إمتحان العرب في غزّة!
“المدارنت”..
كانت “إسرائيل” (كيان الغرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة)، فكرة ودولة، خلال معظم القرن الماضي، مشروعًا غربيًا، بريطانيا فرنسيا حتى الحرب العالمية الثانية، ثم أميركيا، بمقدار ما كانت مشروع اليهودية الصهيونية، فقد استخدمت الدول الغربية على التوالي “إسرائيل” وجيشها، ذراعا طويلة وقوية للضغط على حكومات الدول العربية، وإخضاعها لمصالحها القومية والاستراتيجية.
ويكتسي انخراط الولايات المتحدة وحلفائها اليوم بكل ثقلهم وقوتهم إلى جانب “إسرائيل” أهمية أكبر في مناخ دولي مزعزع الاستقرار، تواجه فيه سيطرة الولايات المتحدة وحلفائها التاريخية وشبه المطلقة على منطقة تتمتع بأهمية استراتيجية وجيو/ سياسية استثنائية في حسابات القوى والصراعات الدولية تهديدات غير مسبوقة، فانهيار أسطورة الردع والقوة الضاربة لا يهدّد أمن الدولة “الإسرائيلية” وحدها، وإنما يزعزع أيضا أحد أركان نظام الهيمنة الأميركية الغربية في الشرق الأوسط والعالم. من هنا، يشكل التناول شبه المقدس لمفهوم أمن “إسرائيل” وضمان سطوتها وقوة ردعها تجاه دول المنطقة، النازعة إلى توسيع هامش مبادرتها الاستراتيجية واستقلال قرارها الوطني، وإزاء القوى الدولية الصاعدة التي تطالب بنظام دولي جديد متعدّد الأقطاب، أحد أهم مفاتيح التدخل الدائم في الشرق الأوسط واحتكار التحكّم بمصيره.
قد يساعد هذا التحليل على فهم أفضل للديناميكيات الخاصة التي تحرّك هذا الصراع والتحدّيات التي يفرضها على الأطراف المنخرطة أو المتورّطة فيها بالرغم منها، فبالرغم من أن هذا الصراع لا يجري إلا على أضيق رقعة جغرافية سياسية في المنطقة، إلا أنه يعكس صراعات عميقة ومتعدّدة تهز مصير الدول والشعوب، وربما تعيد رسم مستقبلها وخريطة الشرق الأوسط ذاته في العقود المقبلة، بما في ذلك علاقات دوله فيما بينها ومصير نظم الحكم السائدة فيه.
هذا ما يفسّر العلاقات الحميمة التي تجعل الكيان “الإسرائيلي” يبدو، في عيون الولايات المتحدة وحلفائها، أكثر من حليف قوي، بل شريكا استراتيجيا استثنائيا يحقق لواشنطن ما لا يحقّقه أي حليف آخر بين الدول الغربية، وأكثر قيمة استراتيجية من أي ولاية أميركية، فهو يمثل قلعةً متقدّمةً على أرض “موعودة” من مصلحة واشنطن تعزيز قوتها فيها، وتحطيم كل من يقف في وجه توسّعها وتقوية شوكتها في منطقة تتنافس على النفوذ فيها، والسيطرة عليها كل القوى الطامحة إلى لعب دور قيادي في صوغ أجندة السياسة العالمية.
وهذا ما جعل من السيطرة على الشرق الأوسط منذ بدء تشكل دوله الحديثة حكرا على التحالف الغربي، بعد القضاء على طموحات شعوبه في انتزاع حقها في تقرير مصيرها فيها، وفي الوقت الراهن ضد المحاولات الروسية والصينية والإيرانية للنفاذ إليه، ومشاركتها في المصالح الاستراتيجية الكامنة في هذه السيطرة.
وليس هناك سوى هذا الدور الجيوستراتيجي الكبير من أعطى لـ”إسرائيل” المكانة الاستثنائية التي تحتلها في الاستراتيجية الغربية الشرق أوسطية والعالمية ودفع العواصم الغربية، طوال العقود الماضية، إلى الاستثمار الهائل في “إسرائيل” وتمويل بناء المستوطنات في الأراضي التي اعترفت بها أراضي فلسطينية وليس التغاضي عنها فحسب، وهذا بالرغم من التصريحات الجوفاء عن حلّ الدولتين لذرّ الرماد في العيون. ولأن “الإسرائيليين” فهموا أن الولايات المتحدة والغرب يريدون منهم أن يكونوا أقوياء، وأن تكون “إسرائيل” عصا غليظة لمعاقبة الشعوب العربية، وإجبارها على التسليم بالأمر الغربي القائم طلبوا مشاريع السلام والتسويات السياسية، وأطلقوا العنان لأطماعهم التوسّعية، وتبنوا الأفكار والمشاريع العنصرية، وأصبح هدفُهم تحويل “إسرائيل” إلى دولةٍ قوميةٍ عنصريةٍ صافية وترحيل الفلسطينيين أو ما بقي منهم في أرض فلسطين التاريخية، بل لم يعد بعضهم يخفي حلم إسرائيل من الفرات إلى النيل.
فليس سوى “إسرائيل” قوة ضاربة وطاغية من يستطيع وهو في عين المكان أن يلوي ذراع دول المنطقة، وتشتيت شمل شعوبها وإجبار حكّامها على السير في الطريق المرسوم لهم، والتخلي عن طموحاتهم الوطنية والعمل على خط الاستراتيجية الأميركية والغربية، فـ”إسرائيل” الضعيفة لن تكون من دون فائدة فحسب، لكن عالة على الولايات المتحدة والغرب، ففي تمرّد “إسرائيل” على القوانين والقرارات والأعراف الدولية واستعدادها لاستباحة حقوق شعوب المنطقة وتهديدها العلني والدائم لحكّامها، تكمن فائدتها.
من هنا أيضا، حرص الغرب على التعاون الوثيق معها في كل المجالات، لضمان تفوقها العسكري والأمني والتقني والعلمي وتزويدها بكل ما يقوّي سطوتها في الإقليم ونفوذها في العالم. ولم يكن الرهان على “إسرائيل” والاستثمار الاستراتيجي المتعدّد الأبعاد خاسرا، فقد كان لهذه الدولة الأداة الدور الأبرز في إجهاض مشاريع النهضة والتقدّم والتنمية في البلدان المحيطة، وفي ترويع الشعوب العربية وتقويض صدقية دولها وتهديدها وإخضاع حكوماتها واستخدامها أدوات لتطويع هذه الشعوب وحبسها وتقييدها.
لا يقلل هذا التحليل من أثر اللوبي الصهيوني ولا الصهيونية المسيحية في إحداث التعاطف مع “إسرائيل”. لكنه لا يفسّر هذا التماهي والتعامل مع “إسرائيل” بمنطق المصير المشترك. ولو كانت السياسات الدولية تبنى على المشاعر والوفاء للضحايا كما تدّعي حجة التكفير عن الذنب في تبرير الدعم الشامل واللامشروط لـ”إسرائيل” من الغرب، لكان من المفروض أن تتوقف الحرب في غزّة منذ أشهر عديدة أمام مشاهد الإبادة اليومية والتدمير المنهجي لكل معالم الحضارة والمدنية التي تعرض على الشاشات يوميا.
كل ما يقال في هذا المجال لا يعدو أن يكون تبريرا للتواطؤ الكامل مع حرب الإبادة والترحيل دفاعا عن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الكبيرة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. وليس للتذكير بقوة اللوبي “الإسرائيلي” وبالشعور بالذنب إزاء اللاسامية سوى هدف واحد، هو التخفّي وراء أسطورة “إسرائيل” التي لا تنضبط (وهذا مصدر قوتها وأهميتها للغرب) للهرب من المسؤولية الدامغة لواشنطن وحلفائها في تعميم العنف والتشجيع على العنصرية والقتل بالجملة بكل أشكاله، ومن ثم تبريرهما بطريقة مواربة.
من هنا، إذا كان هدف “إسرائيل” في هذه الحرب الدائرة اليوم القضاء على المقاومة الفلسطينية وإخضاع غزّة أو تهجير سكانها وإبادتهم السياسية (وواشنطن شريكة أيضا في هذا الهدف ولم تخف مشروع ترحيل سكان غزّة إلى سيناء في بداية الحرب)، فإن إنهاء هذه الحرب لا يمكن أن يحصل ما لم تحقق الولايات المتحدة وحلفاؤها هدفين أساسيين استراتيجيين: الأول، إعادة قوة الردع الإسرائيلية التي يراهن عليها التحالف الاستراتيجي الغربي للحفاظ على نفوذه الاستثنائي في عموم المنطقة، والثاني، تأكيد ولاء الدول العربية وخضوعها الثابت والمتجدّد للغرب، وإعلان استسلامها والتحاقها بالسياسات الغربية ونواته التطبيع مع “إسرائيل”، أي التحالف معها والعمل على الأجندة الغربية الأميركية التي تمثلها وتجسّدها في سياستها الاستيطانية ذاتها.
وهذا ما يفسّر سياسة إدارة بايدن التي تستخدم العصا “الإسرائيلية” والجزرة الأمنية لإخضاع دول المنطقة لإرادتها. وهي تريد في الواقع أن تضمن مسبقا، قبل أن توقف الحرب، الإسرائيلية شكلا والأميركية فعلا، توقيع العرب، ودول الخليج بشكل خاص، على صكّ التحالف معها على بياض. وهذا ما يزال أغلب حكام الخليج يخشون إثاره على شرعية حكمهم ما لم يرتبط بحد أدنى من إرضاء المطالب الشعبية العربية بحل مقبول للمسألة الفلسطينية.
السؤال: من الذي سيضعف قبل الآخر ويتنازل عن مطالبه، العرب أم الأميركيون؟ فإذا قبل العرب بالتوقيع على بياض على صكّ الولاء والالتحاق بالحلف الأميركي الغربي، خرجوا من هذه المواجهة الإقليمية الدولية الاستراتيجية الخطيرة والمعقدة مذلولين أو صاغرين، محرومين من أي هامش مناورة، ومن ثم أتباعاً مخلدين لواشنطن وحلفائها. وهذا ما تسعى إليه واشنطن لتقطع عليهم أي فرصة للمناورة في المستقبل مع الصين أو روسيا أو مجموعة البريكس التي تشكل أكبر مجموعة ضاغطة في اتجاه الخروج من منظومة السيطرة الأحادية ونظام القطب الأميركي الواحد المترنّح.
في المقابل، إذا استمرّ العرب، والخليجيون خصوصاً، في مقاومة الضغوط، ورفضوا التسليم بالأمر الواقع وقبول التطبيع مع الغرب و”إسرائيل” من دون ثمن، أو لقاء وعود وهمية أثبتت خواءها طوال القرن الماضي والعقود الثلاثة الماضية بشكل خاص، ونجحوا في إجبار واشنطن وحلفائها على تقديم الثمن: اعتراف ومشروع جدّي وواضح لإقامة دولة فلسطينية، مقابل أي تطبيع وتوقيع على اتفاقات استراتيجية أمنية مع الغرب، فسوف يشكل ذلك خطوة أساسية وقوية أولى على طريق تأكيد استقلال قرارهم الوطني وتوسيع هامش مبادرتهم السياسية والاستراتيجية، وحقهم في إقامة علاقات نديّة مع جميع الدول وصوغ سياساتهم حسب متطلبات مصالحهم ومصالح شعوبهم الوطنية.
بهذا المعنى، لم تعد الحرب على غزّة عموماً، وفي رفح حالياً، بعد سبعة أشهر من القتال والدمار “إسرائيلية”، ولا أعتقد أن “إسرائيل” تجني أي عائد منها، إنها بالدرجة الأولى أميركية. وواشنطن تستخدم تطرّف نتنياهو، تماما كما يستخدم هو هدفها في تمديد الحرب، لشيّ العواصم العربية على نار ساخنة لانتزاع استسلام حكوماتها وقادتها.
