“المدارنت”..
هذه العبارة الشهيرة التي قالها القائد الفرنسي، نابليون بونابرت، قبل أكثر من 200 عام، وكان يقصد بها الصين، التي كانت تغط حينها في سُباتها العميق، تعود اليوم إلى الذاكرة مع مراقبة القفزة الاقتصادية العظيمة التي حققتها الصين في فترة زمنية قصيرة، ومع التقدم التكنولوجي الذي أصبحت فيه منافساً قوياً للولايات المتحدة.
شغل النموذج الصيني في قفزته السريعة، والمُتصاعدة يوماً بعد يوم، المحللين في نجاحاته، وكيف حقق هذا العملاق في صحوته تحولاً من مجتمع زراعي بدائي، إلى نموذج مُلهم لثاني أكبر اقتصاد في العالم، وكيف لأمة تعدادها يصل إلى 1.4 مليار نسمة أن تتحول من مجتمع فقير إلى قوة صناعية وتكنولوجية، وهو ما لم تُحققه دول أقل حجماً، وتتمتع بظروف أكثر توافقاً، ومُلاءمة؟.
هذه الأسئلة، وغيرها، شغلت الكثير، لكن الولايات المتحدة أكثر المُنشغلين بهذا التحول، بخاصة أنها بدأت تُشكل خطراً على أحادية تمركز القوة العالمية التي تحرص الولايات المتحدة عليها، حيث بدأ الإعلام العالمي، المُمول أمريكياً، بالتنبؤ بفشلها القريب بسبب غياب حرية التعبير، وحماية الملكية الفكرية، وأنها اقتصاد التقليد، وسرقة التكنولوجيا الغربية، وتفتقر إلى الابتكار، وكثرت فيها الأقاويل التي تعاملت معها الصين بلا مبالاة، مصرّة على مسيرتها بتفوق أبهر الجميع، فهي تؤمن بأنها حضارة ضاربة في جذورها تاريخياً، وسوف تستعيد مكانتها ومجدها.
وإن كانت الصين قد عانت ظروفاً صعبة وسنوات سُبات قاحلة، فأمريكا هي الأخرى عاشت أكثر من أزمة مالية عاصفة بجانب حرب أهلية استمرت 4 سنوات، في الوقت الذي بدأت تبرز فيه على الساحة الدولية كقوة عظمى، فقد كانت الولايات المتحدة على وشك الانهيار عام 1907 فيما كانت تتسلم قيادة العالم بريطانيا العظمى، لكنها نجحت في الإفلات من الكساد العظيم بداية الثلاثينات.
إذن، تذكير العالم بأزمات الصين لا ينفي حقيقة أنها اليوم تُعتبر قوة لها مكانتها، والأهم أنها، بصمت ومن دون ضجيج إعلامي، تعمل على تحقيق طموح أكبر يتناسب مع قدرتها، ولا نسمعها تتباهى بانعكاس هذا التطور على ناتج الفرد المحلي، وانتشار تجارتها، حيث تُعد الصين اليوم قوة كبيرة بإنتاجها نحو 50% من سلع العالم الهامة.
كما أنها تُعتبر أكبر مُصّنع للسفن، وللقطارات فائقة السرعة، إضافة إلى تفوقها في التكنولوجيا وتصنيع الروبوتات، والكمبيوترات والجوالات، بجانب أنها الأولى في إنشاء الجسو، والأنفاق، وتعبيد الطرقات، وغيرها.
والمُدهش أن هذه القفرة العظيمة للصين جاءت في الفترة من 1970 إلى 2013، والمدهش أيضاً أن الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، عندما زار الصين في بداية السبعينات لم تكن سوى دولة طموحة، لا تملك إلا صناعات بدائية، لكن الصحوة التي أيقظتها بدأت فعلياً في الثمانينات من القرن الماضي، ليبدأ خلال التسعينات انطلاقها القوي، ولتتجاوز الولايات المتحدة كأكبر قوة صناعية عام 2010.
يتساءل الكثيرون عن كيف استيقظ «التنين الصيني» بعد سُباته الطويل، ومعاناته حروباً وأزمات، وحتى فترات فقر ومجاعة؟، ما الذي تغير؟
هناك مثل صيني يقول «أعطني قائداً مميّزاً أعطك بلداً ناجحاً»، وهذا ما حدث، فقد تغيرت الأوضاع مع القائد دنغ شياو بينغ، عام 1978، حيث بدأ هذا القائد بتكوين نظرياته الاقتصادية الخاصة، بعيداً عن مشورة الاقتصاديين الغربيين، فقد اتّبع نهجاً تجريبياً بسيطاً، مع إصلاحات اقتصادية، ودعم للاستقرار السياسي، والأهم هنا توظيف نموذج المسار المزدوج، فبدلاً من الخصخصة بالجملة زاوج بين نظام التملك الخاص في الفكر الرأسمالي، مع بقاء الحكومة كشريك رئيسي.
ومن التحديات التي أنجزها بناء شبكة أمان اجتماعي، وإنهاء الإصلاحات الاجتماعية، والصحية، والتعليمية، وإتمام تطوير البيئة الريفية، ونجح في جعل الصين تحاكي النموذج البريطاني والأمريكي في إنشاء بنية تحتية مالية حديثة، وعمل على تحديث الأنظمة التجارية القديمة، والأهم أن النموذج الذي بناه ما يزال في تطور مُستمر.
أما في الحياة السياسة، فكان لانفتاح الصين، ودعمها، ومناصرتها للسلام في العالم قفزة جعلتها تخترق أزمات معقدة، من بينها الأزمة في منطقة الشرق الأوسط، حيث يُعد نجاحها في توقيع طهران والرياض لاتفاق استعادة العلاقات حدثاً استثنائياً، فهي التي طالما حافظت على سياسة خارجية متوازنة في الشرق الأوسط، إذ تنأى بنفسها عن الصراعات الحادة في المنطقة، وتستبدل ذلك بمواقف تدعو إلى خفض حدة التوتر، وتلتزم الدبلوماسية مع المنطقة بشكل عام، لكنها أوضحت من خلال وزير خارجيتها، مرات عدة، مواقف تسوية بشأن القضية الفلسطينية، حيث دعت في أكثر من مناسبة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام.
وفي أعقاب عملية «طوفان الأقصى» وجدت الصين نفسها أمام النموذج الذي تُفضله في السياسة الدولية القائم على إظهار التباين عن الموقف الأمريكي، وفي ظل الدعم الذي تقدمه أمريكا لإسرائيل تسعى الصين إلى إظهار موقف أكثر حياداً، وتركز على ضبط النفس، وتأكيد دعمها لحلّ الدولتين، كما انتقدت بكين القصف الإسرائيلي الشامل للمدنيين، ودانت انتهاكات القانون الدولي، وطالبت بإنشاء مَمرّ إنساني للسماح بدخول المُساعدات، إضافة إلى استعمال حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن ضد قرارات أمريكا، وهذا ما يؤكد أنها أجادت اللعبة السياسية بانتهاج الحياد، مع حرصها على إظهار موقف متباين مع أمريكا، فكسبت بذلك التأييد الشعبي.
كل هذه المواقف أعادت السؤال: هل استيقظ التنين الصيني ليعدّها كي تكون القوة العظمى في القرن الواحد والعشرين؟
مقالات