادي/ دبَيّ
“المدارنت”..
1/ لا أدري، كلما عاد هذا اليوم قفزت إلى الذاكرة أبيات محددة من قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش في رثاء جمال عبد الناصر الذي غادر هذه الدنيا في مثل هذا اليوم من عام 1970 والتي يقول فيها:
نعيش معك… نسير معك… نجوع معك… وحين تموت نحاول ألا نموت معك.
وفي كل مرة وفي كل عام يمر أتطلع خلفي، أتطلع إلى الزمن يمضي، وعامُ فقد هذا القائد المعلم يبتعد، فإذا بنا جميعا نمضي مسرعين إلى الخلف، كأمة ودول ونماذج طليعية، كل تقدمنا إلى الخلف.
وعلى مدى هذا الزمان المتطاول، والذي يحتضن في طياته صفحات مضيئة سجلها الجيش البطل، وسجلها المقاوم البطل، والمجاهد البطل، إلا أن حال الأمة كله إلى تراجع، في كل عام إلى تراجع أكثر، وكلما اعتقدنا أننا وصلنا إلى القاع، وصار واجبا بحكم قوانين الحياة أن نبدأ الصعود، نكتشف أننا ما زلنا نهبط أكثر، نتراجع أكثر، تتفتت حياتنا أكثر، يتفتت مجتمعنا أكثر، وتتفتت بلداننا أكثر.
التمعن في كلمة “نحاول” في قوله “نحاول ألا نموت معك”، فيها نوع من نبوءة شاعر، وللشعراء نبوءآت، و”نحاول” هنا تعني بذل الجهد الذي قد يؤول إلى نجاح المحاولة لكن أيضا قد يكشف عن فشلها، ومع مضي الوقت يترجح لدي مشهد الفشل.
وفي هذا الموضع من الزمن، أسترجع أيضا قصيدة محمد مهدي الجواهري، وهو يصف حالنا مع عبد الناصر في نصره وهزيمته، في تقدمه وانتكاسته، ونحن منه في الموضع نفسه، ثقة واعتزازا وأملا، وقد مثل من خلال المشروع الذي حمله، والنموذج الذي جسده، المنارة التي تقتدي بها الأمة في هذه المرحلة، لا ترضى عنه بديلا، ولا تقبل لمسيرتها عنه مرشدا:
ناهضت فانتهضت تجر وراءها شمم الجبال عزيمة ومضاء
واقتدتها فمشت يسدد خطوها أن كنت أنت دليلها الحداء
ونُكست فانتكست، وكنت لواءها يهوي، فما رضيت سواك لواء
ثقة يحار بها النهى، ومعزة تاهت على هام السهى خيلاء
واسترجع أيضا المكانة المفردة لمصر في نهضة الأمة وفي قيادتها، والتي أكد جمال عبد الناصر في فلسفة الثورة أن هذه المكانة ليست “زعامة” تتطلع إليها مصر، وتشرئب نفوس القادة المصريين لها، وإنما هي مسؤولية وعبء، وتضحية، وفريضة تاريخية ليس لمصر خيار في تحملها، فدون ذلك ضياع لها وللأمة.
ولعله لهذه الأسباب ما زال جمال عبد الناصر هدفا للهجوم والتشويه والطعن من القوى نفسها التي سبق أن حاربته وصارعته وتآمرت عليه، تارة بادعاء خصومتها مع مشروعه في التنمية والبناء، وتارة بادعائها الانحياز إلى الديموقراطية السياسية التي رأت أن جمال عبد الناصر ناصبها العداء، وهذا ادعاء ليس له في الواقع سند ما دامت تجربة الرجل نفسه في العمل السياسي الوطني لم تكن قد استقرت بعد، وأخذت أبعادها، وحينما صار هؤلاء أو بعضهم، في سدة الحكم قدموا لنا أنظمة حكم استبدادية فاسدة وقاتلة لم نكن نتصور وجودها، وراحوا يعبثون بالوطن وبالمواطن على نحو لم يخطر على بال أحد، ولا في أسوأ التصورات، وتارة بادعاء أن لها رؤية ومنهجا في التعامل مع الدين، وفي الالتزام به يختلف عن منهجه ورؤيته. ثم إنهم فيما قدموا لنا من فهم للدين وللسلوك الديني قدموا شيئا لا يعتز به لا على المستوى الفردي، ولا على مستوى السلطة والحكم، ولا على مستوى النظام الاجتماعي والعدالة والتنمية والاستقلالية الحضارية.
وفي كل ذلك، ومع كل هؤلاء وأمثالهم، وعلى مدة يزيد على السبعة عقود استمر الوطن في تراجع، واستمر العدو في التوغل بحيواتنا، واستمرت حبال التبعية تجر أوطاننا إلى الخلف، واستمر هؤلاء أنفسهم في تصفية كل القواعد والأسس المادية والروحية والأخلاقية التي خلفتها مرحلة النهوض الناصرية، حتى بات الوطن مكشوفا من كل جانب، وباتت إرادته وثرواته ومستقبله، مرهونة للقوى المعادية للأمة، وللمؤسسات الدولية المناهضة لفكرة التنمية المستقلة والإرادة المتحررة، والاستقلال الحضاري. وامدت يد العبث إلى التراث الروحي والديني والقيمي الذي يمثل ملاط هذه الأمة وقوة تماسكها الداخلية وتشد مكونتها وأجزاءها بعضها الى بعض، فتكون عاصما لها في وقت الأزمات.
2/ وكلما هالني ما نحن فيه من ضياع وانهزام وهوان، في كل أمورنا، وخصوصا فيما يتصل بالقضية الفلسطينية، أرضها وشعبها ومجاهديها، وما جرى ويجري لغزة، وأستحضر أن جمال عبد الناصر قضى وهو يحاول أن يوقف تدفق الدم الفلسطيني في غير مكانه الطبيعي، حضرت إلى الفكر والعقل والوجدان وصية جمال عبد الناصر الخالدة بشأن هذه القضية المقدسة على كل المستويات، ووفق كل الاعتقادات، حينما قال:
“إن المقاومة الفلسطينية وجدت لتبقى، ولسوف تبقى حتى تعيد تأسيس وطنها الفلسطيني، وحتى يمارس هذا الوطن دوره في النضال الشامل لأمته العربية”.
وبهذا جعل الموقف من المقاومة فلسفة ووجودا ومسارا مقياسا لصحة الموقف الوطني والقومي، ولصحة الموقف الديني والإنساني، ومقياسا لصدق التزام أي فرد، أو جماعة، أو قوة، أو حزب، بهذه الأمة وبوجودها ومستقبلها، قبل أن يكون التزاما بخط جمال عبد الناصر، وبفكر جمال عبد الناصر.
لا اريد أن أسأل ماذا كان سيفعل جمال عبد الناصر أمام ما تتعرض له غزة من إبادة جماعية وقتل وتدمير، فهذا سؤال ممتنع، لأن افتراض وجود عبد الناصر لا يعني مجرد وجود شخصه، وإنما المسألة تتعين في وجود ظرفه وبيئته وقوته وحال الأمة جميعا، وحين نستحضر هذا كله لا نكون أمام مثل هذه الحالة المخزية مهما كان حجم العدوان وطبيعته، لكن السؤال يطرح هنا لكشف حجم التخاذل والضعف الذي بات عليه النظام العربي ككل، وافتقاد محصلة قوة ووجود الدول العربية لأي ثقل معتبر على المستوى الدولي، إلى درجة باتت دول وفية لتاريخها ولتاريخ العلاقة مع جمال عبد الناصر ومرحلته، مثل “جنوب افريقيا”، هي من يقود الحملة العالمية لنصرة غزة، ولمواجهة الجرائم التي يرتكبها العدو الصهيوني في عدوانه الراهن.
