الترادفُ في اللـّغة العربيـّة.
خاص “المدارنت”..
تنفردُ اللّغة العربية بخاصّيةِ لا تحملها غالبية لغات العالم، وإن وُجدت في إحداها فبصورة قليلةٍ جدًا، نسبة لوجودها في لغتنا، إنها ترادف المفردات، فما هي هذه الخاصّيةِ وما مفهومها وما دورها في فهم وإثراء لغتنا؟
عرّف علماء اللّغة الترادفَ بأنّه: “الألفاظُ المفردة الدّالة على شيءٍ واحدٍ بإعتبار واحدٍ. “أي تسمية الشيء الواحد بأسماء مختلفة نحو: الحسام والمهند والصمصام للسيف، مضى وذهب وانطلق، قعد وجلس ورقد ونام وهجع، وغيرها الكثير من الأمثلة، ومن أقدم من أطلقوا اسم الترادف على هذه الظاهرة، أحمد بن فارس في كتابه “الصاحبي”.
اختلفَ اللغويون القدماء حول إثبات هذه الظاهرة أو نفيها، فمنهم من قال بوجود ظاهرة الترادف في اللغة ومنهم من نفى وجودها، وأخذ كل منهم يدافع عن رأيه بالأدلة والشواهد والشرح، فكانوا كالباحثين عن النفائس في أعماق البحار، كلما غاصوا فيها كلما أخرجوا أثمنها وأروعها، فأضافوا ثراء اللغة ثراءً إضافيا، وأسهموا بإبداعهم في إظهار مدى اتساع اللغة العربية في التعبير.
احتج الفريق الذي أثبت ظاهرة الترادف بأمثلة كثيرة، منها اللب والعقل، الجَرح والكـَسب، لا ريب ولا شك، وبما جمع من أسماء للأسد (خمسمئة اسم) والحيّة (مئتين) وغيرها، إضافة إلى مفردات خُصّت بكتب منفردة كأسماء زوج المرأة: “حليلها، بعلها، عشيرها”، أو التراب: “الصعيد، الثرى، الرغام…”، أو الضرب: “صَفع، لكَم، لطَم..”، أو كأفعال كـ: “جاءَ، أتى، قدِم..”. ولكن حتى هؤلاء، كان منهم من اشترط قيودا للإقرار بالترادف، كاستخدام المفردة في لغة واحدة، وتطابق المفردتان بالمطلق في المعنى، وآخرون وسّعوا مفهوم الترادف ولم يقيّدوه بشروط .
أما من أنكر هذه الظاهرة منهم، احتجوا بأن الإسم واحد وما بعده صفات له، يقول ابن فارس :”لا أحفظ للسيف إلا إسمًا واحدًا وهو السيف، أما المهند والصارم، فصفات ترتبط به، كما فرق بين القعود والجلوس، فقال: نحن نقول قام ثم قعد، وكان مضطجعا فجلس، “فيكون القعود من قيام والجلوس من اضطجاع، واستدلوا أيضا بالإطراء والثناء، فالإطراء هو المديح بالوجه، والثناء هو المديح المتكرر.
انتقل الخلاف إلى المحدثين، الذين تعمقوا أكثر من القدماء في بحثهم، لجهة توضيحه وتقسيمه، وخلاصة ما اتفق عليه هؤلاء، هو بعض الشروط الواجبة لحصول الترادف، كإتحاد العصر والبيئة اللغوية، وأن تنتمي الكلمات إلى النوع الكلامي نفسه (أسماء، أفعال..)، وعدم التغيير النحوي عند التبديل، وأن تعبر المفردات عن الفكرة العقلية أو الصورة نفسها، ولكن ما لم يـُتفق عليه هو حصول الترادف الكامل، الذي يسمح استبدال الكلمات (المترادفة) في أي جملة، من دون تغيير في القيمة الحقيقية لهذه الجملة .
يتبين مما سبق، أن الترادف الكامل الذي يسمح بالتبادل بين اللفظين في جميع السياقات، من دون أن يوجد فرق بين اللفظين في جميع أشكال المعنى (الأساسي والإضافي) في لغة واحدة، وفترة زمنية واحدة، وبين أبناء الجماعة اللغوية الواحدة غير موجود. مثالا على ذلك، ما نجده مختلفًا بين حامل وحبلى، فالأولى راقية والثانية مبتذلة، كنيف ومرحاض وحمام فلكل منها بيئتها، عقيلته وحرمه وزوجته وامرأته، فالأولى رسمية لكبار الشخصيات والثانية أدنى درجة، والثالثة عربية فصيحة والرابعة عامية، بكى وانتحب، فالثانية أكثر عمومية وشمولية. ولكن هذا لا ينفي إمكانية حصول الترادف بالنسبة للكلمات التي تبدو متقاربة، ويعجز الشخص عن تحديد الفروق بينها، مثل: يثب ويقفز، يجري ويعدو، أو بالكلمات الأربعة التي وردت في القرآن الكريم، عام وسنة، وحول وحجة، حيث حاول اللغويون التماس الفروق بينها من دون جدوى.
الترادف من خصائص اللغة العربية التي تكاد تنفرد فيها، لتبلغ حدّ الإعجاز، وهي تعبر عن الشيء بألفاظ متعددة ،وفقا لعلوّه وهبوطه وعمقه وسطحيته، ووفقا للفروق الدقيقة، فنجد أن صفع هو الضرب على القفا، ولكم الضرب بيد مقبوضة، ولطم الضرب على الخدّ، كما نجد أن الصعيد هو تراب وجه الأرض، والثرى التراب النديّ، والرّغام التراب المختلط بالرمل، والأمثلة كثيرة.
لا شك في أن علماء اللغة (قديما وحديثا) في بحثهم هذا، قد بذلوا جهدًا كبيرًا، وأظهروا قدرة عالية في تفنيد المفردات، وإظهار الفوارق الدقيقة بين الألفاظ المستعملة، فأضافوا اللآلئ إلى لوحة إعجاز اللغة العربية واتساع تعبيرها.