تربية وثقافة

كائناتٌ لدى الشجرة ذات الخُرْم..!

  د. الأخضر بركة/ الجزائر

خاص “المدارنت”..

معلّقةٌ..

هي الشمسُ في وسط السّقف منذ لا أحد يدري متى

والمكانُ يضيق كأصيصٍ حول نبتة صبّارٍ،

أو يمتدّ صحراءَ من الفَقْدِ، والخَلْقُ يمشون

محمولين على قطعٍ من الإسفلت عائمةٍ في الهواء.

كنّا كثيرين كنمل دهستْ مساكنَهُ أقدامُ العمى

كنّا قليلين كسحبٍ تعطبُ يقينَ الصّيف، حين

فتحتْ لنا ذراعيها في الطريق شجرة:

مرحى لذوات الجذورِ المتحرّكة على الأرض – (تقصد أرجلَنَا).

مرحى لجذوعٍ بغُصْنَيْنِ فقط. (تقصدُ أذرعَنَا.)

مرحى لذوي الثّمارِ التي لا تسقطُ، بل تتصاعدُ منزوفةً إلى أعلى،

(تقصد أصواتَنَا).

تريّثوا عندي، أنتمُ الذين

لا تكفّون عن التهام الأمكنة في بطون الغياب.

أنتم الذين لا تكفّون

عن بعثرة أوراقِكم من غير أن يمْسَسَكُمْ خريف.

أنتم الذين لا تكفّون عن إحداث الخدوش

بأظافر أحلامكم في زجاج الزمن، من دون أن تحدثوا ثغرة.

تفرّون ممّا هو لصيق بكم كالظلال

مثقلين بجماجم مكتظّةٍ بالذي أنتمُ منه تفرّون.

ما الذي صيّركم شتاتا كشظايا الزجاج في حادث سير؟

ما الذي جعلكم تستبدلون بعريكم الأوّلِ حريرَ الأكاذيب؟

ما الذي أخرجكم من شقوق الطّوب، من علب الاسمنت؟

ما الذي أحضَرَكُم من منافي الزّنك والألواح؟

ما الذي أنهضَكُم عن أسرّة الكرتون من تحت قناطر النّسيان؟

ما لذي أوْجَعَكُمْ

فوزّعَكُمْ كأزيز النَّحْلِ في الغابات؟

ما الذي جاء بكم وادياً من عطش؟

**

كان صوت الشجرة يأتينا من خُرْمٍ لها في جذعها.

أغصانُهَا المستشزراتُ

مِزقٌ من سراويل القنوط، وقمصان السأم وأخبار القيامة.

مشدودةٌ بالدبابيس أوراقُها الصفرُ إلى حطبِ الأوقات.

لحاؤها نصٌ تحفّر بالأوشام،

بالتعاويذ وشتائم العشّاق.

**

تريّثنا لديها،

وكان فتىً فينا أجرأَ الناطقين،

ذارعاهُ مجدافا قاربٍ في لُجَّةِ اللحظة،

متهدّج الأنفاسِ بغصّةِ نَمِرٍ يستيقظ للتوّ من التخدير في قفَصِ الخديعة:

اسمعي يا شجرة!

أنا أتّهم التربةَ،

إذ كلّما فتحنا لجذورنا فيها مكانا يضيق بنا،

فنخلعُهَا شِبْهَ مسلوخةٍ ثمّ نجري

الى تربةٍ أخرى لنغرسَها قبل أن تيبسَ أصواتُنا.

أتّهم الشّمسَ

تشرقُ علينا ونحن نيامٌ، وتغرب عنّا ونحن أيقاظ.

أتّهم الأمطار،

تسقط من دون أن نغرسَ

وتتوقّف من بعد ما نغرس

أتّهم خيّاطيّ الثياب، يأخذون مقاسات أجسادنا من مرايا

مقعّرةِ الروحِ

أو من مرايا محدّبةِ الرّوح.

أتّهم هواءً يهبّ على نوافذنا أيّامَ الغَلْق، ويغيب أيّامَ الفَتْح.

أتّهم نساءً صرن يحبلن بأحلامٍ

ليس لها في ترائبِ الرجال ما يكفي من خيال الماء.

أتّهم رجالا يحرثون حيث لا بذر، ويبذرون حيث لا حرث.

أتّهمُ الصّمتَ لا يلتفتُ للدَّمِ في جراح الكلام.

أتّهم الكلام لا يلتفتُ للدّمع في أعينِ الصّمت.