3/ قبل وفاة جمال عبد الناصر بتسع سنين بالضبط، أي في الثامن والعشرين من أيلول سبتمبر 1961 أمكن لقوى الظلام أن توجه أول طعنه نافذة إلى روح هذه الأمة وقلبها، وإلى مستقبلها أيضا، حينما تمكنت من فصم عرى أول وحدة عربية حقيقية أذنت بولادة “الجمهورية العربية المتحدة”، بقطريها المصري والسوري، بإقليميها الشمالي والجنوبي، وقيل الكثير في تبرير هذه الجريمة، منهم من قال إن ” الاستبداد” ـ الذي جعلوه سمة النظام السياسي في عهد الوحدة ـ هو الذي دفع إلى الانفصال، ومنهم من قال إن الخيار الاجتماعي ” الاشتراكية والتأميم” هو ما دفع إلى الانفصال، ومنهم من زعم وجود “عنجهية مصرية” في الجيش، وفي الحياة العامة، ولدت حساسية دفعت إلى الانفصال، ومنهم من قال إن إقامة الوحدة أصلا كان فعلا فرضه العسكر على “الحكم الديموقراطي” الذي كان قائما في سوريا، وراحوا وما زالوا يتباكون على تلك الديموقراطية، ومنهم.. ومنهم.. لكن كل هذه الأقاويل تجنبت الحقيقة المرة والواضحة التي تؤكد أن التآمر على الوحدة كان فعلا مشغولا عليه بدقة وبصبر وبمثابرة، وأن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وأطراف حلف الناتو كانوا هم من يقف وراء ارتكاب هذه الجريمة، وأنه كان ممنوعا على المشرق العربي أن يغادر تقسيمات “سايكس ـ بيكو”، وقد رأى هؤلاء جميعا أن جريمة هذه العملية الوحدوية التي ولدت عبرها “الجمهورية العربية المتحدة” هي أنها مثلت الخطوة العملية الأولى لتغيير خارطة المشرق العربي لتتوافق مع الإرادة العربية، وليس مع أهداف الغرب الاستعماري الذي وضع سايكس بيكو وأنشأ على ضوئها الكيان الصهيوني.
أي أن “الوحدة”، وقيام الجمهورية العربية المتحدة خرق القاعدة الأساسية لاستمرار السيطرة الغربية علينا، وهي قاعدة “التجزئة”، وهذا خط أحمر عند أعدائنا إزاء كل ما يجري عندنا ومعنا، لذلك لم يتمكن أحد في المشرق العربي بعد نجاحهم في فصم عرى هذه الوحدة من بناء انجاز وحدوي، تحت أي مسمى، ملكي او جمهوري، اشتراكي أو رأسمالي، إسلامي أو علماني، حزبي أو متعدد الأحزاب. …. الوحدة هي المحرم والممنوع، وكل ما عداها ممكن، لأن هؤلاء الأعداء يعلمون أن ما عدا الوحدة لا يكون لدينا شيء ذا قيمة، ولن يكون عندنا غير إضاعة الإمكانات وتبديد الطاقات وتفتيت جغرافية الدول القائمة.
كل ما قيل في مبررات الانفصال كان يمكن أن يكون مفهوما حين يكون تفاعلا في داخل مجتمع ودولة الوحدة، يقبله البعض منا أو يرفضه، أي حين يكون تعبيرا عن رؤى ووجهات نظر في النظام القائم، وعندها يكون القبول والرفض تعبيرا صحيا عن اختلاف وجهات النظر داخل المجتمع نفسه، ويكون ذلك تنافسا في تحديد الطريق الأفضل للوصول إلى الأهداف نفسها من التقدم والعدالة والوحدة، لكن ما حدث كان خلافا على “الوحدة نفسها” على وجود دولة الوحدة، وليس خلافا على “نظام دولة الوحدة”، ولا على رئيس هذا النظام، لذلك كان الانفصال هدفا، ولم يكن احتجاجا يعكس رغبة في التصحيح أو التقويم، أو المراجعة، أو التغيير، لذلك حين أسقطت دولة الوحدة، لم تقم في المشرق العربي ثانية أي عملية وحدوية.
الذين يتحدثون عن “الاستبداد” في عهد الوحدة حيث تم حل الأحزاب وبناء تنظيم سياسي واحد، ينسون أن هذا الشكل من الحكم كان أمرا متفقا عليه في محادثات الوحدة، وأن الذين حكموا سوريا في عهد الوحدة هم السوريون أنفسهم.
والذين يرجعون الخلل لبنية الوحدة باعتبارها ” وحدة اندماجية” وليست وحدة اتحادية، يتناسون أوهم يغافلون التاريخ الذي يؤكد أن الجمهورية العربية المتحد لم تجسد واقعيا الوحدة الاندماجية، وإنما كانت أقل من ذلك بكثير، كان هنا وزارتان تنفيذيتان في مصر وسوريا، ومن فوقهما وزارة مركزية للوزارات الرئيسية، وأن الجيشين السوري والمصري لم يدمجا في جيش واحد، فكان عندنا الجيش الأول، والجيش الثاني، الأول هو الجيش السوري، والثاني هو الجيش المصري، وأن أجهزة الأمن لم تكن واحدة، والعملة لم تكن واحدة، ولم يتم توحيد البرلمان في البلدين إلا في العام 1960 ووو الخ. وحتى التسمية، فقد تطورت من إقليم جنوبي وإقليم شمالي، إلى الإقليم المصري والإقليم السوري.
