ســرّ الـنــهـضـــة الــحـقـیـقـیــة..
خاص “المدارنت”..
إن أيّ مجتمع من المجتمعات وأيّ بلد من البلدان وأيّ أمة من الأمم المتخلفة والجاهلة، لا يمكن لها بأن تنهض من عثرتها وتفيق من سباتها، وتتخلص من تخلفها وجهلها، ومن ثم تبني نهضتها وترقى وترتقي حضاريا مع غيرها من الأمم الأخرى، إلا إذا كانت تلك النهضة قائمة على أساس سليم وقاعدة صلبة ومتينة، تلك القاعدة، وذلك الأساس.
هي قاعدة القيم النبيلة والأخلاق الحسنة الحميدة والمبادئ السامية، (الوعي الأخلاقی)، ذلك الوعي الأخلاقي الذی یری الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط، “أن الوعي الأخلاقي هو الذي يجعل من الواجب على كل إنسان احترام الآخر، حيث يشير إلى ذلك بقوله: تصرف دائما بالشكل الذي يجعلك تعامل الإنسانية في شخصك كما تعاملها عند كل الناس دائما كغاية لا كمجرد وسيلة”، وهو كذلك، يرى بأن العقل الصرف هو الذي يجب بأن تؤسس عليه المبادئ الأخلاقية، حيث يشير إلى ذلك بقوله: إن مبادئنا الأخلاقية يجب أن تؤسس لا على التجربة ولا على العاطفة بل على العقل الصرف.
أما عالم الاجتماع الفرنسي جان جاك روسو، فيقول: “إن الإنسان ليست لديه معرفة نظرية، لكن بمجرد ما يدرك الخير بعقله حتى يحمله وعيه على حب هذا الخير، وهذا الإحساس هو وحده الفطري، وبأن الوعي الأخلاقي هو نداء داخلي فينا، يمكننا من تمييز الخير عن الشر، وهو مبدأ فطري للعدالة والفضيلة يمنحنا معايير التمييز، وهو صفة داخلية وعامة بين كل الناس، بغض النظر عن انتماءاتهم وتميزهم.
أما الفيلسوف والأديب والشاعر الألماني نيتشه، وكذلك عالم النفس النمساوي الشهير سيغموند فرويد، فإنهما يريا عكس ذلك، حيث يتفقان على أن الإنسان ليس خيرا بطبعه وفطرته، بل العكس من ذلك تماما، وبأن التنشئة البيئية للفرد هي التي تحدد وعيه الأخلاقي من عدمه، ومن ثم السلوكيات الأخلاقية من عدمها، حيث يقول نيتشه بوجود نوعين من الأخلاق، أخلاق السادة التي تجسدها القوة والعنف والاستغلال، وأخلاق العبيد التي تجسدها الرحمة والشفقة والمساواة.
أما فرويد، فيرى من وجهة نظر نفسية نفسانية، بأن الوعي الأخلاقي جزء من نفسية الإنسان وليس كيانا مستقلا عنها، وبناء على ما سبق وبغض النظر عن الاتفاق أو الإختلاف مع ما سبق ذكره، كليا أو جزئيا، وكذلك صوابية ذلك من عدمها، فإنني يمكن بأن أعرف الوعي الأخلاقي وبإختصار شديد، بأنه مجموعة القواعد والقوانين والثوابت الأخلاقية، فطرية كانت أم مكتسبة والاعم كليهما معا، سماوية كانت أم أرضية والاعم كليهما معا، التي يتشكل ويشكل على أساسها ووفقا لها الوعي الأخلاقي للإنسان الفرد اولا، ومن ثم الإنسان الإجتماعي ثانيا، والتي تجعله يميز بين الخير وبين الشر بشرط أن يملك الأهلية العقلية والنفسية والنفسانية لذلك.
فالإنسان الفرد فطريا في مولده وغير فطريا حال حياته ومماته، ذلك الوعي الذي يستمد مصادره من الشرائع السماوية السامية السمحة والأرضية الحسنة، التي تتوافق جوهريا معه، ولن يكون ذلك ممكنا إلا إذا تجذرت تلك القيم وتلك الأخلاق، وتلك المبادئ..في الوعي الجمعي الاجتماعي عموما، والنخبوي منه خصوصا لتلك الأمة، بحيث تتحول إلى سلوك يمارس على أرض الواقع المعاش، ومنارة خلاقة أخلاقیة يهتدي بها أولئك المستضعفون في الأرض، يتمثلون ويتماهون بها، عندئذ فقط تستطيع تلك الأمة أن تؤدي دورها الحضاري المناط بها في هذا الكون، بالتفاعل الإيجابي مع غيرها من الأمم، وتضمن استمرارية نهضتها مادامت متمسكة تمسكا شديدا وقويا بتلك القاعدة، التي قامت على أساسها ووفقا لها، والتي لو حادت عنها ولو قيد أنملة، تكون وقتئذ قد حكمت على نفسها بالانحطاط والتفتت والتشتت، وأصبحت حينئذ خارج سياق الجغرافيا والتاريخ الذي تعيش فيه.
والدروس التاريخية كثيرة، وخير مثال على ذلك، إذا تفحصنا التاريخ الإنساني جيدا، لوجدنا أنه لم تقم حضارة فيه على قاعدة البربرية والوحشية، إن الأمة التي لا تستطيع أن تفرز في وعيها الجمعي الاجتماعي عموما والنخبوي منه خصوصا، تلك القيم النبيلة والأخلاق الحسنة الحميدة التي على أساسها ومن خلالها تحكم على الأفراد والجماعات، سلبا أو ايجابا، وفقا لما قدموه لها.
بمعنى آخر، أقول: إن تلك الأمة التي ما تزال تقدس جلاديها ومستعبديها وناهبي حقوقها، وعيا وسلوكا، قولا وفعلا، وتعتبرهم رموزا لها، ما يزال أمامها الكثير الكثير، وما تزال طريقها طويلة، وطويلة، حتى تدرك أنها تستحق الحياة والعيش، مثلها مثل بقية الأمم الأخرى المتحضرة، وعندما تنعدم الأخلاق النبيلة عند الإنسان الفرد والإنسان المجتمع، في أي مجتمع من المجتمعات وعيا أخلاقيا نبيلا بها، ومن ثم مسؤولية أخلاقية بما توجبه وتفرضه تلك المسؤولية، في ظل غياب شبه تام لأي جهة رقابية، تنعدم نتيجة لذلك كل الأفعال والأقوال والسلوكيات والتصرفات الأخلاقية النبيلة، وتحل منظومة القيم اللأخلاقية، “السلبية”، محل منظومة القيم الأخلاقية “الإيجابية”، وتصبح واقعا معاشا وملموسا وممارسة يومية.
فلا غرابة بعد ذلك من ان ينهار ذلك المجتمع، أفرادا ومكونات مختلفة، ويدخل في “المرحلة اللأخلاقية” بكل سماتها وخصائصها ومظاهرها ونتائجها، إنه لا يمكن لأي نهضة حقيقية في المجتمعات والشعوب المتخلفة والجاهلة والغير متجانسة اجتماعيا وثقافيا وعقائديا ودينيا ومذهبيا… إلخ، والتي يتحكم بها وفيها وعي التخلف المقدس، بما ينتج عنه ووفقا له من سلوكيات متخلفة وجاهلة، إلا بإحداث ثورة فکرية أخلاقیة تنويرية، تستهدف تنوير الوعي وصولا إلى وعي التنوير، وذلك بواسطة القیام بعملیة تفكيكية – احلالیة تستهدف ذلک الوعي، “وعي التخلف المقدس”، عبر سلسلة من الهزات الوعيية لتلك المكونات الرئيسية، التي أنتجت ذلك الوعي، “وعي التخلف المقدس”.
عندئذ، نستطيع بأن نتحدث عن النهضة الحقيقية بكل مقوماتها واعمدتها. قال تعالى في كتابه الكريم:
“وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰلِحُونَ”.
وقال أيضا: “وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا“.. صدق الله العظيم.
وقال “ص”: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
كما قال أيضاً: “لا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا)”. صدق “ص”.
وقال أمير الشعراء العرب أحمد شوقي: “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”.