“الجذمور” في رواية “لا تنس ما تقول”.. لشعيب حليفي
خاص “المدارنت”..
1-’‘لاتنس ما تقول’‘: عتبة لتركيب قبلي:
… ولأن رواية “لا تنس ما تقول” تنسج، بشكل عام وقائعها من أجواء بلدة بدوية شعبية صميمية تدعى ‘‘الصالحية’‘ نسبة للولي الصالح ‘‘بويا صالح بن طريف’‘، بكل زخمه الديني والاجتماعي والسياسي٬ وبحمولة الحيوات الحميمية لشخوص ‘‘عادية’‘ تعيش هوس ذاكرتها الشخصية في أفق البحث لها عن مكان آمن لتصريف أحلامها الصغرى٬ وهي التي تعيش في الآن نفسه ذاكرتها الجماعية في أفق تحقيق حلمها التاريخي بكل تعدد مشاربه واختلاف زوايا النظر إليه،حيث يقول السارد : ’‘لا تسبح الصالحية في خط مستقيم، هكذا هي مصائر أهلها ‘‘(ص41)، فبكل هذا وبغيره مما يمت إليه بوشائج علائقية متينة،يضعنا عنوان’‘لا تنس ما تقول ‘‘ أمام الجملة الاستعارية الحاملة للتعددية الدلالية المحتملة، بحكم انتمائها لقاموس شعبي متداول يجمع مابين النسيان والتذكر: يحض على تجنب الأول، ويحذر منه ، ويدعو إلى التشبث بالثاني والذود عليه،على اعتبار انه أضعف الإيمان.
وعليه يظل السياق هو وحده الكفيل باستخراج دلالة العنوان القابل مع ذلك لاحتمالات أخرى كامنة فيه، ولعلّها من سمات غنى التعبير الشعبي في توظيف أمثاله المندرجة ضمن الاستعارات التي نعيش بها.
إنه ما يجعل من العنوان جذمورا لمصائر متباينة، ولمدارج ومسالك مختلفة بين النمو والانتشار حد التشابك والتضارب والتناقض، والتي لا يشفع لها اختلافها غير انتمائها الموحّد لأفق ” الصالحية”. فالصالحية بهذا جذمور صلاح وطلاح ٬ فضاء لإيناع اختلاف السبل استجابة لما لا يحبل به المكان تاريخيا وجغرافيا، يقول السارد: “الحياة ليس ما يراه، ولكنها متفرقات في خزائن الزمن والروح “(ص 8)،بذا تتعدد الجمل في بطن الجملة الواحدة، وتفتح باب الحكي على احتمال التكاثر.يقول السارد على لسان شمس الدين الغنامي، بطل الرواية:” الحياة لا تصنعها الرتابة وإنما الأحداث الفارقة”(ص 30)، حينها يصبح الحلم أحلاما بالقوة، وتصبح حياة الصالحية حيوات بالفعل تسير أفقيا، فهي بقدر ما تعكس وحدة المنبت والمشترك الجذموري، بقدر ما تتشعب المصائر، وتتعدد حدّ التضارب، جذمورها التربة الموحّدة المفتوحة على آفاق انتظار توسّع احتياطي المعنى، وتجعل السياق داخل الرواية سياقات، يحكمه التقاطع حينا والتوازي أحيانا كثيرة.
وكلما حصل التقاطع حصل معه تضارب المصالح، واتخذ العنوان معنى التصادم لتعيش “الصالحية” حدّة التوتر، فتبدو بلدة تعج بالتناقضات والمفارقات، تعيش صخبها في الحديث عنها وقولها تاريخيا٬ وكلما حصل التوازي بدت نفس البلدة هادئة مطمئنة تحيا أريج قدسيتها الضارب في عمق التاريخ المسكوت عنه،تنصت لنفسها مرتاحة لنسيانها، ثم لا تلبث أن تنتفض احتجاجا على هذا النسيان. إنه ما أسماه لوسيركل التوسع الاستعاري٬ ذاك الذي تعيشه “الصالحية” في ما تبقى من تاريخ حافل بالغياب كما بالحضور. انه التعدد الذي يستبطنه العنوان نفسه والذي عبر عنه سعيد الحربيلي لشمس الدين الغنّامي في قمة حيرته حين قال:” أنصبح مثل أولائك في مقهى القتلة أو نتحوّل إلى عصابة أو نصبح منهم ونستريح أو نبتعد ونتحوّل إلى فقراء ودراويش”(ص 137)، لنلفي أنفسنا اختزالا، لا يخلو من تعسف،أمام ثلاثة احتمالات يحبل بها جذمور” لا تنس ما تقول ” باعتباره تركيبا قبليا لما سيلحقه من تفصيل٬ يسير من البسيط إلى المركّب:
فأما حالة البسيط، ففي الاحتمال الأول: حيث حالة الكذب على التاريخ ونسيان ما يقال في زعيق من الكلام، وفي عجعجة من دون طحين، داخل شعارات فارغة، لأن أصحابها مجرد كذَبَةٍ لا يتقنون إلا الكلام الفارغ الذي ينسونه بمجرد الانتهاء منه، تزجية لفراغ مفروض أو خدمة لمصالح آنية قصيرة المدى. كلام تجييشي يدغدغ الأحاسيس، لين الملمس، ولكن في أنيابه العطب، لأنه يعطّل سير التاريخ، سيرا على نسيان الكذاب لما يقوله.
