مقالات

الحرب ومستقبل “الإسلاميين” في السودان!

“المدارنت”.
كنا تحدثنا في مقالنا السابق، الذي أطلقنا فيه على الحرب السودانية اسم «حرب المجتمع الدولي في السودان»، عن أن هذه الحرب حققت ما أرادت أطراف كثيرة تحقيقه في هذا البلد، من إضعاف للجيش وتخريب للنسيج الاجتماعي، وتدمير للدولة ومؤسساتها وبنيتها التحتية، بشكل أعادها عقودا إلى الوراء، وجعلها مشغولة بتوفير أساسيات الحياة.

استشعارا لحاجة الجيش للعساكر المشاة، الذين يمكنهم الانتشار في مناطق واسعة لا تستطيع القوات المسلحة الرسمية تغطيتها والارتكاز فيها، ولدت الدعوة لقيام مقاومات شعبية ومناطقية لحماية المناطق، التي لم يصلها «الجنجويد» بعد، أو تلك التي استطاع الجيش تحريرها، والتي ما تزال تحتاج تمشيطا وحماية.
من هنا أيضا دخلت الكتائب الإسلامية كعامل إضافي في المعادلة. الإسلاميون الذين يمتلكون ميراثا ثقافيا مشجعا على بذل النفس، وخبرة عسكرية لا يستهان بها من خلال مشاركات سابقة في الحروب، أو من خلال التدريب، الذي كان يشجع نظام البشير أفراده عليه، كانوا يمثلون قوة إسناد ما كان يمكن للجيش، الذي كان يفتقر للقوة البشرية، أن يفرط بها. من ناحية المبدأ فإنه ليس هناك مشكلة في مشاركة إسلاميين في المعركة الكبرى لحماية أهلهم وصد هجمات المعتدين باعتبارهم إحدى الفئات الشعبية الفاعلة، لكننا نورد هنا ملاحظات جديرة بالانتباه في هذا الخصوص.
أول هذه الملاحظات وأهمها هو تركيز الكتائب الإسلامية، وعلى رأسها المجموعة التي تطلق على نفسها اسم «البراء بن مالك»، على الظهور بوصفها مجموعة إسلامية جهادية، لا كونها مجموعة وطنية شعبية. هذه المجموعة، التي تبالغ في الظهور الإعلامي، والتي تحب أن تضخم من دورها العسكري عبر التقاط الصور، وصنع الفيديوهات، التي تحرص على وضع أناشيد جهادية في خلفيتها، في المناطق، التي يتم تحريرها، يمكن للمتابع أن يستنتج أن لها هدفا سياسيا يتجاوز الحرب الحالية.
المقولة، التي تعمل جهات على تثبيتها حاليا، والتي تقول إن المستقبل السياسي سيكون لمن شاركوا في هذه الحرب، تجعلنا نفهم أكثر، فبالنسبة للإسلاميين لا يمكن لكل هذه التضحيات، التي شهدت عليها الجماهير، والتي تم توثيقها بفيديوهات مكثفة ومحترفة، أن تضيع سدى.
المكافأة المنتظرة هي إنهاء حالة الإقصاء، التي كانت تعاني منها المجموعات الإسلامية، التي كانت مرتبطة بالنظام السابق، واستغلال موقف الأحزاب الرمادية، أو التي لم تعلن وقوفها مع الجيش بشكل واضح، في صنع إقصاء معكوس لها يتم بموجبه منعها من دخول الساحة السياسية. طرفا المعادلة الداخلية الأهم، وهما القوى الإسلامية، ومجموعة الحركات المسلحة الدارفورية، المتحالفة مع الجيش حاليا، لديهما الكثير من المشتركات، فمن ناحية ليس لتلك الحركات تحفظ على عودة الإسلاميين بالمطلق كغيرهم، بل يدعم كثير من قياداتها ذلك لاعتبارات قبلية، أو لخلفياتهم الحزبية أو الفكرية. بالمقابل يرى الإسلاميون أن من مصلحتهم بقاء تلك الحركات في الساحة السياسية كحليف مهم في مقابل القوى المدنية اليسارية، التي تسعى لمعاقبتهم وإقصائهم. بقاء هذه الحركات يعتمد بدوره على بقاء السودان الموحد، لأن أي انفصال يعني أن تتحول هذه الحركات، المنتمية لقبيلة صغيرة من مكونات دارفور إلى أقلية تتخطفها الجماعات الأخرى. هذا يجعل بقاء السودان وصد أي محاولة انفصالية من أهم ما يربط الجانبين، اللذين يتفقان كذلك على ضرورة إضعاف الحراك الشعبي العسكري للمكونات المنتمية لمنطقة الوسط.
تلك المكونات كانت تسعى منذ أشهر لتثبيت استقلاليتها، وللعمل بمعزل عن مظلة الكتائب الإسلامية، وقد عانت بسبب ذلك من تعطيل مساعي التسليح والإعداد، وهو ما جعل الآلاف من الراغبين في حمل السلاح غير قادرين على الحصول عليه، فيما كانت الإمكانيات مدخرة للأطراف الأخرى. أكثر من ذلك كانت مجموعة «درع البطانة» أو درع الوسط، التي طلب منها تغيير الاسم ليكون «درع السودان» من ضحايا ذلك التكتيك، حيث تعرض قائدها للابتزاز بوصفه قائدا لمجموعة عسكرية مناطقية، ما جعله مجبرا على نفي هذه التهمة بالتحالف مع الإسلاميين من جهة، وبالمبالغة في الحديث عن السودان الواحد، وعن نيته الدفاع عن إقليم دارفور الغربي من جهة أخرى.

ليس من المستبعد أن تقود جميع هذه التفاعلات، وعلى رأسها التعاطف الجماهيري، إلى تمكين الإسلاميين من العودة مجددا إلى الحكم. ما يجب وضعه في الاعتبار هو أن هذه العودة تترتب عليها مخاطر كثيرة، بخاصة إذا ما احتفظت هذه المجموعات بمشروعها، المعادي للمجتمع الدولي، والذي يستسهل الدخول في صراعات وحروب مع الجميع، في وقت لا تكاد الدولة السودانية تملك فيه قوت يومها.
هذا المشروع العدمي، الذي يشكك في كل المبادرات الدولية، يعتبر أن النزاعات، وعلى رأسها الصراع الحالي مع الجنجويد، لا تحل إلا بطريق المعارك العسكرية، حتى إن أدى ذلك لاستمرار هذه المعارك لسنوات وعقود. الأهم من كل ذلك هو الحقيقة، التي نرى أنها لا تخفى على القيادتين العسكرية والسياسية، وهي أن المحيط الإقليمي والدولي لا يرحب، على الأقل في الوقت الحالي، بعودة الإسلاميين، أما القوى والأطراف، التي دعمت التغيير السياسي وتنحية البشير، واستثمرت الكثير من المال في سبيل إعادة تشكيل المشهد السياسي، فسوف تعمل ما بوسعها لجعل هذه العودة باهظة، وإن كان الثمن إغراق البلاد في مزيد من الفوضى. الوعي بهذه الحقيقة ربما يقود إلى انقسام الإسلاميين إلى فريقين:
الفريق الواقعي، الذي يستوعب المتغيرات الإقليمية والتجارب المشابهة، والذي يعتقد أن الأنسب والأسلم هو العمل في الظل حتى تترتب الظروف السياسية في البلاد ومحيطها بشكل أفضل.
والفريق الآخر، الذي لا يستطيع تفويت هذه السانحة أو مقاومة شهوة العودة إلى السلطة. للفريق الأخير، الذي يقوده من يمزجون بين الجهاد والسياسة، والذين لا يرون بأسا من الدخول في صراعات متعددة المحاور، نقول إن المرحلة الحالية، التي تتجه فيها البلاد إلى إعادة البناء والإعمار وإلى الانفتاح على جميع الأطراف، تستوجب التفكير العقلاني، لا التفكير بطريقة عدمية صدامية تضاعف حجم المعاناة على كاهل المواطن المغلوب على أمره.

لا نطلب هنا أن يستبعد الإسلاميون من التنافس في النطاق العام، لكن المصلحة تقتضي أن يخفت دورهم وأن تعود القيادة العسكرية للإمساك بمفاصل الحكم، خلال المرحلة الانتقالية برفقة حكومة كفاءات مستقلة، تكون مشغولة بمشاريع الإعمار وبتهيئة ظروف عودة المواطنين، ومن ثم التحضير لانتخابات شاملة ونزيهة.
مقولة إن التضحيات، التي تم تقديمها عبر اشتراك شباب الإسلاميين في المعارك تستحق أن يكون لها ثمن تتناقض مع قيم الجهاد، التي تفترض أن ذلك العمل، وفق المنطق الإسلامي نفسه، كان خالصا لوجه الله ودون انتظار مكافأة دنيوية.
مشكلة هذا المنطق الثانية هو أنه يعيد إلى الأذهان السردية، التي كان يرددها خصوم الإسلاميين، من أن أنصار نظام البشير هم من وقف وراء هذه الحرب بطريقة أو بأخرى وأنهم هم من استثمروا فيها بما يضمن لهم عودة مأمونة للسلطة.
الأكيد هو أن هذا ليس الوقت المناسب لتصارع الأحزاب ولا للتنافس الفكري بين تيارات اليمين واليسار، والذي لا يعني لغالب المواطنين الذين ينتظرون تعافي بلادهم شيئا. لتنتهي الفترة الانتقالية بسلام، وبأقل قدر من التوترات في الداخل ومع الخارج، ثم لننتظر ما سوف تأتي به الأيام.

د. مدى الفاتح/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى