الانحدار الأميركي!
“المدارنت”..
عندما تسيدت الولايات المتحدة النظام الدولي في مطلع تسعينات القرن الماضي لم يكن ذلك بسبب ضعف الاتحاد السوفييتي، إنما بسبب شيخوخة النظام في الكرملين وعدم قدرته على التجديد في البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ووصوله إلى حالة من الاستحالة في التطوير الأيديولوجي في مواجهة الرأسمالية الأمريكية. وعندما حاول ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس سوفييتي، إعادة إحياء النظام من خلال موجة إصلاحات سياسية واقتصادية هدفت إلى تحديث الاتحاد السوفييتي من خلال ما يسمى «البريسترويكا» و«الغلاسنوست» (إعادة الهيكلة والشفافية) كان الوقت قد فات بعدما خرجت الأمور عن السيطرة وصولاً إلى الانهيار الكامل عام 1991.
وعندما بشّر الفيلسوف السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بعام واحد، بانتصار الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية باعتبارها مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان، لم يضع في حسبانه أن الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية التي تمثلها الولايات المتحدة تواجه مأزقاً هي الأخرى، نتيجة فقدان الثقة بها من داخل الولايات المتحدة نفسها والانقسام الحاد داخل المجتمع الأمريكي، حيث يتبدى الصراع واضحاً من خلال ما هو قائم بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري مع تصاعد مثير للخوف من القوى اليمينية المتطرفة التي يمثلها دونالد ترامب، بما قد يشكل انكساراً للنظام السياسي والاجتماعي لا يمكن إصلاحه.
هذا مجرد وجه واحد لأزمة النظام الأمريكي، أما الوجه الآخر فيتمثل بأن القوة الأمريكية التي تعتبر أساسية في استراتيجية الهيمنة والاستقواء للبقاء متفردة على عرش النظام العالمي تواجه تحدياً حقيقياً يفقدها القدرة على استمرار التفوق، بعدما أصيبت بالوهن نتيجة سلسلة من الهزائم التي لحقت بها في كل من أفغانستان والعراق ما أدى إلى تقويض هيبتها كقوة عظمى، خصوصاً أنها بعد عشرين عاماً من غزو أفغانستان وإهدار أكثر من تريليوني دولار ومقتل وجرح آلاف الجنود، كان انسحابها بحد ذاته بمثابة «هزيمة استراتيجية».
بما يعنيه ذلك من استنزاف للقوة العسكرية الأمريكية وموارد قواها الناعمة، وغياب الرؤية الاستراتيجية التي توجه السياسة الخارجية والدفاعية الأمريكية في مواجهة قوى عالمية صاعدة مثل الصين وروسيا والهند ودول مجموعة «البريكس» التي تقتحم كل مناطق النفوذ الأمريكية وتحقق فيها نجاحات سياسية واقتصادية ملموسة، وذلك في إطار السعي لإقامة نظام عالمي جديد أكثر عدالة ومساواة بديلاً عن النظام العالمي الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة «القائم على قواعد» كما تسميه واشنطن، وهي قواعد أمريكية تقوم على الهيمنة والاستقواء والتدخل في شؤون الدول الأخرى وإثارة الحروب وفرض العقوبات خارج قواعد الشرعية الدولية، ونصوص ميثاق الأمم المتحدة.
هناك دول كانت حليفة للولايات المتحدة تتمرد عليها بعدما أدركت أن مصالحها تفرض عليها تنويع علاقاتها وشراكاتها. وهناك دول خرجت من تحت العباءة الأمريكية وصارت تغرد بعيداً مع بكين وموسكو. وهناك دول أوروبية تبدي شكوكاً في استمرار التحالف عبر الأطلسي وتدعو إلى قيام نظام أمني أوروبي بديل لحلف الأطلسي من خلال تشكيل «جيش أوروبي موحد».
الانحدار الأمريكي يبدو أكثر وضوحاً في الشرق الأوسط خصوصاً تجاه القضية الفلسطينية والحرب “الإسرائيلية” على قطاع غزة، إذ تبددت أي ثقة ممكنة بدور أمريكي منصف أو ملتزم بالقانون الدولي والشرعية الدولية والقرارات التي تصدر عنها بوقف الحرب والإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب، إلى درجة أنها قبلت الدور بأن تكون شريكة في الحرب ومآسيها وتداعياتها.