كانت دولة الوحدة تبحث “من خلال التطور والتجربة” عن الصيغة الأمثل لبناء أجهزة الحكم والتشريع في دولة الوحدة، وكان الجميع يعلم ذلك، ويشارك فيه، قبل أن يقرر “سياسيو البعث وقادته (أكرم الحوراني ـ صلاح البيطار، عبد الغني قنوتـ مصطفى حمدون) أن يخرجوا من عباءة الوحدة ويصبحوا من القوى السياسية المخربة لجسد هذه الدولة، ولم يكن قد مضى على إقامتها هذه الدولة إلا سنة وعشرة أشهر حين قدم هؤلاء استقالتهم في ديسمبر 1959.
والذين يتحدثون عن دور التأميم في صنع الانفصال يغافلون التاريخ، ويستصغرون ذاكرة الناس، إذ يتجاوزون حقيقة أن قرارات التأميم ” الاشتراكية” صدرت بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو في العام 1961، وأن الانفصال تم في 28 أيلول 1961، وهذا يعني أن الفاصل بين هذه القرارات وجريمة الانفصال لا يتعدى شهرين وأسبوع، وهو وقت لا يكفي لفعل شيء، إن لم يكن الإعداد له قد تم قبل ذلك بكثير، خصوصا حينما يذكرون أن الحكم كان “بوليسيا استبداديا”، أي أن هذه المؤامرة لا علاقة لها بتلك القرارات البتة، ثم إن تلك القرارات التي أصابت شركات بعينها، تم تأكيدها في عهد الانفصال، وأقرتها حكومة بشير العظمة (16-4-1962)، وبقيت سارية، ولم يتم الغاؤها.
ثم إن أولئك الذين لا يرون طبيعة الجريمة التي ارتكبت في حق الأمة في ذلك اليوم لا يستطيعون أن يروا الموقف الجماهيري من الانفصال الذي رفضه من اليوم الأول، ولم تهدأ حركة الشارع، ولم يهدأ الرفض الجماهيري حتى تم اسقاط ذلك الانفصال بعد حياة مضطربة وتظاهرات وسقوط شهداء وقتلى، في مختلف المدن السورية، ولو كان السوريون عانوا من ” استبداد” هده الوحدة ما اتخذوا هذا الموقف الذي ازاد إصرارا وتصميما ولم يهدأ أبدا حتى سقط ذلك الحكم.
حينما توقع المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي (1889 ـ 1975) في كتابه: “بين النيجر والنيل” أن يحقق العرب وحدتهم في زمن لا يتجاوز عن العام 1974 كان ينظر إلى “حيوية التيار الوحدوي” في المجتمع والحياة السياسية العربية، ويقيسه إلى زمن تحقيق الوحدة الإيطالية والألمانية، وكان مأخوذا بهذه الحيوية العربية، ولم يكن لديه القدرة على رؤية عوامل التخريب والتآمر الخارجي على هذا المسار الوحدوي، كانت تلك العوامل مفقودة في التجارب الوحدوية الأوربية، مما أدى إلى ضبط مساراتها الوحدوية بآليات قواها الداخلية، لكن مع “حركة الوحدة العربية” وقواها، الأمر مختلف اختلافا جذريا، ومع وجود الكيان الصهيوني يصبح هدف الوحدة تحديا مصيريا لوجود ومصالح قوى الغربي الاستعماري العنصري، ويصبح مقاومة هذه الوحدة عند تلك القوى الهدف المقدم على كل هدف غيره.
4/ ونحن في سوريا حينما يمر علينا يوم 28 أيلول من كل عام نشعر بهول هذا اليوم وبحلكته، فقد آل الوضع في سوريا تدريجيا إلى استلام حزب البعث السلطة في سوريا،
وعاش السوريون استبدادا وتنكيلا وعسفا، وتمييزا وتصفيات في الجيش والمؤسسات المدنية وفي أجهزة الدولة المختلفة، وفسادا ماليا وأخلاقيا، ولم يبق مكون من مكونات الشعب السوري إلا وأصابه وباء هذا النظام، وما عليه سوريا اليوم هو نتاج هذا المسار الذي إذ بدأ في 28 أيلول/ سبتمبر 1961، فإنه تعزز وتدعم في 8 آذار/ مارس 1963، ثم في 23 شباط / فبراير 1966، وصولا إلى استلام الأسد الأب السلطة عام 1970، ليخلفه الأسد الابن في العام 2000.
لقد باتت سوريا اليوم مقسمة عمليا إلى أربع مناطق على الأقل، في كل منها سلطة مختلفة، وكلها سلطات أمر واقع، تفرض نفسها بالقوة التي تملكها، على اختلافٍ في تقويم كل سلطة من هذه السلطات، لكن يجمعها كلها أن القائمين عليها يستندون إلى قوى خارجية، تحفظ وجودهم وسلطتهم. وتوفر لهم الاحتياجات المادية والعسكرية والأمنية الضرورية لاستمرار هذه السيطرة، وذلك دون اعتبار لإرادة الناس ولا لمصالحهم، ولا لخطر مثل هذا الانقسام على الوحدة الجغرافية والمجتمعية لسوريا وعلى هوية هذا البلد الحضارية والتاريخية والروحية.
في العام 2011 أطلت على سوريا لحظة تاريخية، كان يمكن أن تكون محطة تغير مسار هذا البلد، وتخرجه من ظلمة “المرحلة الأسدية ـ البعثية”، إلى آفاق الحرية والكرامة والمواطنة والشفافية والعدل، لكن فساد النظام، وطائفيته، وتمرسه في الحكم الاستبدادي، وبالمجاز والقتل الجماعي، خنق هذه الفرصة، حين رفع شعار “الأسد أو نحرق البلد”، وحين قَدم الاستئثار بالحكم والوطن وثروات الوطن على الوطن نفسه، وذهب يستدعي القوى الطائفية والدولية التي تدعم وجوده لتعيث في سوريا الفساد، ومكن وساعد بفعله هذا لأعداء سوريا التاريخيين أن يحرفوا ويخطفوا الحراك الشعبي الذي فتح باب هذه الفرصة التاريخية، وليضيقوا على تلك الفرصة التاريخية حتى كادوا أن يخنقوها.
في سوريا التي كانت تتطلع دوما إلى الوحدة العربية، وتتجه عيونها إلى مصر، وترى في هذا المسار كل فرصة لمواجهة العدو الصهيوني، وكل فرصة لتحقيق التقدم، وكل فرصة لأخذ مكانتها تحت الشمس في هذا العالم، باتت اليوم وهي تتشوف وحدتها كأرض وشعب ومؤسسات، فقد أصبح هذا الهدف هو المبتغى الذي يشكك الكثير من الأطراف في إمكانية الوصول إليه، وانزوت أو كادت أن تنزوي كل الأهداف الأخرى، وكل ما كان يحرك السوريين ويتحرك معهم من أحداث وقضايا ليس على امتداد الوطن العربي فحسب، ولكن على امتداد العالم كله. من قضايا تحرر الشعوب إلى قضايا محاربة العنصرية إلى قضايا حقوق الانسان.
28 أيلول / سبتمبر يوم أسود، لم تستطع الأمة حتى اليوم أن توقف تداعياته، وبالتالي لم تستطع أن تخرج من إساره، فيه غاب قائدها الفذ، ما افسح الطريق لبدء مسيرة الخذلان أمام العدو الصهيوني، وفيه غابت أول تجربة وحدوية لتجاوز تقسيمات “سايكس ـ بيكو” الاستعمارية للمشرق العربي، وفيه بدأت مسيرة تخريب وحدة المجتمع السوري وتماسكه وحيويته، وفيه بدأت مسيرة الطائفية والفساد والاستبداد والتفريط بالوطن، وبالوحدة الوطنية، ومن بابه بدأت عملية تجفيف الحياة السياسية، حتى صار التبعيث سمة من سمات الحياة العامة في سوريا، ومن خلاله دخلت القوى والدول المعادية لتعيث فسادا في هذا الوطن.
28 أيلول / سبتمبر يوم أسود في تاريخنا … لكن لابد لنا أن نتجاوزه، ولا بد لسوريا أن تتجاوزه، من أجل سوريا نفسها، ومن أجل فلسطين، ومن أجل استئناف الحياة الطبيعية لهذه الأمة.