تربية وثقافة

فـــاديـــــــة الــتـــنّـــيــــــــر..

ناجي سعيد/ لبنان

 

خاص “المدارنت”..

… شاءت الظروف، أن اتابع دراسة الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية/ قسم الرسم والتصوير. فالعائلة تعرفني “موهوب بالرسم”.

كنت أسترقُ الوقتَ من الحصص، لأشاهد “تحكيم المسرح”. والتحكيم هو عرض طلاب قسم المسرح، الذي يُقدّمونه أمام لجنة التحكيم، المكوّنة من أساتذتهم وهم مُخرجين مسرحيين. وبالطبع، كنتُ محظوظًا بهذا الفضول الذي دفعني دائمًا الى مشاهدة العروض المسرحيّة، حتّى ولو كانت مجرّد تمارين.

فقد تعرّفت على معظم المخرجين المسرحيين، ولم تكن مجرّد معرفة عابرة، فقد تشاركنا في الجامعة نفسها، “القهوة في الكافتيريا، الحديث والنقاش عن فنون الرسم، النحت والمسرح، وعن الثقافة والكتب الجديدة… الخ. كل ما ذكرته هو ذاكرة، شاركني بها العديد من زملاء المرحلة، فمنهم من بقي صديقًا لفترة طويلة، ومنهم من وجد اهتماماته بمساحات أخرى. وما باغتني بالمفاجأة – والمفاجأة مُتوقّعة – أن أصادف شخصًا من ذاك الزمن الجميل، وأقصد أيام الدراسة الجامعيّة، ينفُضُ الغُبارَ عن الصور الجميلة المُشتركة حينذاك! ويفتح مساحات من الذاكرة التي تبدو أنّها مشتركة، وكلّ ظنّي بأنها خاصّة بي وحدي! فهل يعقُل أن يتشارك الذاكرة شخصان مختلفا النشاط والدراسة والعمل؟.

لقد أفادني كتاب “الذاكرة الجمعيّة”، للمؤلّف الفرنسي “موريس هالبواش” (ترجمة د. نسرين الزهر)، “لا شيء يتعارض مع أن تتداخل في كلّ الحالات..” والحديث هنا عن الذاكرة.

وفي الكتاب عينه، يستشهد المؤلّف بما قاله الفيلسوف الفرنسي ديزيريه روستان (1873-1941): “إن اكتفيتم بالقول إننا حين نعتقد بأننا نستدعي الماضي، يكون هناك 99% من إعادة البناء و1% من الاستحضار الحقيقي، هل هذا المتبقّي، أي 1%، المقاوم للتفسير كافٍ كي يُعاد طرح مشكلة حفظ الذكرى..”.

وما شغل تفكيري، ليس الخوض بمحتوى كتاب “الذاكرة الجمعيّة”، بل قدرة وبراعة “فاديا التنّير”، على استحضار حقيقي بنسبة تفوق بالتأكيد الـ1 % كما قال الفيلسوف الفرنسي! فقد أضافت على الاستحضار الذي يعوز المُخيّلة لإيجاده، مهارتها بالتمثيل، التي تُضفي أبعادًا ليست ثلاثيّة كما في التصوير الزيتي، بل ستّة أبعاد كما في النحت، وأضافت بعدًا سابعًا، استعارته من صفة الفنّ السينمائي.

جسّدت فاديا، ذاكرتها وذاكرة العائلة التي غابت بفعل الزمن والمرض، والاختلاف الذي لا يتقبّله المجتمع. على الرغم من ان فاديا استحضرت المجتمع البيروتي الأصيل، بصوتها غير المُتخصّص بالغناء، صدحت كلمات “عمر الزعنّي” البيروتي العتيق، فاستحضرت بيروت بشوارعها القديمة وعملتها الأصيلة الوطنيّة، فكانت بيروت “زهرة في غير أوانها”..

وعرّجت مع “أحمد قعبور” إلى بحر بيروت، لتُنعش الذاكرة وتُبلّل صور العائلة من استحضار الحنين في صوت قعبور البيروتي الأصيل. ليس من السهل أن يستجمع الإنسان الماضي المُمتدّ في ذاكرته، ولا أقصد هنا المعيار الكمّي، بل النوعي، فعدد السنوات لا يترجم ما تعلّم الإنسان منها. فإعلانه عمّا تعلّمه من السنوات- مهما طالت- يكون من خلال عمل فنّي: مسرح/رسم/ سينما/ رواية.. مسرحيًّا، لم تهدم فاديا (كما يطلبون من الطلاّب في قسم المسرح) جدار بريخت الرابع، بل هدمت الجدران الأربعة، لتبني عالمًا جديدًا بلا جدران.

عالم تحرّر من معاناةٍ عاشتها فاديا مع عائلة تقليدية، عائلة احتضنت “حنان”، التي تعاني تأخّرًا ذهنيًا يعتبره غيرُ الواعين في المجتمع “تخلّفًا”! وعن ماذا؟ هل التخلّف عن التطوّر؟ الحضارة؟ المدَنيّة؟ المواطنة؟ كلّا بالطبع، حنان تخلّفت عن اللاإنسانية، وعن الجهل، وعن الظلم. لكنّها عاشت في حضن أهلها بطمأنينة.

وبعد غياب الوالدين القسري، عاشت ما تبقّى من عمرها مع فاديا. الدليل القاطع على استحضار الأمكنة من ذاكرتها، ولترشدنا إليها، كنّا كجمهور ننتقل من غرفة إلى أخرى، لندخل في ذاكرة المكان مع فاديا علّنا نتشارك طعم اللحظات الماضية التي عاشتها، على الرغم من التأكيد على أن أحاسيسنا كانت انعكاسًا لمواضيع خارجية لم نحضرها.

ولكن كان بإمكان الحاضرين، أن يربطوا ذكريات فاديا بصورٍ تضمّنت أشخاصًا نبّهت لهم الذاكرة الفردية أثناء كلام فاديا. لقد استطاعت بعفويّة مُطلقة، من دون تمرين مُسبق وبروفات، ومن دون تدريب صوتي، أن تأخذنا إلى ذاكرة جمعيّة، ولم تحتاج الى ذلك، سوى حضور فعلي لأحاسيس، مشاعر، ذاكرة فرديّة، عقل وقلب يعملان معًا باتزان يضاهي اتّزان كبار المؤرّخين، الذين يضعف بعضهم أمام معيار المصداقية، لتشوب التأريخ بعض الثغرات.

فاديا، بجرأتها كتبت تاريخ بيروت، من زاويتها، من دون الخضوع لفكر ما وأيديولوجيا معيّنة. فكانت النتيجة، “بيروت شويّة ناس وزواريب وشوارع وعيون عا شبابيك وحلم من جرحها طالع..”.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى