“المدارنت”..
رغم اتساع دوائر التعليم ومخرجاته، وتعدد مناهله في الداخل والخارج، يستشعر المرء أن الأمة العربية تعاني أزمة نخبة تسهم في رسم مسارات المستقبل وتشتبك مع الحاضر بجدية تسهم في صياغة المستقبل.
والمقصود هنا العقول التي تملك رؤى واضحة وصادقة للقضايا المتعددة التي تشغل الواقع العربي، ويمكن أن تكون، أي هذه الرؤى، بين مرجعيات متخذ القرار ومحل ثقته.
يعقد كثيرون مقارنة بين الحالين في القرن الماضي والآن، تنتهي إلى غياب الأسماء الوازنة التي تبادر إلى تفكيك القضايا العربية الملحة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتقدم حلولاً فردية أو جماعية لمشكلاتها الملحة أو تقترح سبل التغلب على التحديات.
ولا يمكن رد الأمر إلى خلوّ أمة يزيد عدد سكانها على 400 مليون نسمة، وتحفل بعدد كبير من الجامعات والمراكز البحثية، من مئات الأسماء التي يمكن الوثوق برؤاها والاستناد إليها، فلماذا، إذن، لا نلمس لهم أثراً؟
من المهم الإقرار بأن دولاً عربية تفضّل الوصفات الجاهزة وتهمل آلاف الأوراق البحثية والدراسات التي ينفق فيها أصحابها أعمارهم داخل الجامعات والمراكز الوطنية المتخصصة من دون أن تجد طريقاً إلى التطبيق، وتلقى الإهمال نفسه الأفكار التي يبثها متخصصون ومثقفون ومفكرون في أي فضاء متاح، فتكون النتيجة انزواءهم يأساً، أو طلباً للسلامة.
هذه الدول تقبل تجريب كل النظريات والأفكار إلا ما تقدمه عقول أبنائها، رغم الكلف الباهظة لذلك، وهذا أحد أوجه اختلال الأولويات.
كثير من دوائر القيادة العربية تفتقر إلى أسماء صاحبة رؤى من دوائر المثقفين والمفكرين والباحثين، إما لغياب الاطمئنان إليهم واعتبار ما يقدمونه تنظيراً، أو الاعتماد في اختيار المجاورين والمعاونين على أهل الثقة، وتفردهم بمساحات التعبير عن الأفكار والتوجهات.
ولا يمكن إنكار أن تجارب بعض الدول التي مرّ بها «الربيع العربي» كشفت عن تشوش رؤى بعض العقول التي عوّل عليها البعض، وانقيادها السريع خلف توجهات ظلامية في انقلاب لهذه العقول على ما روجت له ودافعت عنه طويلاً بشأن الأوطان والحريات.
من تبعات بزوغ هذه التوجهات أيضاً التشويه المتعمد والمكثف لبعض الأسماء المقبولة في الشارع، فتوارت أو أصبحت تخشى مواجهة الاتهامات الرائجة حولها في الفضاء الإلكتروني المنفلت، وكان الهدف من هذا التشويه صناعة رموز بديلة من الجماعات الدينية وتسويقها بزعم أنها منزّهة عن كل خطأ في مقابل خضوع غيرها للدوائر الرسمية.
كل هذه الأسباب يمكن ربطها بفراغ الساحة العربية من نخبة فكرية قد لا تنشغل بتأثير ما تعرضه من عدمه، إنما تحرص على الجهر به، وخوض معارك دفاعاً عنه في كل ميدان متاح.
ولا سبيل إلى ذلك إلا فتح الآفاق أمام العقول العربية في الجامعات والمراكز والإعلام للتنفس والتنافس والتجريب والتقريب بين شتات الأفكار والنظريات للخروج بما يصلح حلاً لمشكلات الواقع وجزءاً من محاولات النهوض.
مقالات