«الجبهة الوطنية» في سوريا.. حُلّت الأكذوبة أم حُصرت السياسة؟
“المدارنت”..
قرارات إدارة العمليات العسكرية في سوريا، التي قضت بحلّ جملة من بنى «الحركة التصحيحية» مثل الجيش والأجهزة الأمنية وحزب البعث، وتناولتها هذه السطور في حلقات سابقة؛ تضمنت أيضاً حلّ أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» وحظر إعادة تشكيلها «تحت أي اسم آخر».
وكان الجمع في نصّ القرار بين حزب البعث وأحزاب الجبهة مدعاة إشكال فوري أوّل، مفاده الفوارق الشاسعة بين حزب حاكم (من حيث الشكل على الأقلّ) وأحزاب سائرة في فلكه؛ سواء من حيث الموارد المالية والأملاك، أو العلاقة الفعلية مع أجهزة الاستبداد والفساد في قلب النظام البائد، وبالتالي المسؤولية المباشرة عن الجرائم والانتهاكات والمجازر.
وهذا إشكال يصحّ أن يحيل إلى جملة من التساؤلات، بينها التالية: هل من الصواب وضع حزب البعث وأحزاب الجبهة في سلّة واحدة من حيث موجبات الحلّ؟ وهل وضعها في مصافّ واحدة مع حزب كان حاكماً، على نحو أو آخر، يشكل إجراء وقاية سياسياً وأمنياً وإيديولوجياً؛ أم يحرم تلك الأحزاب وأنصارها، أياً كانت أعدادهم، من حقّ الوجود؟ وإذا كانت الجبهة خديعة جوفاء كاذبة منذ تأسيسها، فهل قرار الحلّ الجماعي هذا يطوي الأكذوبة، فقط، أم ينتهي استطراداً إلى حصر السياسة في يد السلطة الحاكمة؟ وهل الاحتمال الثاني مرحليّ مؤقت ريثما ينظّم الدستور الجديد مسائل الأحزاب والنشاط السياسي عموماً، أم هو نذير بحظر طويل الأمد أو دائم بصدد إعادة تشكيل الأحزاب التي حُلّت؟
طريف، بادئ ذي بدء، أن الموقع الرسمي للجبهة على الإنترنت لا يزال مفتوحاً رغم قرار حلّها، وفي وسع زائره أن يطالع على صفحة الاستهلال علم النظام يرفرف فوق صورة بشار الأسد، مع العبارة المتكررة منسوبة إليه:
«جبهتنا الوطنية التقدمية نموذج ديمقراطي تمّ تطويره من تجربتنا الخاصة بنا. وقد أدت دوراً أساسياً في حياتنا السياسية ووحدتنا الوطنية». جليّ، في المقابل، أنّ الموقع لم يُحدّث بعد 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، تاريخ انهيار نظام «الحركة التصحيحية» وفرار الأسد الابن، وريث الأسد الأب قائد انقلاب 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 ورأس النظام؛ لكنه ما يزال حافلاً بكلّ عناصر الكذب والتضليل واستغفال العقول وإهانة المنطق السليم الأبسط.
وهذه «الجبهة» كانت واحدة من أبكر الأشكال التي أدخلها الأسد الأب في سنة 1972، ضمن نهج منتظم يستهدف وأد العمل السياسي في سوريا، وتزييف التحالفات، وتدجين أحزاب عريقة وأخرى وليدة لا يجمعها جامع أشدّ رسوخاً من انتهازية العلاقة مع السلطة الحاكمة؛ وشهدت انشقاقات شتى، وتنافساً محموماً على إبداء الولاء وحيازة المكاسب التي تبدأ من سيارة المرسيدس ولا تنتهي بحقيبة الوزارة.
وساعة انهيار النظام، كانت هذه «الجبهة» تضمّ حزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب الشيوعي السوري ـ مجموعة خالد/ عمار بكداش، والحزب الشيوعي السوري الموحد/ مجموعة يوسف فيصل/ حنين نمر، وحزب الوحدويين الاشتراكيين، والحزب الوحدوي الاشتراكي الديموقراطي، والاتحاد الاشتراكي العربي، والاتحاد العربي الديموقراطي، وحزب الاشتراكيين العرب، وحزب العهد الوطني، والحزب السوري القومي الاجتماعي ـ المركز؛ فضلاً عن اتحاد العمال، واتحاد الفلاحين.
هذه الغابة من الأسماء هي المؤشر الأوّل على خواء «جبهة» أقرب إلى مزرعة منتفعين انتهازيين، منها إلى تجمّع يمارس نشاطاً من أيّ نوع على صلة بالسياسة والاجتماع والاقتصاد، حيث تتعالى الجعجعة بلا طحن، ولا يُسمع صوت يتيم ينتمي إلى سوريا الجوع والعطش والبرد والخراب والقتل والمجازر وجرائم الحرب.
ومنذ أن أطلق الأسد الأب هذا الكيان الشائه، تقصد أن يحيل إليه سلسلة من المهامّ والصلاحيات تعجز عن حملها الجبال الرواسي؛ مثل: «تحرير الأرض العربية المحتلة بعد الخامس من حزيران عام 1967 كهدف مرحلي في نضال الأمّة، وهذا الهدف يتقدم جميع الأهداف المرحلية الأخرى، وفي ضوئه يجب أن نرسم خططنا في كافة المجالات».
بين الصلاحيات الأخرى، ثمة «إقرار مسائل الحرب والسلم» و«إقرار الخطط الخمسية ومناقشة السياسة الاقتصادية» و«رسم خطط التثقيف القومي الاشتراكي» و«العمل على استكمال بناء النظام الديمقراطي الشعبي ومؤسساته الدستورية ومجالسه المحلية» و«متابعة استكمال البناء الديمقراطي للمنظمات الشعبية والمهنية».
هنالك، أيضاً، هذا الطموح «المتواضع»: «جعل تجربة الجبهة في سوريا نموذجاً يحتذى به في الوطن العربي الكبير، لتلتقي القوى الوطنية والتقدمية في جبهة واحدة ضد قوى التخلف والتجزئة والاستعمار لتحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية». وكلّ هذا تحت سقف قاعدة في النشاط تخوّل حزب البعث وحده بالعمل في صفوف الجيش والقوات المسلحة والطلاب.
ومنذ سنة 2000، وابتداءً بخطاب القسم الذي أعقب توريثه السلطة، أعلن الأسد الابن أنه سوف يسير (وقد سار بالفعل، طيلة 24 سنة بعدها) على نهج والده، فاستعاد ما كان الأسد الأب قد أغدقه من مديح على صيغة «الجبهة» بوصفها المثال على «نموذج ديمقراطي تمّ تطويره من خلال تجربتنا الخاصة». وتناسى عامداً، إذْ لم يكن له أن ينسى ما يعرفه كلّ مواطن سوري راشد، أنّ هذه «الجبهة» أنشئت جثّة هامدة منذ البدء، وتُركت تتعفّن طويلاً حتى زكمت رائحة موتها الأنوف، فلم تعد أحزابها أكثر من حلقات تصفيق وتهليل ومباركة ومبايعة.
وإذا كان الأسد الابن قد تحدّث عن ضرورة تطوير صيغة عمل الجبهة «بما يستجيب لحاجات التطوير الذي يتطلبه واقعنا المتطور والمتنامي» فإنّ الأسد الأب كان قد تحدّث هكذا في كلّ خطاب قسم خلال السنوات الثلاثين التي أعقبت انقلابه. وأمّا «الجبهة» العتيدة فقد بقيت على حالها، وبقي عجائزها العاجزون كلٌّ في مكانه وموقعه، أو حيثما أتاح انشقاق جديد ظهور «أمين عام» وليد، هنا وهناك.
هذه الحال المزرية، التي تبدّت للعيان الشعبي السوري سنة بعد أخرى وعقداً بعد آخر، فلم يغب شللها عن أنظار غالبية أعضاء الأحزاب ذاتها، وشكّل صمتها عن جرائم النظام صيغة تواطؤ صريحة فاضحة؛ هل تبرر قرار الإدارة العسكرية بحلّها، على سبيل طيّ الأكذوبة؟ كلا، في ناظر هذه السطور، لسبب أوّل جوهري هو حقّ الشارع الشعبي في التعامل المباشر مع هذه الاحزاب، الآن وقد سقط النظام السياسي والأمني الذي كان يغطيها ويمكّنها أو حتى يموّل بعض أنشطتها وإعلامها؛ وهذا حقّ في المساءلة بعد التفضيح، وكشف الحساب والمحاسبة في سوريا الراهن، ثمّ في سوريا المستقبل حين يتوجب أن تصبح السياسة متاحة تماماً في الفضاء العام.
سبب جوهري ثانٍ هو أن حظر تشكيل الأحزاب، بما في ذلك إعادة تشكيل أحزاب قديمة بأسماء جديدة، يتوجب أن يتنافى مع مبادئ كبرى ناظمة في دستور سوريا المستقبل؛ أسوة بحقوق مدنية أساسية مثل المعارضة والتجمع وتشكيل النقابات والروابط والجمعيات، وضمان التظاهر والاحتجاج والإضراب.
قرار حلّ أحزاب «الجبهة» يُنزل بها العقاب في مستوى أوّل، جزاءً وفاقاً كما قد يساجل رجال الإدارة العسكرية، لكنه في المستوى الأعمق والأخطر يلوّح بإبقاء الحقّ في ممارسة السياسة منحصراً داخل موشور القوى الحاكمة وحلفائها في قليل أو كثير؛ كما يؤذي قسطاً غير ضئيل من فاعلية أحزاب وقوى كانت خارج دائرة النظام وجبهته، بل كانت في صفوف المعارضة على اختلاف تكويناتها الاجتماعية وتياراتها الإيديولوجية. ففي سوريا الجديدة الحرّة، للجميع حقّ العمل الحزبي والتفكير السياسي، على مرأى من الشارع الشعبي والسلطة الحاكمة، سواء بسواء.