أتّهمُ العصافير

هزِئتْ من الغُصن، واستبدلتْ بأعشاشها بذخَ الأقفاص.

أتّهم الخبزَ، لم ينتبه للمسامير في قلبِ العجينة،

أتّهم اللّغة

مُلغمّةً بسكاكين وهمِ الهويّةِ،

أتّهمُ نارا تفتكُ بالأخضر، وتخشى الاقترابَ من اليابس،

أتّهم المصابيحَ

تحتقرَ ضوءَهَا مفتونةً بطياليس الظلام

**

عندها نهضتْ من بيننا طفلةٌ

ضجرت من قعدة القرفصاء على عُشب يابسٍ،

صمتُهَا علبةٌ سوداءُ في ركام طائرةٍ تحترق.

قدماها ارتعاشُ قَصَبَتَي سُكّرٍ نبتَتَا في حقل المرارة.

دميتُها المنزوعة الذراعين في يدها تُوحي لها ما تقول:

تعبنا من المشيِ بأحذية جلدُها حشرجاتُ الرّياح،

تعبنا من التَّعَب الذي ليس فيه عرَقْ،

تعبنا من الانتظار لما لا يجئ ولا يندثر.

قال لنا كاهنُ الطّين اذهبوا

إلى موطئ قدميّ آدمَ في صلصل النّص، ذلكمُ ربّكُمْ.

قال لنا خازنُ المخطوطة ارتقبوا نجمة الشّرق

على كتف الجنرال المُبَشَّرِ بالخير، ذلكمُ ربّكم.

قالت لنا جدّةُ الأغنياتِ على لوح سبّورة الصّبحِ،

عودوا إلى الصفِّ ذلكمُ ربُّكم.

قال لنا حجرُ الأرصفةِ اخرجوا حالمين

وحاملين للأعلام والأعوام والورد والألواح، ربّكم المشيُ،

حاصرنا حُماةُ اليأسِ يا شجرة.

حاصرنا ذبابُ الوقتِ والمَّقْت،

ثمّ لم نفهم كيف اطمأنّت منّا أسماك ٌكثيرة

لنُبُوءاتِ الشِّبَاك.

حاولنا أن نبكي

بيد أنّ الدموعَ استحالتْ في محاجِرنا حصى.

حاولنا أن نكتب بالفحم على الحيطان

فاتُّهِمْنَا بأنّا نحاول هدمَ معابدَ يُعبد فيها جامعوا القرابين.

قلنا إذن سنواصل المشيَ،

فاندسَّ فينا القمّلُ والضفادعُ وذوات النّاب والمخلب.

تعثّرنا في حُفَرٍ

نتوهّمها تحت أقدامنا في طريق البال.

تعثّرنا ببلاهة الأهواء فينا،

تعثّرنا بنا.

**

وقفت لها فتاةٌ تحملُ المرآة،

مصقولةٌ كالرّمحِ من قُنّب الحُرقة النادر،

مزدحمٌ هاتفُها برنين الكائناتِ من ذوات أعشاش الأرق المعلّقة في قرميد اللّيل.

-أدعوكم أنا الفتاةُ حاملة المرآة أن تخلعوا أعينَكُم،

وأن تمنحوها لي في صحْنِ حيرة،

ولسوف أعيدُهَا بعد أن يصلَ الكلامُ إلى الطّين في البئر.

علّقتْ حقيبتَها الحمراءَ الصغيرةَ على كتفِ غيمةٍ تتبعُها كأختٍ لها بالرضاعة من ثدي السّماء القديمة.

ثمّ انطلقت كماءٍ يتدفّق في كأسِ السّماع من قارورةِ حنجرة الغزال.

-أنتم لا تنظرون إلاّ

إلى بعضِكُم البعض، انظروا في المرايا.

ثمّة فراغ ٌكبير يفصل اللَّحْمَ عن العظم، فراغٌ

بين الجماجم والأقدام، بين ما تسمعون، وما تبصرون،

بين المعدةِ والقلب، بين الهواء والرئة،

مغزوّةٌ خطوتي بالفراغ

هو ليس لا شيء،

هو ترسانةُ المفاتيح تبحثُ في العتمةِ عن باب.

هو جبالٌ من الحزنِ العاجزةِ عن إبداع دمعةٍ واحدة.

هو قطار ٌمن ملايين العربات لا تجمعها سكّة واحدة.

هو غاباتٌ من الثرثرة ليس فيها ورقةٌ خضراءُ واحدة.

هو صولجاناتٌ بعدد موتى المقابرِ لا تصلح حتّى

حطبَ نارٍ لإنضاج رغيف خبزٍ واحد.