وأما حالة البين- بين، ففي الاحتمال الثاني: حيث ضرورة التدخل قبل متابعة الكلام لتصحيح أو لاستطراد لابد منه كي يسير التاريخ سيره الطبيعي، تدخّلٌ مؤدّب (من الأدب بمعنييه) يراعي حرمة المجلس والمقام، وفي الآن نفسه يصحّح ما ينبغي تصحيحه٬ أو ٬على الأقل٬ سيرٌ تداعيٌّ للحكي على صيغة :”الشيء بالشيء يُذكر”٬تذكير بالوقائع المؤرخة شفويا قبل استئناف حكي الحاضر من باب ما يقال والذي لا ينبغي نسيانه أو تناسيه، وهو ٬ في تقديري ٬ الاحتمال الأكثر انسجاما مع المتداول شعبيا في عبارة ” لا تنس ما تقول” الجاري لا وعيا على لسان أهل ” الصالحية ” الأجمع.
وأما حالة المركّب ففي الاحتمال الثالث: حيث الخطاب المتعالي،والقول الذي لا يمكنه أن يُنسى أبدا عند الأتقياء المؤمنين بخلود السماء المملوءة بالأسرار المستعصية على التفسير، المؤبّدة من تلقاء نفسها.في مقابل اندحار الأرض بكل مكائدها العمياء، وهو الاحتمال المطلق أمام كل الاحتمالات النسبية.
فأي الاحتمالات تريد ” لا تنس ما تقول ” في نحوها المزدوج أن توصله لقارئها الضمني باعتبارها استعارة غاية وليس فقط استعارة آلة؟
2- شرائح اجتماعية:
أسفر الجذمور ” لا تنس ما تقول“، في تقديري على ثلاثة منحنيات بين النزول والصعود.خرجت جميعها من قلب أرض “الصالحية”، كل منحى يشكل ذراعا خاصا من أذرع الرواية، ويريد أن تكون له الغلبة، وهو ما يجعل صراع الصالحية مع نفسها يحتدّ حينا ويخبو أحيانا، صراع يغلفه الإحساس بالانتماء إليها، من غير القدرة عن الإفصاح عنه، مما يجعله صراعا غير مكشوف، بل جار من غير الإعلان عنه، وهو تجل أكبر لما يستبطنه العنوان بين خفيه وظاهره. ففي الصالحية لا يمكننا الحديث عن طبقات لأن مجتمعها رمادي ملتبس تحكمه الأعراف والتقاليد ومنطق القبيلة أكثر مما تحكمه موازين القوة ومنطق الدولة.
أ – المنحنى الأول: شريحة القتلة:
وهو المنحنى البسيط، إنهم شريحة الاحتمال العادي المشتق من علّته التاريخية،كنتيجة حتمية كانت منتظرة من مسلسل إفراغ الكلام من معناه، ذاك الذي يفيد الكذب عند النسيان، وتسجيل المفارقات بين القول وما يتبعه. إنهم أتباع عشرات الأسماء من ماركس إلى ابن حنبل مرورا بصالح بن طريف، يقول عنهم السارد:” يعملون على تكييفها ومنحها روحا جديدة ولو كذبا“(ص42).
إنهم زبناء مقهى القتلة العاطلين عن العمل، يقتلون الزمن اليومي في سجالات شبه سياسية لا طائل من ورائها. لا يحسنون غير محاربة الطواحين. وهم، من حيث لا يدرون، إنما يعيشون الوهم والكذب، ويمثلون “الكذب الذي صبغ هواء الصالحية“، على عادة الكذابين الذين ينسون ما يقولون، يعيشون الكذب ويصدقونه، وهم لا يقوون حتى على صياغة بيان لهم، وقد تكلّفت ياسمين الفوال بالكشف عن كذبهم حين قالت:” الآن فهمت أنكم قتلة ، وعنّينون ، وأشياء أخرى “(ص 46) . فكانت الاستجابة في مستوى كذبهم، ضحك على الذقون، وذلك بتأسيس المسرح الكبير، وتدشينه بمسرحية ساخرة يقودها ” القجايمي ” ، مسرحية هزلية كانت في مستوى المنحنى الكاذب على التاريخ الذي يقوده القتلة بمساهمة تمثيلية الأحزاب الممثلة في البرلمان، تعكس إضحاك الدراويش على همومهم ، يقول السارد : ” الضحك يشفي الأسقام ، وله قدرة عجيبة علي تهذيب النفوس والطباع”(ص99)، ويعلق أحد الشخوص:
”لماذا تفسدون علينا كل اللحظات الجميلة حتى ولو كانت كاذبة”(ص 100) ، وهكذا يحصل التطهير بإخراج الجني الكافر منهم ومن طابور من الدراويش، جني كافر كتلك العفاريت التي كانت تحرس ضيعات ومطامير سعيد الكنسوس في سيرة الحرابلة. انه كل ما جناه القتلة من زعيق غير مجد، يقول عنهم شمس الدين:” ها هم قد تحوّلوا إلى بؤساء الزمن وعبيده.”(ص132)، وبالفعل صاروا لعبة في يد القجايمي لا يملكون أمام سطوته إلا التنديد واتهامه هو أيضا بالكذب. (ص141)، وكانت حصيلة كذبهم أن أصبح الطفيلي الكردان، الجلاد القديم ،من فرط الكذب على التاريخ ، مقاوما ضد المستعمر، وأصبح القتلة نسخة للقجايمي على حد تعبير جعفر المسناوي. إذ انهم ليسوا إلا ألسنة تتقن اللغو، أقصى ما يمكن أن يصل إليه منحناها تنظيم مظاهرات محتشمة سرعان ما يزول أثرها بالبحث عن شعارات أخرى دون شعور في حلقة مفرغة عقيمة.
ب – المنحنى الثاني: تغريبة الحرابلة:
إنه المنحنى البين بين ، الحلقة المفقودة في تاريخ الصالحية، تبدأ بحلم سعيد الحربيلي بصناعة سفينة نوح من جديد ليجمع ما تبقى من سلالة طالها شتات ثمانية قرون (ص74) ، سلالة الرحلات السبع للحرابلة ، حيث الفرع لا بد له من تذكير بالأصل ، وحيث التدخل المؤدب للاستطراد الضروري كي يكون للتاريخ معنى ، تدخّل بين قوسين ، ليستقيم الحكي، بين القلعة الكبرى وأرض بويا صالح ، والذي تملأ فجوته حكاية تغريبة الحرابلة ، وكأنها الحكاية التي لابد منها لتصحيح التاريخ بغية استمراريته. حكاية سيتولى حكيها “جعفر المسناوي” بخط مضغوط.
يبدأ صعود المنحنى بحكاية رحلة الجد الأول، بعد أن ضاقت به السبل، إلى تخوم الصحراء، فيتحوّل اسم عبد السلام إلى عسو السوسي، ترافقه في رحلته عشيرته الأقربون فرارا من الإبادة، وايمانا مبكرا بأرض الله الواسعة، يُمنّي الجد الأول نفس مُرافقيه بالعودة يوما على صهوات الجياد لاسترجاع الحق المسلوب. ولأن الجذمور لا يبنى إلا على المحتمل ظل الوعد مشرعا على شموخ المحتملات(ص 80)، ولأن فرع الجذمور هذا استطراد مستقل بذاته،فقد حصل استبدال ديك المنحنى الثالث بالنسر، لرغبة دفينة للحرابلة بالانقضاض ثأرا لتاريخهم المغتصب في صعود المنحنى ليصل أقصاه.
كان النزول بـ”بلاد تزلمي” ثم “بلاد أداي ولخصاص” تجارة وفروسية تأخذ من الأغنياء لتمنح للفقراء، وتمنع الاتجار مع اليهود، وتبيع وتشتري الذهب، فإذا بالحرابلة أغنياء بعد فقرهم،ثم سرعان ما ينسى الحرابلة وعد العودة حين استطابوا العيش الرغد، وتوزعوا بين نواحي مراكش، واستبدلوا التجارة بالزراعة، ففقدوا قرارهم (ص 83))، وبدأ منحناهم بالنزول مادام الفرع من الجذمور، في سُنّة التاريخ ،بالضرورة أن يلد فرعا مهووسا بحبائل السلطة والمال، فيبور المآل أو يكاد ، وتكتب الهجرة من جديد بعد أن التهمت الجدّ والحفيد، في انتظار انبعاث الزعيم.
ومع توالي أشباه الزعماء واختفائهم، وكثرة فروع الجذمور ادعاء الانتساب إليه، ضاع الأصل بين فروع العنف والدهاء وعيون الذئاب ونسج الأساطير والأباطيل، وتفرّق الحرابلة أبناء وأصهارا تجري بينهم دسائس الحكم وحبائله بين القتل والغدر، فخالطوا النصارى وتناقص الفرسان، وتتالت الرحلات والهجرات، ومع ذلك ظل الجذمور جذمورا حاملا دوما للمحتمل. فنبت له فرع تذكر فجأة أن جده كان تاجرا ومحاربا، وعاد إلى القلعة الكبرى، ومنها إلى الصالحية محاربا في صفوف القايد العربي،ليتبعه بعد ذلك جل الحرابلة في سور لحمر بن منصور على أن تظل الصالحية أرضهم الأخيرة.
بذا كانت “تغريبة الحرابلة” الاستطراد المؤدّب قوسا لما بين الحكيين، عسى أن يتم تعديل التاريخ أو تصحيحه في سيرة الصالحية وجذمورها. وكأني ب “جعفر المسناوي ” في حكيه يطلب من السارد نقطة نظام للتذكير بالحلقة المفقودة في الحكي قائلا له ” لا تنس ما تقول” المتداولة اليوم مثلا للتذكير. يقول جعفر في خاتمة التغريبة:” نحن في زمن بلا مزايا…ولا تنس ما تقول” (ص 94).
ج – المنحنى الثالث: ربوة باب السماء
انه المنحنى المركب من الجذمور،يقول السارد: ”إنه الحقيقة الثالثة بعد الولادة والموت”(ص9). فإذا كانت الولادة هي تغريبة الحرابلة ، والموت هو مقهى القتلة، فإن الحقيقة الثالثة هي روحانية الربوة ، مقام سليمان الغنامي،وشمس الدين من بعده، وجعفر المسناوي ، إن لم نقل تركيبا في اتحاد الاسمين” شمس الدين المسناوي” لما يحمل الاسم من دلالات مبدؤها “الشمس” “التي لا تشرق إلا مرّة واحدة” (ص 57)، وبعدها تتدلى في بئر الغروب المجهول(ص75)،و هي الشمس التي يقول عنها السارد: ”كأنها وليد برونزي ارتخى ونام “( ص 8)،ومنتهاها” المسناوي” الدالة على الشيخ محب الحكمة، والذي يقول عنه السارد: “يتمنى[شمس الدين] لو كان مريدا له، يتبادل معه الزمن بالزمن”( ص 9)،وكأنه ” القمر المعّلق في السماء يبغي النزول الى الأرض لرؤية الظلام عن كثب”(ص 9).
في هذا المنحنى الصاعد تكثر التعابير الدالة عليه” الصيحة الروحانية– الأيادي الخرافية – الصعود مع الموج – الوصول إلى السحاب – عبادة العاشق –الأقدار والأبواب الخفية – العالم السحري – الخلوة الأزلية …) اقتداء بخطى بويا صالح، ومن هذا الصعود ينبثق النزول، مادمنا في سياق مآلات الجذمور يقول السارد: “ما يجمعه بأصدقائه الآن… هو تلك الروح الحائرة الباحثة عن جواب لا شفاء فيه “(ص10).
يصل النزول حدّه في اختيار المنحنى الثالث رسم حياة بسيطة، لا تختلف في تفاصيلها عن حياة الآخرين من سكن وشقّة وزواج وأبناء. في القلعة الكبرى نزول المنحنى وفي الصالحية صعوده. ومابين النزول والصعود كان “شمس الدين الغنامي” يعيش حيرة الروح تحت تنبيه صيحة الديك بين النهر والزمن، يقول السارد:” وكان جعفر المسناوي راويا للآخرين مغامرات شمس الدين مع النهر والديك والزمن”(ص 13)، والديك في ندائه إنما يعلن انبثاق الشمس من حلكة الليل الخانق. إذ كل الأنبياء كان لهم ديكهم، لذاك كان شعار اللافتة في المظاهرة رأس ديك بعرف أحمر (ص48)، وكان شمس الدين ”كأنه نبي أو حفيد نبي مشبع بمطلق الإيمان”(ص 69). في قمة المنحنى يقول سليمان الأب لشمس الدين الابن: ”ها هي خلوة جدك الأول، بويا صالح …فلا تخذلنا “(ص 15)، ثم يعيش شمس الدين نزول المنحنى بين “القبائل السبعة المأخوذة إلى سديم التوحش” (ص16) بكل قلق العارف بين المنعرجات،بين التيار وضده ليبدأ الصعود الذي لا نزول بعده.صعود”العابد الجديد في عالم تامسنا “(ص 20).
لم يكن النزول مجانا بل كان استرفادا للزاد المعيشي كحصيلة للظلام عن كثب رفقة “الفقيه ماو”(ص 22)، و”صفية الزناتي” و” فاطمة الوادي “،و”ياسمين الفوّال“، و”صلاح الشوني“، تماما كان نزول جعفر “المسناوي” الى الكتابة العمومية للاطلاع عن كثب على هموم الأسفل بين التجار والسماسرة والسحرة والكذابين والنصابين المجرمين وشكاوى المواطنين وكل كائنات العالم السفلي (ص133)…لم تكن عصارة النزول الا ما قال الشيخ ذو الرجل المقطوعة: “نحن أموات منذ الأزل وما نعيشه ونحياه هو عذاب القبر فقط” (ص49)،والذي ردّده أيضا جعفر المسناوي في نفسه بصوت مسموع: ”النسيان هو فراشنا الذي نأوي إليه “(ص50) كفرع من فروع الجذمور.ثم يبدأ الصعود ثانية نحو الخلوة،من الصالحية التي يصبح فيها شمس الدين الغنامي شخصا آخر لأنه يعيش بين أناس آخرين” لا يكذبون في ما يقولونه ولو كان خيالا “(ص61)، يعثر على نفسه في جلباب الأجداد الذين أدركوا أنهم يعيشون بلا زمن (ص 65)، وحيث يتحوّل إلى شمس الدين وشمس الله وأنواره(ص 69) ليصل منحنى الصعود قمته في بوابة ربوة السماء حيث تخف الأرواح وتتخلص من ثقلها ،ومنها تنبثق فكرة بناء القبة، أقرب باب إلى الله، كعبة لأولاد بويا صالح ،حيث تفيض الأنوار الداخلية، ويحصل التخلص من كل الأوهام الدنيوية.
يقول جعفر لشمس الدين: ”انه المحتمل فقط ،أما أنت، وحدك ترى الحقيقة أو هي التي تصطفيك وتراك.”(ص153)،بعدها تقام ليلة قبة الأعالي المتمنعة المنقطعة عن أرض السافلين الممتعة (ص174)،حيث تصل الروح مع الفجر إلى قمة التجدد والخلود، فيختفي شمس الدين، ويعود إلى الرحم، وقد صاح صديقه جعفر مخاطبا الفقراء المسالمين :” لا تنسوا ما تقولون”.
بذا يبلغ الفرع المركب للجذمور أقصى مداه حيث تستحيل العودة.
ما عدا هذه المنحنيات الثلاثة تبقى الأعشاب الأخرى، في تقديري، طفيليات تنمو على هامش تاريخ الصالحية، تستغل الفراغ وتشق لها السبل هلالمشبوهة، تراكم المال على عجل، وتحرّف ما تبقى من تاريخ الصالحية.
كانت لحكاية الجذمور أثرها البالغ في روايتها، سرد محموم تطبعه سمتان بارزتان تجمعان بين السيرة والرحلة توافق منحنيات الجذمور. وكل هذا من”الصالحية”،مدينة مصغرة لعالم أكبر، حيث لا مكان إلا بأهله، يقول السارد: “مدينة صغيرة سحرها فيما تختزنه داخل قلوب أهلها”(ص 28).