الخطاب العام في الساحة الفلسطينية.. بين منتقد لـ”حماس” ومؤيّد لها!
“المدارنت”..
في حين تقدم وسائل الإعلام “الإسرائيلية” دعاية “حماس”، مؤكدة انتصار فكرة الجهاد، وإذلال إسرائيل، وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وإحباط التطبيع بين إسرائيل والسعودية، وبقاء المنظمة عسكرياً ومدنياً في قطاع غزة- فإن الخطاب على وسائل التواصل الاجتماعي الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية يقدم صورة مختلفة وأكثر تنوعاً. وتتضمن هذه الصورة انتقادات شديدة لحماس، ومخاوف من تكرار حرب قطاع غزة في الضفة الغربية، وحتى الرغبة في استعادة السلطة الفلسطينية السيطرة على القطاع.
في مجال الوعي
على العكس من رواية السابع من أكتوبر: في السابع من أكتوبر، ابتهجت غالبية الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بـ “الهزيمة” التي ألحقتها حماس بإسرائيل. لقد كان يُنظر إلى إسرائيل بأنها مهانة، وكان الفلسطينيون فخورين بالمنظمة، معربين عن دعمهم لها، ومعتبرين أن ما فشلت الدول العربية في فعله لإسرائيل، نجحت في فعله. لكن بعد أكثر من 500 يوم وحرب مكثفة بين إسرائيل والمنظمة، سُجِّل تغيير كبير في هذا الاتجاه. وسيكون من الصعب أن تجد في قطاع غزة من يفسر أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول على أنها انتصار. وبشكل عام، يحمل الجمهور الغزي حركة حماس مسؤولية الكارثة التي حدثت في القطاع، ويقول إن المنظمة تسببت له ولمواطنيه بأكبر كارثة في التاريخ الفلسطيني. ويتضمن الحديث حتى الشتائم حول اليوم الذي قررت فيه حماس تنفيذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. وبدلاً من الشعور بـ”حرب الاستقلال” الفلسطينية، يستخدم الخطاب مصطلحي “الهولوكوست” و”الإبادة الجماعية”.
الوعي والردع
الوعي والردع – حول العلاقة بين جنين وجباليا: لقد حفرت صور الدمار والتهجير والموت التي بثتها قناة “الجزيرة” القطرية للعالم أجمع في الوعي الفلسطيني بشكل خاص والوعي العربي بشكل عام. ومن الممكن رؤية التأثير الهائل الذي يخلفه القتال في جباليا، في شمال قطاع غزة، على الفلسطينيين في الضفة الغربية، الذين يتراجعون عن إحراق المنطقة. لقد أدى الخوف من تكرار سيناريو جباليا في الضفة الغربية إلى رد فعل: فقد فرّت الغالبية العظمى من سكان مخيم جنين للاجئين وحتى طولكرم من منازلهم عندما بدأ جيش الدفاع الإسرائيلي في دخول المنطقة خوفاً من دفنهم تحت الأنقاض. كما ضعفت قيمة “الصمود” بشكل كبير، وتزايد الضغط الشعبي على المنظمات الإرهابية لوقف القتال.
دروع بشرية
“لسنا دروعاً بشرية”: في الخطاب السائد في قطاع غزة اليوم، هناك فهم بأن دماء محمد ضيف أو يحيى السنوار، قادة مجزرة السابع من أكتوبر، لا تساوي أكثر من دماء مواطني غزة. وخلال الحرب، تعرضت قيادة حماس في قطاع غزة لانتقادات شديدة لاختيارها الاختباء داخل المناطق المأهولة بالسكان وتحت حماية النازحين، ما تسبب في عمليات قتل واسعة النطاق بين سكان غزة، بما في ذلك العديد من النساء والأطفال. وينظر الجمهور في غزة إلى الاستخدام الساخر من جانب حماس له باعتباره “درعاً بشرياً” غير شرعي. ولم تذرف الدموع ولم تخرج أي مظاهرات بعد علمهم باغتيال ضيف والسنوار وغيرهما من كبار قادة التنظيم.
الرغبة في العودة إلى فترة ما قبل انقلاب حماس عام 2007: يشير الخطاب العام في غزة كما يتم التعبير عنه على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أن العديد من سكان غزة يفضلون حاليًا عودة السلطة الفلسطينية للسيطرة على القطاع. ولكن يجب التأكيد أن هذا التفضيل لا يعبر عن تعاطف مع السلطة الفلسطينية وزعيمها أبو مازن الذي ينظر إليه على أنه خائن، بل عن رغبة قوية في العودة إلى حياة أكثر عقلانية من دون خوف أو الحاجة إلى التسول للحصول على الماء والغذاء.
قضية السجناء
تراجعت قيمة إطلاق سراح الأسرى: تراجعت فكرة ضرورة دفع ثمن باهظ لإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. ومن خلال الخطاب العام في غزة، نستطيع أن نتعلم أن كثيرين ليسوا على استعداد لدفع الثمن لإطلاق سراح الأسرى. ويشير كثيرون بسخرية إلى أنه إذا كان لدى إسرائيل نحو 5000 فلسطيني أسير قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فهذا العدد تضاعف بعد الحرب.
كما أن الغضب الحقيقي تجاه حماس يتجلى من خلال العروض العسكرية التي تقام خلال احتفالات إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. ويقال إن على حماس أن تركز في هذه المرحلة على توفير الغذاء والماء والمأوى، وكذلك الملابس والخيام للنازحين، وليس على المسيرات التي لا معنى لها. الاعتقاد بأن هذه الاحتفالات تساهم في رفع معنويات سكان قطاع غزة خاطئ، إذ إنها لا تؤدي إلا إلى زيادة الإحباط والانتقادات لحماس.
النكبة والعودة
ومن العبارات التي تتردد في الخطاب الغزّي: “أردنا العودة إلى حيفا وعكا، والآن نطلب العودة إلى بيت حانون وجباليا”. ويشير سكان غزة إلى خسارة الأرض والنزوح باعتبارها الدليل الأوضح على هزيمة حماس و”المقاومة”. ومن بين الأمور التي لوحظت أن معبر رفح يقع تحت سيطرة الأوروبيين، بينما يقع معبر نتساريم تحت سيطرة ضباط المخابرات المصرية، ويتم توفير الغذاء من قبل الأمريكيين.
العالم العربي
“العرب لا يريدوننا” – ثمة فهم عميق بأن الدول العربية لم تعد مهتمة بالمساعدة في القضية الفلسطينية. وليس هناك دولة عربية مستعدة لاستقبال الأسرى المحررين أو اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها. وثمة تصريح مفاده أن زعماء الدول العربية يفضلون القضاء على حماس على استيعاب السكان الفلسطينيين.
ويجب أن نتذكر بأن حركة حماس لا تزال تحظى بدعم قوي بين سكان قطاع غزة. يدعم حوالي 20-30 في المائة من جميع سكان قطاع غزة حركة حماس وأيديولوجية المنظمة، ومن المتوقع أن يستمروا في دعمها تحت أي وضع. وحتى الأحداث التي يراها الفلسطينيون بمثابة “إبادة جماعية” وتشريداً، لم تدفع هذه الجماعة المتشددة إلى تغيير مواقفها.
وقد نرصد اتجاهاً مماثلاً وأكثر دراماتيكية في الضفة الغربية. يشير الخطاب العام إلى تراجع حاد في التأييد الشعبي لحركة حماس بشكل خاص ومنظمات المقاومة بشكل عام. ويشير الخطاب العام في الضفة الغربية إلى قلق من تكرار سيناريوهات غزة: الحصار، والمجاعة، والنزوح، والدمار الواسع النطاق داخل مخيمات اللاجئين وخارجها. وهذا ما يفسر غياب المظاهرات المساندة والحملات على وسائل التواصل الاجتماعي الداعية للانتفاضة، كما لاحظنا في بداية الحرب. وهذا ما يفسر الدعوات في المساجد لعدم الانضمام إلى منظمات “المقاومة” أو المشاركة في المظاهرات، فضلاً عن غياب النشاط الاحتجاجي ضد السلطة الفلسطينية (مرة أخرى، على النقيض من الاحتجاجات في بداية الحرب). وفي مقابل دعوات حماس هذه الأيام للبقاء في مخيمات اللاجئين، هناك دعوات لإخلائها وتجنب المواجهة مع قوات الجيش الإسرائيلي.
وعلى وجه التحديد، فيما يتصل بالخطاب في قطاع غزة، ورغم الضربات الثقيلة التي تلقاها حماس والانتقادات التي وجهت إلى المنظمة بسبب الكارثة التي ألحقتها بالمنطقة، فليس هناك شعور بـ”الاستسلام” في الخطاب العام. وبحسب الخطاب، فلن ينشأ هذا الشعور إلا إذا تحققت ثلاثة سيناريوهات: طرد قيادة حماس من القطاع، ونزع سلاح المنظمة، ووقوع نكبة أخرى، وتنفيذ خطة الرئيس ترامب لهجرة سكان غزة إلى الدول العربية.
ولكن الحرب لم تنته بعد، ومستقبل قطاع غزة يكتنفه الغموض. ومن الصعب تقييم ما إذا كانت اتجاهات الخطاب المعروضة في هذه المقالة ستستمر، أو ما إذا كانت شعبية حماس سترتفع مرة أخرى في قطاع غزة والضفة الغربية. وهناك عامل آخر قد يؤثر على دعم حماس بشكل كبير، فضلاً عن منظمات “المقاومة” الفلسطينية الأخرى، بالضرورة على حساب الدعم لحركة فتح والسلطة الفلسطينية، وهو اتجاه ونتائج الصراع مع إسرائيل، الذي يتصاعد حالياً في الضفة الغربية.