لا ينبغي أن تخدعنا المظاهر، وأن تعمينا المخاوف التي زرعتها فينا الهزائم والدعايات “الإسرائيلية” المضلّلة الماضية. ليست “إسرائيل” في المحصلة الأخيرة سوى كلب حراسة وأداة يستخدمها الغرب، والولايات المتحدة في مقدّمته، لترهيب الدول العربية وإخضاعها لإرادته وإجبارها على العمل في خدمته وتأمين مصالحه، والولايات المتحدة وحدها التي تملك اليوم، بعد تراجع دور القوى الاستعمارية الأوروبية القديمة، مصير “إسرائيل” بين يديها، وتحدّد لها دورها وقوتها حسب ما تقتضيه شروط إخضاع الشعوب العربية وإكراهها على السير في ركابها.
وهي وحدها التي تحدّد شروط حروب “إسرائيل” مع الدول العربية، وحالياً مع غزّة وفلسطين: توقيتها ووتيرتها ونوعها ومدتها وشكلها ومستوى عنفها ونوع الأسلحة المستخدمة فيها، ولا يتورّع أحد أبرز نوابها، ليندسي غراهام، عن تذكير العرب بأن من الممكن لـ”إسرائيل” (واشنطن) أن تستخدم السلاح النووي إذا اضطرّ الأمر لذلك كما استخدمته الولايات المتحدة ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية. والواقع أن “إسرائيل” هي بذاتها القنبلة النووية الرئيسية التي استخدمتها العواصم الغربية خلال القرن الماضي، والولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لتفجير المنطقة، وردع الشعوب العربية وترويعها وإجبارها على الخضوع والإذعان وفرض سيطرتها على إحدى أهم مناطق العالم من الناحيتين، الاستراتيجية والجيو/ سياسية.
ولا يغشّنا تكرار الحديث الكاذب عن الحرص على تقليل عدد الضحايا المدنيين. بالعكس، يشكّل استهداف المدنيين هنا أحد أبرز تكتيكات الحرب التي تهدف إلى ردع الشعوب، وتهديد استقرار الحكومات وإيصال رسالة أساسية إلى جميع سكان المنطقة أنه لا يوجد هنا في هذه الحرب، وهذا الصراع حوّل إسرائيل وفي سبيل تعزيز وجودها: كلب صيد وحراسة وقاعدة للسيطرة الأميركية الغربية، أية حدود أو محرّمات قانونية أو أخلاقية.
والحقيقة أن واشنطن وحلفاءها لم ينتظروا الهجوم الصاعق على غزة وحرب الإبادة فيها كي يعلنوا أن كل شيء مباح في هذه المنطقة. إنها دينت بأن تكون منطقة مستباحة منذ إعلان إسرائيل دولة عنصرية من جانب واحد بدل أن تكون دولة فلسطينية لجميع سكانها. وهذا ما أظهرته العقود القليلة الماضية من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى ليبيا إلى اليمن قبل الضفة الغربية وغزّة اليوم. وهم مصمّمون على الاستمرار في ذلك، وسائرون على خطى ذاك الرئيس الذي اختاروه لسوريا وفرضوه بالقوة المجرّدة تحت شعار:
“الأسد أو نحرق البلد”. اليوم، نحن أمام شعار مثيل:
“إسرائيل” أو نحرق المنطقة.
وإذا استمر التصعيد من واشنطن من خلف نتنياهو وحكومته العنصرية التي لا تخفي أهدافها الإبادية، فربما ينتشر الحريق قريبا في عموم المنطقة وفي ما وراءها أيضا. هذا هو الجنون المنظّم والاستراتيجي الذي قاد اليمين العنصري الأميركي المحافظ في التسعينيات وبداية القرن الحالي إلى حرق العراق، وتسليمه ومن ورائه بلاد الشام بالتفاهم لقمة سائغة للمليشيات الإيرانية الطائفية والعنصرية التي دمّرت الدول، ومزقت الشعوب وردّت المجتمعات إلى عصور الظلام البائدة.