الفراغُ في المرآة

شجرةٌ بذّرت أوراقَهَا في قمار الرّياح،

لا وجهَ في المرآة،

بل هوّةٌ للنزول

بلا حبلٍ إلى القاع لو تجرؤُون.

**

أَوْجَعْتِنا بمرآتكِ، كفّي عن الهذيان، -قال حاملُ الجيتار،

مُعصّبًا رأسه بشريطٍ أبيضٍ

كان قد اقتطعَهُ بمقصّ الأسفِ من جناح نورسٍ ميّتٍ على الشاطئ.

ضفيرةُ شَعْرِهِ شُدّتْ إلى الخلف بطول ساقيّ اللّقلق في مَرَجِ الذاكرة.

– سأغنّي، قلتُ لكم منذ البدْءِ سأغنّي

أحتاج فقط إلى الكلمات، الكلماتُ لا أعرف أين اختفتْ،

فتّشتُ في كتُبِ الشّعرِ، ثمّة حبرٌ كثيرٌ، دونما كلمات

توسّلتُ ساقيةً أن تعيرني بعض الخرير من دون جدوى،

توسّلتُ موجاً على شاطئ البحر،

توسّلتُ صفصافةً شربةً واحدةً من حفيف

توسّلتُ الحجر

أن يسلّفني رعشةً ممّا منحتهُ قطرةُ الماء في الكهف،

بحثتُ في صناديق الطفولة عن الذكريات

قيل لي ذهبتْ كلُّها

مع أصحابها في السَّفَرٍ إلى حيث لا أحد يدري.

توسّلتُ أمّي،

هذي التي معي الآن تحمل المكنسة.

لكنّها لم تعد تدندن حين تكنس الأرض كما كانت تفعل من قبل.

توسّلت بستانيّ الحديقة، قال النباتاتُ

لا تحدّثني مذ خذلها الماءُ معتصما بالسّماء.

جِدوا الكلمات لي، وسأغنّي، شاخ بين ذراعيّ الجيتار

انظروا كيف أوتاره لم تعد مشدودةً،

وتجعّد وجهُهُ الخشبيُّ في شمس المسيرة.

الجيتارُ قلبي

وقلبيَ علبةٌ مكتظةٌ بعواصف الرَّغْبَةِ في الغناء

**

رمقه الرجل المدخّنُ، ذو النظّارة من غير زجاج

مستهزئا هامسا:

من أين جاءنا صاحب النّص بهذا المرجلِ الجيّاش؟

ما جئنا لنندب هاهنا،

ناولوني قدّاحةً، -قال.

فضربت له الأمُّ بمكنستها حجراً بالحجر، حدَّ الشررِ،

أشعل سيجارتَهُ منه، واستأنف: ينبغي الحفرُ، هنا وهناك،

لا تثقوا في هذا الهواء احفرُوه،

ينبغي أن تجدوا فيما تعتقدونه الأرضَ أراضي أخرى

وقد يكون الذي هو أنتمُ ليس أنتم، بَلِ الآخرون.

(كانت سيجارته تضع الفواصل والنقاط،

وتضيف هنا وهناك ما يلزم من قِطَع الصّمت في زوايا الكلام،

حتّى أنّها كانت تتفقّد خيوط النّبر في جهاز النطق،

ودخّانُها ساعي بريدٍ دونما درّاجة يجري غاية الأسماع

ليطمئنّ على انزلاق الصوت فيها).

لا تدعوا سطحا ينوب عن العمق،

لا تدعوا عمقا يراوغُكُمْ بالسُّطوح.

لا تثقوا في وضوح اللغة،

لا تثقوا في غموض اللغة،

فتّشوا كُومَ الصَّمْتِ في المفردة الواحدة

فتّشوا هذه الشجرة أيضا، وحتّى اسمَهَا فكّكوه بأسنانكم

ما الذي جاء بنا إليها من أقاصي الجنوب والغرب والشّرق

ما الذي منحها سلطةَ النّظر،

سلطةَ الفحص،

سلطةَ التصنيف بأنّنا أشباحُ المتاه

***

عندها اعترضه “الرجلُ الظانُّ دوماً أنّها سوف تمطر”،

نبرتُهُ حبّاتُ مِسْبَحَةٍ يجمعها خيطُ انفلات النسغ من حَطَبةِ التّين في نار الشّتاء،

-أنتم لا تنظرون إلى السّماء أبدا،

فتطلّعوا برؤسهم إلى الزُّرْقَةِ، كانت

مثل غطاء طنجرة فوق بخار حيرتهم.

