مقالات

أمَا آن للمشككين أن يعتذروا من حلب!

الكاتب العربي الراحل مُحمّد خليفة/ سوريا

“المدارنت”..
هذه ليست كلمة حق لحلب فقط.. بل هي ايضا صفعة حق على وجوه نفر من السوريين، ذوي النفوس المريضة الذين أساؤا لها. وبصقة حق في وجوه الذين حاولوا التشكيك بها، ولكن قبل الوصول الى (المرمى)، علينا أن نلفت انتباه الجميع الى أن العالم لم يعد يتحدث عن الثورة السورية, بل انحصر الحديث في حلب, لأن المعركة في حلب، باتت تختصر الثورة، وباتت المدينة العظيمة تختصر سوريا، كعادتها دائما رغم أنوف المشككين والمكذبين, وبات الروس يتحدثون عن (الهجوم على حلب) لا على سوريا, ويرسلون اساطيلهم من اجل (معركة حلب), وبات العالم يتناقل أخبار الهجوم الروسي على حلب, وأخبار الحرب العالمية الدائرة على اسوار وابواب حلب اختصارا لكل معاناة الشعب السوري وثورته الاسطورية.
حلب التي قاتلت الفرس، وهزمتهم طوال سنتين من الملاحم المتتالية، وصرعت أكابر ضباط جيشهم المحترف ومرتزقتهم وحرسهم الثوري, بما فيهم قاسم سليماني، نفسه، الذي جرح على ارض حلب, وأعادتهم الى طهران في صناديق واكياس قمامة, وأجبرت كبار قادتهم في طهران على النواح واللطم.
حلب التي حطمت اسطورة “حزب الله”، وقتلت مئات من رجاله وقادته وجعلته اضحوكة العالم.
حلب التي مرغت جباه ضباط الاسد، وعصاباته, ومزقتهم كل ممزق.
حلب التي نشرت الرعب والذعر في قلوب العملاء العراقيين والافغان والباكستان ودفنت الآلاف منهم في ترابها سمادا حيوانيا لأعشابها.
حلب التي فرضت احترامها على العالم, وأجبرت بوتين ولافروف وشويغو على مراجعة استراتيجياتهم, وحركت التظاهرات في عشرات المدن الكبرى, وفرضت نفسها على أجندات القمم والمؤتمرات والاجتماعات, وأصبحت عنوانا وحيدا للصراع بين الحضارة والبربرية, وبين الحق والباطل.
حلب التي شكلت عقدة العقد في حسابات ومخططات السفاح الجبان بشار الاسد وزمرته, وشكلت كابوسا مرعبا لفلوله المنهزمة, وصار اقصى أحلامه أن يكسر شوكتها بأي ثمن, وبأي وسيلة, ولو كان يملك السلاح النووي لما تردد في استعماله لتدميرها انتقاما منها. لأن هذا الحقير القرمطي ورث عن أبيه الحقد على حلب, ورضع الغلّ والكراهية لكل ما تمثله, وهي أكثر مدن سوريا مناعة في وجوه مخططاتهم, وأشدها رفضا لهم وتمردا ومعارضة ومقاومة لهم طوال 53 سنة من سلطتهم, وهذا هو كتاب التاريخ واضح لمن لا يعرف, أو لمن خانته الذاكرة, أو لمن ولدتهم أمهاتهم بعد 1982:
ما من ثورة أو انتفاضة أو حركة جماهيرية قامت في سورية منذ الاستقلال عام 1946، وحتى صبيحة هذا اليوم، إلا وكانت قاعدتها حلب وانطلاقتها من حلب, وما من حركة سياسية أو حزب معارض إلا وكانت حلب حاضنته ومركزه. وها هي قوائم المناضلين والمعتقلين والشهداء الذين قتلوا خلال نظام الاسد والبعث، توضح كم قدمت حلب منهم.
في السبعينات كانت حلب، أول مدينة تثور على نظام الاسد, وبلغت الذروة عام 1979، حين بدأت الهبة الشعبية الكبرى, بمشاركة القوى السياسية كافة الاخوان والشيوعيين والناصريين, وحركة (النقابات العلمية).
وفي شباط 1980، انتفضت المدينة بكل جماهيرها, وأسقطت أجهزة الامن والمخابرات والجيش تحت أقدامها, واكتسبت الانتفاضة طابعا شعبيا وطنيا إذ شاركت فيها كل الفئات الاجتماعية والسياسية, ودخلت المدينة اضرابا مفتوحا, فاضطر الطاغوت يومها الى إرسال (الوحدات الخاصة) و(الفرقة الثالثة) لاستباحة المدينة المتمردة، وتأديب اهلها, واستمرت العملية عامين كاملين, خاض المقاومون خلالها معارك مشرفة, وسقط آلاف الشهداء والجرحى, ودمرت أحياء كثيرة واعتقل عشرات الالوف من ابنائها, وعندما زار وفد من بعض شخصياتها التافهة حافظ الاسد عام 1983، طلبا للصفح، ورفع العقوبات الشاملة التي فرضها سرًا على المدينة.. قال لهم الاسد حرفيا: لا تحاولوا اقناعي بأن الذين شاركوا في الاحداث هم من الاخوان, أنا اعلم أن (كل الحلبية) يكرهونني ويعارضونني, وما حدث يدل على أن كل الحلبية شاركوا في التمرد ولم يقتصر على فئة من دون سواها.. [والله العظيم  لقد صدق وهو الكذوب!].
أكتب هذا تعبيرا عن ألمي وحرقة قلبي، وأنا أرى ما يرتكبه الفرس والروس وعصابات الاسد في حلب من مجازر ومحارق لم تحدث منذ عصور الغزو المغولي والتتاري والفارسي القديم والغزو الصليبي في القرون الوسطى.. وأتذكر كيف انبرى انفار من الاقزام والتافهين والعملاء المنتسبين للثورة للتشكيك بحلب وأهلها عام 2011 – 2012  بحجة أن حلب لم تنتفض ضد الاسد كما فعلت المدن الأخرى. وهو قول غير صحيح بالمطلق, ولكن المدينة تأخرت في أخذ زمام الثورة وقيادتها وتصدر صفوفها لأسباب موضوعية, أهمها أن النظام بعد أن لقنته حلب الدروس القاسية في 1979 – 1982، اتخذ اجراءات احتياطية مكثفة لضبطها ومنع تمردها مرة ثانية.
وعندما بدأت انتفاضة حوران العظيمة تجاوبت حلب فورا معها, ولكن تأخرت قيامتها الكبرى بسبب تلك الاجراءات ثم ما لبثت أن انفجرت في تموز 2012, وكان لريفها القريب دور ريادي ومشهود في بداية الانتفاضة وتحرير أجزاء مهمة منها, وسرعان ما تحولت حلب كعادتها دائما قاعدة ارتكازية للثورة, ومثابة لأبطالها, وموئلا وملاذا بحكم حجمها وأهليتها وتاريخها وتقاليدها. وما تزال تقوم بدورها هذا ورسالتها دفاعا عن نفسها وعن شقيقاتها الأخريات وبالتحالف العضوي والتضامن الوطني الكامل, وخاصة شقيقتها التوأم ادلب البطلة, ورفيقة نضالها حماة الباسلة وحمص المقدامة, ومدن الشرق التي شكلت دائما العمق الاجتماعي الثوري والامتداد الحيوي لها من الرقة الى دير الزور والحسكة.
وها هي الايام تثبت أن الذين أساؤا لحلب في بداية الثورة اقزام تافهون ومشككون وكانوا ينطلقون من نوايا مبيتة وأحقاد دفينة, والدليل أنهم لم يعتذروا لاحقا عندما ثارت حلب وأخذت راية المواجهة وتقدمت الصفوف, بل واصلوا افتراءاتهم, ولذلك فإنهم ما زالوا  مطالبين حتى اليوم بالاعتذار والاعتراف بخطيئتهم, وعليهم أن يراجعوا انفسهم وأن يعترفوا بقدر حلب وعظمتها ودورها الذي لا تجاريها ولا تباريها به أي مدينة سورية أخرى.. ونقول لهم وللجميع:
 هذه هي حلب أيها الاقزام كما ترونها اليوم عملاقة المدن السورية, وقلعة الثورة. هذه حلب التي هزمت جيش الاسد, وجحافل الفرس مرة أخرى, وها هي تتصدى لأساطيل الروس وتمرغ أنف بوتين في وحولها, وترفض اغراءاته بالاستسلام. هذه حلب فسطاط الثورة السورية وخط دفاعها الاخير, ها هي حلب يقف العالم كله اجلالا واحتراما لبطولتها واقدامها وصمودها.
عندما التقينا بمبعوث الامم المتحدة ستيفان دي ميستورا في آذار 2015، سألته في حضور اربعة أخوة سوريّين: لماذا طرحتم مبادرة حلب أولا؟ فأجابني: لست أنا صاحب المبادرة بل هم زعماء الدول الأوروبية، وهم الذين طالبوني بطرحها نتيجة معرفتهم بأهمية حلب التاريخية والحضارية من ناحية, ولأنهم يعلمون ماذا يخطط الاسد وحلفاؤه من نوايا شريرة لها من ناحية ثانية!
 وقد رفض ثوار حلب يومها مبادرة دي ميستورا بعد اجتماعهم به ساعات طويلة وذلك لسبب بسيط , هو أنها تنطوي على تمييز حلب عن بقية المدن الثائرة ومعرفة الثوار أن النظام سيستغل الهدنة في حلب لتكثيف حربه على المدن الأخرى. رفضوها لكي لا يقال إن حلب اختارت النجاة بنفسها وتركت شقيقاتها فريسة للعدوان والارهاب, وهي تفضل على ذلك أن تتقدم الصفوف قتالا ودفاعا عن الشعب السوري مهما كان الثمن.
هذه هي حلب تواجه البرابرة الروس والفرس وأشياعهم واتباعهم اللبنانيين والعراقيين والافغان والباكستان.
وها هي تسطر بدماء رجالها إحدى أعظم ملاحمها الخالدة في التاريخ قوة وعنفوانا وكبرياء.
حلب صامدة وستنتصر بإذن الله وهمّة رجالها.

المصدر: صفحة الكاتب على منصة “ميتا” في 23 تشرين الأول/ “أكتوبر” 2016
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى