الأزمة الليبية.. عودٌ على بدء!
“المدارنت”..
أفضت الأحداث المتسارعة في ليبيا، خلال شهر آب/ أغسطس الجاري، إلى إنهاء المحادثات السياسية بين الأطراف الرئيسية المتصارعة في البلاد، وزادت احتمالات اندلاع دورة أخرى من المواجهات المسلحة بين الشرق والغرب، وكأنّ الليبيين المنقسمين على أنفسهم منذ عقدٍ ونيّف، لم يكفهم تعقيد أزمة بلادهم وتركيبها، فآثروا أن تكون نموذجاً من حلقات العنف المفرغة.
فقد أعلن الجيش الوطني الليبي في شرق ليبيا، بقيادة المشير خليفة حفتر، في التاسع من هذا الشهر، تحريك قواته باتجاه سبع مدن وقرى في جنوب غربي البلاد الخاضع لحكومة الوحدة الوطنية لتأمين الحدود الجنوبية وتعزيز الأمن القومي. وإزاء ذلك، دعا الجهاز الوطني للقوى المساندة التابع لحكومة الوحدة الوطنية الوحدات القتالية برفع درجة التأهب العسكري واستنفار وحداته.
وقد تصاعدت تحذيرات المراقبين من أن استمرار الحشد العسكري لطرفيّ الصراع سوف ينتهي بمواجهة عسكرية محتملة بين الطرفين، اللذين يحاولان بسط نفوذهما على الحدود الجنوبية والسيطرة على المواقع الاستراتيجية فيها.
وازدادت الأزمة السياسية المركّبة في ليبيا تعقيداً، وتصاعد الانقسام السياسي «المزمن»، واتسع «الفتق على الراتق»، بما قد يشمل إنهاء التوافق على إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي طال انتظارها، عقب تصويت مجلس النواب في بنغازي، قبل أن ينتصف هذا الشهر وبالإجماع، على إنهاء ولاية السلطة التنفيذية المنبثقة عن اتفاق جنيف، الذي أُقرّ عام 2021 برعاية الأمم المتحدة، بما يشمل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والمجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، واعتبار حكومة الاستقرار (شرق) برئاسة أسامة حماد «شرعية» حتى اختيار حكومة موحدة، كما أقر مجلس النواب سحب صفة «القائد الأعلى للجيش» من المجلس الرئاسي، وإعادتها إلى رئيس مجلس النواب عقيلة صالح.
وقد أثار قرار «النواب» انقساماً حاداً بين المكونات السياسية الليبية، إذ اعتبرته حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي ومجلس الدولة غير ملزم ويفتقر إلى الإجماع السياسي، بينما رحبت حكومة حماد والقيادة العامة للجيش الوطني بهذه الخطوة.
وفى الوقت نفسه، امتد الصراع على السلطة بين حكومتيّ الوحدة والاستقرار ليصل إلى المؤسسة الليبية للاستثمار، إذ يسعى الرئيس التنفيذي لصندوق الثروة الليبي إلى الحصول على موافقة الأمم المتحدة، بحلول نهاية العام، حتى تتمكن المؤسسة من إدارة أموالها وضخ استثمارات جديدة، لكن فرع المؤسسة، التابع لحكومة حماد، طالب جميع الجهات الإدارية بعدم التعامل مع الإدارة لفرع المؤسسة في طرابلس. وتمدد الصراع إلى المصرف المركزي، حيث أصدر المجلس الرئاسي قراراً بإقالة محافظ المصرف، الصديق الكبير، من منصبه، وقد تحدّى المحافظ قرار «الرئاسي»، ورفضه مجلسا النواب والأعلى للدولة.
لكن يبدو أن الحصار يزيد على حكومة الوحدة، بالإضافة إلى تنامي التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها على أكثر من صعيد، فيما أسهُم حكومة الاستقرار آخذة في النمو، فقد يدفع فوز خالد المشري برئاسة المجلس الأعلى للدولة، في مواجهة محمد تكالة، الذي يدعم الدبيبة، نحو تشكيل حكومة موحدة جديدة وإنهاء ولاية حكومة الوحدة الوطنية.
فى الوقت نفسه، استمر عدد من الجهات المحلية في استخدام حقول النفط كأوراق ضغط سياسية ضد حكومة الوحدة، إذ أدت اعتصامات بالقرب من حقل الشرارة النفطي إلى إغلاقه بالكامل، كما تصاعدت حدة الانفلات الأمني في المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة الوحدة، إذ شهدت طرابلس، يوم 9 أغسطس، اندلاع اشتباكات بين تشكيلات مسلحة متصارعة، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى، وفى ال 11 من الشهر ذاته، طوّق عشرات من الشباب والمسلحين مبنى تابعاً لمصرف ليبيا المركزي في طرابلس لطرد محافظه، وقد أعلن المصرف عن تعليق جميع أعماله، يوم الـ18 من أغسطس، عقب خطف أحد مسؤوليه.
لذلك هناك تفهّم لسعي الأطراف الإقليمية إلى تعزيز التعاون مع الجيش الوطني الليبي وحكومة حمّاد، فقد بحث الأخير في زيارة رسمية إلى مصر، مع رئيس وزرائها، سبل تعزيز التعاون المشترك، علاوة على ذلك، أشار المراقبون إلى تقارب تركي مع السلطة في بنغازي، إذ التقى بلقاسم خليفة حفتر، مدير صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا، مع رئيس الوزراء التركي في أنقرة، ويُلاحظ أن التقارب بين تركيا وحكومة بنغازي تحرّكه المصالح، لذلك، احتفظت تركيا بعلاقتها مع حكومة الوحدة الوطنية، ووجودها العسكري غربي البلاد.
كما التقى المشير خليفة حفتر، في مكتبه ببنغازي، مع وفد من شركة جلوبال بيلدرز الإماراتية برئاسة محمد العبار، بحضور رئيس حكومة الاستقرار أسامة حماد، عقب إتمام توقيع عقد تصميم وتنفيذ مشروع المنطقة الحرة «المريسة»، أكبر المشاريع في ليبيا وشمال إفريقيا.
الخلاصة: إن التطورات المتسارعة خلال الشهر الحالي تشير في مجملها إلى بلايا جديدة تُضاف إلى البلايا المزمنة في الأزمة الليبية، ما يُهدد اتفاق جنيف عام 2021، الذي تضمن مسارات سياسية واقتصادية وعسكرية، بما يشمل وقف إطلاق النار، إذ إن الحشد العسكري من جانب طرفي الصراع الرئيسيين في الشرق والغرب ينذر بتجدد الصراع المسلح، وكأن البلايا تحمل المنايا للّيبيين. وقد تضمنت التحركات السياسية للأطراف المتصارعة اعترافاً ضمنياً بفشل الترتيبات السياسية للاتفاق، كما أن بعض الأطراف تهدف إلى الضغط على المجتمع الدولي للتوصل لاتفاق جديد.