الإفراط في التفاهة.. قنبلة نووية
“المدارنت”
… نشر نجيب محفوظ روايته المسماة «ثرثرة فوق النيل» في العام 1966، وكانت الرواية بمثابة جرس إنذار، يُحذّر من كارثة ستقع، وقد عبرت «ثرثرات» أبطال الرواية، عن عمق الرداءة السائدة، وعزلة المثقف الملتزم، وفراره إلى الثرثرة الفارغة والغيبوبة، حتى أصبحت حياته مجرد نكتة سمجة بفضل التفاهة.
قال لي صديق مثقف، وهو يذكرني بتلك الرواية، وقد تحولت إلى فيلم سينمائي فيما بعد، وسألني، فيما إذا كنت أتذكر، المنظر الأخير في الفيلم، وأحد أبطاله يسير وسط الشارع، وهو يهتف بأعلى صوته، ويقول: “يا ناس فوقوا (استيقظوا).. كفاية تفاهة وتحشيش”.
قاللي، وهو يحاورني، “إنه لم يعد قادراً على احتمال أي نص أدبي عميق، أو قراءة فكرة فلسفية”.
لم يتوقف صاحبي عن الحديث، والتعبير عن حزنه ووجعه، أمام المشهد العام الذي يراه، مليئاً بثقافة التفاهة، هنا وهناك، وفي أجزاء كثيرة من العالم.
ويتساءل: ماذا جرى، حتى أصبح للتفاهة نظامها وصناعتها وآلياتها ونجومها، وعوائدها المالية الخيالية. وقد اقتحمت حتى خصوصية الأفراد، من خلال سيطرة الصوت والصورة والثرثرة، وحضور عالم الاستعراض والفرحة، وتوسع صناعة الرموز الرخيصة في قيمها وعطائها ومحتواها الرديء.
غادرني مهموماً، وعدت إلى نفسي، وفي لحظات التأمل والعزلة (نصف إجبارية)، واصلت البحث للانتهاء من مخطوطة كتاب أعمل على إنجازه منذ أكثر من عام، حول نفس أطروحة صاحبنا.
حسناً، إن الثقافات الرديئة تنتج نظمها التافهة، في السياسة والأدب والاجتماع والفنون وغيرها..
حيث تُهمَّش قيمة الإنسان، وتفكك منظومات قيمية إنسانية عليا، لتحل محلها المنفعة والمتعة العابرة، والبهرجة والابتذال، ويصبح الشأن العام، في ظل ثقافة التفاهة، مجرد تقنية إدارية، وليس منظومة قيم، وتنتشر الغوغائية السياسية، بما فيها من جاذبية وميل جماهيري لها، وتنحدر قطاعات الفنون المختلفة، من سينما وغناء وموسيقى ومسرح ورواية، وتغزو المجتمعات أعراض التفاهة والعبث، والأنماط المعيشية المرذولة، والتي تسهم في إفساد الذائقة الثقافية للناس، وتقاوم ثورة العقل والإبداع الفلسفي الإنساني، والتجديد في حقول الفكر والأيديولوجية والمعرفة والسياسة والحوار.
وفي ظل هذه البيئات الرديئة، يتحول التافهون إلى رموز، وبخاصة في زمن تكنولوجيا الإعلام والتواصل الاجتماعي، وما أتاحته هذه الوسائط من إمكانيات غير محدودة للنشر والمشاركة والتأثير في الثقافة والقيم والوعي، وجعلت من حمقى وتافهين ومهرجين مشاهير، وتجاوزت نسبة مشاهدتهم ومتابعتهم الملايين من الأفراد.
إن ملايين من «المشاهدات» والإعجاب، لا تعني بالضرورة القيمة الأدبية أو الفكرية أو العلمية أو الإبداعية، وكم شاهدنا، كيف أدت «تغريدة» سياسية واحدة لتصنيف صاحبها بأنه “محلل سياسي، واستراتيجي أو خبير أو حتى فيلسوف”.
تتمدد التفاهة، بشكل مطرد، باعتبار أنها تخدم أغراض السوق، وتراكم الأرباح، وفي وقت نمر فيه على خبر علمي، وكتاب فكري عميق، مرور الكرام.
من المسؤول عن إشاعة الرداءة والتفاهة، وتحولها إلى مناخ سائد جذاب؟ تبدأ خطوات النزول إلى «حفلة التفاهة» حينما تتدهور متطلبات الجودة والأداء الإبداعي، وتهتز القيم ويعم الفساد والتسيب الأخلاقي، ويُفتقد الإحساس بالانتماء، ويفر المثقف وصاحب الضمير المسؤول.
تُشرعن التفاهة حينما يُستعان في الأمور الجدية بتافهين اكتسبوا الشهرة، بسبب رداءتهم، وتُخصص ميزانيات ضخمة لإعلاناتهم، وتكون المحصلة تراكم سلوكيات رديئة، وانتشارها وإعادة إنتاجها.
وها نحن اليوم، نشهد كيف أصبحت الكتب العلمية والأدبية والفكرية قليلة الرواج، ولا تغطي حتى تكاليف نشرها، وصار (الهاشتاغ#) أهم وأقوى من الاستطلاع العلمي أو الميداني، والكم أهم من الكيف، والديمقراطية مقدمة على الحرية والعدالة.. إلخ.
حسناً، لنوقف التفاهة، بدءاً من الوعي بهشاشتها، وبسخف وخداع ما تعده «مهماً» أو أنه هو «ما يطلبه الجمهور”.
إن معرفة التفاهة تحرر الإنسان من الأوهام والسذاجة والخداع، كما يمكن مواجهتها من خلال الارتقاء بالخطاب داخل النقاش العام في المجتمع، إلى مستوى نهضوي وعقلاني وإنساني، ورفع مستوى الذائقة الجمالية والقيمية لدى الأجيال الشابة، ورد الاعتبار لحب الحكمة والفضول المعرفي، ولنظم الجودة والإنتاجية وقيم الخير العام وعمران الأرض.
يقول الروائي الإسباني كارلوس زافون في روايته «ظل الريح»: “لن يُفنى العالم بسبب قنبلة نووية، كما تقول الصحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة، والتي ستحول الواقع إلى نكتة سخيفة”… المصدر: “الخليج” الإماراتية.