ثمّ إليّ أنا صاحبِ النّص، متسائلين:

-من يكون هذا المعلّق من عرقوبه بالغيب.

قال هو: سأعفيك من وصفي أيّها الراوي لدى الشجرة.

أنا الرجل ُالذائب كالشَّمْع ِمن حول خيط النّار في اللّيل.

معلقَّةٌ بالسّماءِ عيناي،

معلقَّةٌ زفرتي بالسّماء

خزانةُ ثيابي وجراحي وكآبتي وغبطتي فيها

حسرتي الزرقاءُ فيها وغيومُ هواجسي،

لا يكفّ قلبي المنطادُ عن سحبي إلى أعلى

لا تكفُّ الروحُ عن تحويل آلامي إلى أجنحة

السّماءُ لم تغيّر أبدا زرقتَهَا، صمتُها لُغتي،

ونوافذُ بيتي هنالك مفتوحةٌ دائما تتلألأُ في اللّيل.

أنا لا أثق في الأرض،

ضيّقةٌ على ضلوعي الأرض،

تعصرني، وتكسر عظمي، وتستلّ منّي أنساغ الحُلُم

لا جدوى من الحفر أسفل، أقول لكم

لا تزعجوا نوم أمواتنا،

في السّماء بناءٌ يسعُ الجميع،

كذِبَ الذي قال إنّ السّماءَ فراغٌ،

ثقوا في السّماء ولسوف تخضرّ فيكم حقول العواطف

ولسوف تستقيمُ ظهروُكم

هذه التي جعلها النظرُ المستديمُ عند أقدامكم محنيّةً كالمناجل الصدئة.

وجعلتمُوها ركائبَ

لكائناتِ الورَمِ اللّصيقة ببلعوم التاريخ ومصارينِهِ،

أنا الرجلُ الظانُّ دوما أنّها سوف تمطرْ

ولسوف تمطر، لا حاجةَ للغيم،

لا حاجة للرّعد،

لا حاجة إلاّ لكلمة واحدةٍ يا حاملَ الجيتار،

هي: كلاّ.

***

عندها اقتحمت علينا المكانَ المرأةُ ذاتُ الستّين حزنا،

في يدها طير دجاجٍ يرفرف نصف مذبوحِ العُنُق،

في ظلّها الصامت يقفُ زوجها ذو العكّاز والقدم الواحدة.

وَشْوَشَتْ الأفواه في الآذان عن طيرها المتخبّط في الدّم أنّه

ليس طيرا

بل علَمَ بلادها تلك من خلف الجبال الصّلع. قالت

كلاّ، يا عشيق الغيم، أنا هي تلك السّماءُ.

أنا المرأة التي فقد زوجها قدمَهُ

في انفجار اللّغم بدل انبثاق الماء عند الحفر.

أنا سيّدة الرغيف المعجون من طحين الكبد،

وسيّدة النّار

ربّيتها جمرةً جمرةً في بستان عمري لإطعام ذئاب اليُتم،

-بل هي أمُّ الرجال الذين اختفوا جميعا في بحر أوليس،

(قال صاحب النّص في طريقه إلى المقهى مستبقا عربةَ الكلام بخطوتين من التمتمة)

أنا أمّ سّيف العراء الذي انسدّ عنه غمدُ السكينة

أنا دمعُ الغزال المسلوخ حيّا بسكّين النذالة،

وأنا فساتين الشّعير الحرّ في ظُلَلٍ من مقصّات الجراد.

أنا نحيبُ الذهب

في تربةٍ مرهونة لغزاة الأمس واليوم.

وشاحي الزعفرانيُّ خيط من دمع القمر الموزّع كالخبز الساخن على نوافذكم

في جبال الشتاء.

تجاعيد وجهي جروح الصخر تحت حوافر خيل الشّماليين.

وتنهيدتي وترٌ

لو وضعت عليه اصبعَكَ لانفجرت علبةُ قلبك،

يا صاحبَ خشبة الغناء،

أمُّ الطفلة والدمية المنزوعة الذراعين أنا.

ولا مرآة إلاّي، يا أيّتها الغيمةُ حاملة الحقيبة.

لا أرض إلاّي، مهما حفرتهمُ فلن تجدوا فيَّ سواي

أنا عاصمة الألم، وأوجاع الأقاصي، والكلام الذي

لن يجئ به ذلك الراوي الجالس عند خرم الشجرة

ولو طحن مخيالهُ في رحى القمح.

(رفع رأسَهُ صاحبُ النّص إلى زجاج النافذة،

ثمّ انهمك ينقّح ما تطاير من شذارت المرأة في ورقة الحال عنده )

أنا المشيُ والممشى،

وغبار أحلام الطريق

 

***

تابع الخلقُ المرأةَ وخفقان طيرها الذبيح إلى أن اختفتْ في ظلمة الوعي،

فانتهز الفرصةَ رجلٌ رأسه كتلةٌ بيضاءُ من الشّعر، تتخلّلُهَا ثقبتا عينيه،

قيل إنّه العرّاف.

نفض عن بُردْهِ غبارَ التذمّرِ من جلسةٍ حتَّمَتْهَا شجرةُ الصَّمْت.

ثمّ أدخل يده في مخياله مستخرجا بُوقا لا يراه سواه،

وانطلق بنبرة تفزعُ الأفراخ في الوكنات،

-“ما أُرِيكمُ إلاّ ما أرى”، سيجيئكم “غودو”

على بغلةٍ بمفاتيح لما أغلقه عليكم ماضِيكُمُ من الأبواب.

ستجيئكم غيمةٌ فيها توابيتُ مواتكمُ الأحياءَ،

وبقيّةٌ ممّا ترك الرّعدُ من وعدٍ لغصُصِ لحقول

ستكون هنالك أثداءٌ بديلة

لأثداء الأمّهاتِ، ملآنةٌ بحليب الآلهةِ الجدُد.

-هل ستكون هنالك أذرعٌ أيضا؟، (سألت الطفلة باسم دميتها).

ضحكت أعلى الشجرة عصافير شمطاءُ، وابتسمتْ المكنسة.

لم يلتفتْ أشعثُ الشّعر ذو البوق، مواصلا سَرْدَ رؤاه:

ستزُورُكُم من وراء الجدار الأبيض طيور سود،

ستمزّق الحيراتُ ورقَ الخرائط،

وستركبون مراكب من دون بحر، وستغرقون في بحر الضجر.

ستنهال المطارقُ والعصيّ على فخّارِ آمالِكُم

سيحشُرُكُم وباءُ الوهم في عُلَبٍ من الخيبات،

سيقتلع الزمنُ الأمواجَ عن جِلْدَةِ البحر ويرمي بها على اليابسة

ستشترون ما تأكلون ممّن بِعْتُمْ له كلَّ ما تملكون.

سيفيض تنّورُ الحناجر

بقلوبٍ مبعثرةٍ كالغيم في الصحراء.

***

تثاءبَتِ الشجرة

ولم يسبقْ لها أن تثاءبتْ أبدا،

أشارتْ الى العرّافِ أن أُصْمُتْ.

والى شاعرٍ أن تقدّمْ،

فقالوا كيف نكلّم من كان في اللغةِ صبيّا،

لا نمسك في زئبق رؤياه من مآربنا بشيء.

كان نحيلا كشعاع الفجر في ماء البحيرة

طويلا كجملة في رواية “مارسل بروست”

وعميقاً كجمرةٍ تخترقُ الهشيمَ في الصيف.

قال: أنا ناطقُ الحال

والحال ثوبي، وأنتم موطنُ الحال.

البؤسُ يكون

حين يكون كسْرُ القوقعةِ من الخارج

أسهلَ من فعل ذلك من الداخل،

تماما كالمدفونِ حيّا داخل صندوق مُحْكَمِ الإغلاق

ينتظر خلاصًا من الخارج.

فمدّوا أيديهم

يتحسّسون لا مرئيّةَ الخشب المحيط بهم.

***

مدّت أمُّ حامل الجيتار مكنستَهَا إلى أعلى:

“ثمّة عناكبُ كثيرة في زوايا الأفق، عناكبُ ميّتةٌ

لكنّ نسيجَهَا لا يتوقّف عن سَدِّ الأفق”.

**

أنا أتّهم المساميرَ لا تتفتّت رُغْمَ الصّدأ،

-قال الفتى “أجرأ الناطقين”، أتّهمُ الخشبةَ  فرحانةً بالمسامير فيها.

-احفروا السقف إذن، -قال ذو النظّارة من غير زجاج.

-نطقتِ الدميةُ: قلت لكم أشعلوا شمعةً فسخِرْتُمْ،

أعرف أنّ ذراعيّ معي

في مكان ما هنا، داخل ظُلمة الصندوق.

جِدوهما لي.. جِدوهما لأعانِقَ الطفلة.

=====================

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى