إقتصاد وتكنولوجيامقالات

كارل ماركس يصافح “كورونا”

عبد الرحيم التوراني/ المغرب

خاص “المدارنت”.. 

من منا لا زال يشك في أن البشر دخلوا مرحلة جديدة لا تشبه سابقاتها عبر التاريخ الكوني، وهل هناك من يجادل في فرضية أن هذا الوباء سيكون له تأثير كبير على العالم؟!

فلم يعد الكلام والحديث عن المستقبل مجرد فكرة بألوان الافتراض، بعد أن ولجنا واقعيا باب المستقبل. عندما سمعنا رنات جرس الباب وفتحنا، فإذا بنا أمام ساعي المستقبل، وبيده رسالة موجهة إلى العالم، لما تهجينا أحرفها، وجدنا بها كلمة واحدة، لها نفس النطق والمضمون والسحنة والدين وأعراقنا وأدياننا، وفي كل لغاتنا، الحية منها وتلك الميتة: كاف واو راء واو نون ألف… “كورونا”.

***

كلما انخرطنا في مراكمة المعلومات حول هذا الوباء، نجد أنفسنا نغرق في سرمدية اللايقين، ماثلين أمام عتبات الرعب وانكسارات الروح.

هكذا نقضي ساعات يومنا، وننام ونصحو على كورونا، لم يجد الناس يوما، منذ بدء الخليقة ربما، أنفسهم مجتمعين على التفكير في موضوع واحد، كما نعيشه هذه اللحظة، نشرات الأخبار على القنوات والفضائيات والمواقع، غزاها واحتلها الفيروس الشرس، أقفلت الأجواءـ صارت المطارات كصحاري موحشة، تعوي فيها الرياح كذئاب موجوعة، ويلعب فيها الغبار مع الأتربة والحصى لعبة “خذ وهات”. ولا أرض أنجى من أرض. فإلى أين تلوذ؟! أغلق كل بلد على نفسه، واعتقل الأشخاص أنفسهم داخل زنازين، كانت قبل قليل تسمى بيوتا وفيلات وشققا وإقامات وقصورا. صار الجميع يصحو مبكرا ليتناول وجبة فطوره، خبزا مدهونا بزبدة ومربى وعي الزمن الأخير وقهوة النهاية. يقول أصحاب اللحى عندنا إنها “علامات الساعة” ويطالبوننا بالتوبة، ليكتشف البعض أنه كافر من كفرة قريش.

وتفتش راقصة عن وجهة القبلة، يتخيل إليها أن ما تصنعه بجسدها الرشيق، وهي تسيطر على التواءاته وانحناءاته كالنحات، هو فعل شيطاني جلب هذا الوباء. فلا تعرف المسكينة عدد الركعات فتبكي. وهي تسمع عن ألما ينتظرها في الجحيم، صحبة امرأة أبي لهب التي “في جيدها حبل من مسد”.

***

لا شيء يتحرك، باستثناء الأخبار، والمعلومات حول الوباء المنتشر بسرعة الفيروس نفسه، من دون أن يعرف أي شخص حقًا المزيد عن طبيعته أو مسافات فتكه الآتية.

أتذكر قطعة كنا نحفظها في المرحلة الابتدائية بعنوان “الحيوانات المرضى بالطاعون”، ولم نكن نعرف أنها تعود للكاتب الفرنسي لافونتين، إذ لم يخبرونا بذلك في الكتاب المدرسي، التي أعده الطنجاوي المرحوم أحمد بوكماخ في سلسلته الخالدة “أقرأ”.

وها أنا أحاول الآن قراءة ذلك النصّ البعيد، المقتبس عن “كليلة ودمنة” للشهيد ابن المقفع، فأقرأه هكذا: “البشر المرضى بالفيروس”، ولماذا أستبدل الحيوانات بالبشر، أليس البشر من الحيوانات؟ حيوان ناطق أو عاقل، أو ضاحك، الى ما ذلك من الأوصاف التي نزعم أنها تنقص حيوان الغابة وحيوان الدار، مثل القطط والكلاب.

***

 تأخرت كورونا في الوصول، وكانت رؤوفة بنا، فلم تدخل علينا إلا بعد أن اخترعنا الأنترنت وأجهزة الحواسيب والأيفون والهواتف الذكية، فجاءت لتختبر ذكاءنا المزعوم، بل لتختبر جشع الرأسمالية، وقد بلغت أعلى درجات الوحشية، فأوقفت الدوران الهائل لمصانع الأسلحة القاتلة، التي لا يتوقف أزيز محركاتها، وتدور بسرعة فاقت دوران الأرض بالمجرة الشمسية.

كورونا تحدت مصانع الأسلحة، ونشرت الرعب الكبير غير المسبوق، الذي ليس قبله رعب على وجه البسيطة، أو على صفيحة السماء. رعب يقتل من غير دم، فلا أحد تمكن من القبض على المجرم، أو تشخيص ملامح القاتل بدقة. ولا توجد هناك أداة القتل، إذ ليس بيده سكين ولا مسدس، ولا ساطورا أو قطعة حجر أو قارة ترياق مسموم. من يستطيع منافسة هذا القاتل المتسلسل، من غيره يجيد القتل والانسلال كالهواء غير المرئي؟ ولا ذئاب أو ثعالب مفترسة أو دببة بأبوابنا، شوهدت أو ضبطتها الكاميرات المعلقة.

***

لم تعد الرأسمالية صالحة للعالم، يقول صديقي اليساري. أما رفيقتي التشكيلية، وقد نسيت لوحتها الجديدة غير مكتملة، فقد اقترحت علينا استدعاء ذلك الرجل المثقف الفقير،  الساكن في شقة صغيرة بلندن، إن اسمه كارل ماركس، هو من باستطاعته أن يسعفنا اليوم، ويعيد صياغة جديدة للاشتراكية التي أطلقها على الناس، وذهب لينام نومة محتضر فوق أريكة، فلم يصدق أحد أنه مات. أخبروه أن الناس اليوم بحاجة إلى أدواته، لا لحيته أو جبينه العريض، ولا بأس إذا تنازل، وقام بتعديل مفاهيم نظريته العلمية. فالمجتمعات مستعدة للتغيير من دون كومونات ولا بولشفيك أو منشفيك، ولا من يحزنهم بدكتاتورية البروليتاريات و”المركزية الديموقراطية”.

***

إنها لحظة موغلة في الخيال، ولن يمكن تجاوزها إلا بالخيال، وقد صار التعليم عن بعد والعمل عن بعد، والتحيات كلها عن بعد، ولا مجال لإمساك يد بيد، أو للقبلات. فكيف يزيد البعاد متانة الروابط، ويؤسس لعلاقات إنسانية حقيقية، أذكت التضامن وزرعت المحبة بين الناس، وها هم يجربون ويرتجلون الحب والمحبة عن بعد، فوجدوها أنها هي الأصل، وغيرها مصنع مثل أكل المعلبات.

***

  خرج مانديلا من السجن ليغيّر النظام العنصري في بلده، وقبله خرج أحمد بن بلا، وغيرهما كثيرون، خرجوا من السجن إلى مسك مقاليد الحكم في بلدانهم، كذلك سيخرج الناس من حبسهم وحجزهم، ليغيروا أنفسهم بأنفسهم، ليغيروا الحياة الفانية بحياة منبعثة من الحياة.. فالتفت حواليك وقم بتغيير ما بك.  غير نفسك.

=-=-=-=-=–=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=

 

 

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى