الدعوة التركية إلى مناطق تجارة حرّة!
“المدارنت”..
رأى وزير الخزانة والمالية التركي، محمد شيمشك، أنّ الحلّ الـشـامل لتعزيز العلاقات الجيّدة بين تركيا والدول العربية هـو إبرام اتفاقيات للتجارة الحرّة، وقال إنّه “ينبغي ألا يخشى العالم العربي توقيع اتفاقيات كهذه مع تركيا”.
كانت تلك جملة من خبر نشرته يومية عربية، يبرز تلك الإرادة التركية للخروج من أزمتها الاقتصادية، ودعوة جيرانها العرب، في كلّ المنطقة العربية، إلى إبرام اتفاقيات تجارة حرّة، مع إرفاق تلك الدعوة بوجوب عدم الخشية من عواقب تلك الاتفاقيات، وكأنّ الجانب التركي يريد الإيحاء بأنّ التعامل من جانبه لن يكون بمثل السوء الذي تجرّه الدول التي وقّعت اتفاقيات شراكة أو اتفاقيات تجارة حرّة مع شركاء دوليين كبار، أو تجمّعات اقتصادية كبرى.
تحاول المقالة استطلاع المساوئ التي تأتي من جرّاء التّفكير السّياسي في توقيع اتّفاقيات تجارة حرّة أو اتفاقيات شراكة من دون شرط الإصلاحات التي يجب أن تكون المسار القَبْلِي، أي عدم الإقبال على أيّ إجراءات لتوقيع تلك الاتفاقيات من دون تهيئة الاقتصاد لتقبّل صدمة التّعامل مع شركاء أقوى، حتّى لا تكون عاقبة تلك الاتّفاقيات على غرار ما جرى لدولنا في المغرب العربي، حين فشلت الاقتصاديات في الجزائر وتونس والمغرب في الاستفادة من اتفاقيات الشراكة المُوقّعة مع الاتحاد الأوروبي، وفي الأصعدة كلها، فتصاعدت العجوزات في الميزانية، كما لم تتطوّر أيّ قطاعات اقتصادية، بل أضحت بلداننا أسواقاً مفتوحة للمنتجات الأوروبية ومناطق مزايا لصناعاتها، في حين تراجع كثير من القطاعات الاقتصادية عندنا، لعدم تمكّن بلداننا من تحقيق فرص التّنافسية، بسبب ما سنذكره من واقع تلك القطاعات الاقتصادية.
بداية، يجب الإقرار بواقع اقتصاديات متواضعة الحجم ومرتكزة، في بلداننا، على الريع، أيّاً كان شكله، زراعياً أوسياحياً أو طاقويّاً، وهو ما لم يمنح الفرصة لتنوُّعٍ اقتصادي وفَتَح الباب، واسعاً، أمام دعوات شبيهة بالدّعوة التُّركية، وهي نماذج اقتصادية، في الواقع، لم تصل إلى إيجاد نماذج نجاح وطنية، بل تتردى، بعد عقود من الاستقلال، في أوضاع اقتصادية هشّة وغير قادرة على الصمود أمام صدمات التغيّرات التي تطرأ على الاقتصاد العالمي من ركود، وانهيار للأسعار بالنسبة لمواد الطاقة أو انتشار موجات عدم الاستقرار وتهديدها السياحة بالنسبة للمغرب وتونس، على سبيل المثال.
في النتيجة، فإنّ أوضاع الاقتصاديات في منطقتنا العربية، إذا وسّعنا الرؤية، ليست بأفضل مما هو عليه الوضع في المغرب العربي، ممّا يستدعي التفكير، مليّاً، قبل إقرار القبول بالدعوة التركية أو حتّى التفكير في الإصغاء إلى دعواتٍ مماثلة، قبل إجراء عملية إصلاحات هيكلية عميقة في الجهاز الاقتصادي.
ترتكز السياسة العامّة، في جانبها النّظري، في المجال الاقتصادي، على أساسيّات التدقيق والتقييم ثمّ التقويم، وصولاً إلى إقرار الاستشراف، أيّ توجيه السياسيات في المدى القصير، والمديين المتوسّط والطويل. ولهذا، فعلى صنّاع القرار في بلداننا الإقرار بالوضع الحالي، سواء كان فشلاً أو عدم نجاح، في الوصول إلى تحقيق النتائج المرجوّة في النمو والتطوّر الاقتصادييْن، ثمّ المرور إلى التدقيق في الأسباب التي حالت دون النجاح أو تلك التي أدّت في المجال الاقتصادي إلى وضع الفشل، وهو مجال معروف في الوسط البنكي، على وجه الخصوص؛ حيث تجرى عمليات التدقيق لوضع العميل في فترة العسر عن السّداد أو وقوع البنك، نفسه، في مشكلة ما، إذ تنتج عملية التدقيق نقاط القوّة والضعف في مسار العمل، وتقف على الأسباب الحقيقية التي حالت دون الوصول إلى تجسيد الخطط، وتحقيق الأهداف المسطّرة.
على المستوى الاقتصادي، في بلداننا، تكاد العملية التدقيقية أن تكون غائبةً أو أنّ من يقوم بها هي المؤسّسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي أو أجهزة قياس الأداء ومنح علامات الملاءة المالية، على غرار فيتش أو كوفاس الدوليتيْن) وهي العمليات التي تُبرز، حقّاً، نقاط الفشل، التي على دولنا الانتباه إليها، ولكن، بالأدوات الذاتية، وليس بالإصغاء إلى نداءات الاستدانة، ورفع الدعم أو الدخول في علاقات شراكة أو التفكير في مناطق تجارة حرّة مع شركاء أقوى، يحاولون الاستفادة من واقع الفشل أو العجز بتقوية اقتصاداتهم والإبقاء على الوضع الهيكلي الفاشل عندنا.
تُتَّبع عملية التّدقيق، في الحالة العادية لإجراء العملية التدقيقية بقصد تدارك الفشل، وتقويم الأخطاء، بتحويل نقاط الضعف إلى نقاط قوّة، في رحلة صعبة مضاعفة، لأنّها ترتكز على أداتيْ التقييم ثمّ التقويم، إذ على صنّاع القرارات الاعتراف بالفشل أو العجز، والاستعداد، بخاصّة في المستوى السياسي، لإدخال التعديلات الواجبة، بل إطلاق عمليات مساءلة عند اكتشاف نقاط الضُّعف والمسؤولية المنوطة بالجهات التي تكون قد قامت بالعمل على غير الوجه المخطّط له أو من خلال مسار يشوبه الفساد أو عدم الكفاءة. تكون هذه المرحلة من أصعب المراحل، وتعتمد على كفاءة أجهزة صنّاع القرار في التكيف مع أوضاع الفشل أو العجز و تحويلها منعرجاتِ إقلاع جديدة، ولكن، من دون اللجوء إلى الحلول الترقيعية، على غرار الاستدانة الخارجية لتغطية العجز، والامتناع عن إجراء الإصلاحات الضرورية، والاستمرار في السياسات نفسها، بل اللجوء، مثل ما فعلت البلدان المغاربية، إلى توقيع اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي في الوقت الذي كانت فيه تلك الاقتصاديات تُعاني من ذات الحالات الهيكلية، التي ذكرنا جانباً منها.
تكون الدول، في هذه المرحلة، بعد الاعتراف بالأخطاء وتبعاتها (الفشل، العجز، إيقاع المساءلة، اتخاذ القرارات الجريئة) أمام وضعٍ يمكن تسميته بالوضع الوجودي، لأنّه المنعرج الذي يمكّن من النجاح في تدارك الأخطاء، وتحجيم الخسائر، ثمّ اتخاذ مسار العودة إلى النمو والتطوّر، الذي يمكنه إنقاذ الاقتصاد ووضعه في سكّة تحقيق عملية إشباع حاجيات مواطنيه، والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، أيّاً كان نوعها.
على هذا، لماذا لا يجب الإصغاء الى الدعوة التركية؟… تنطلق الإجابة من مسلّمة أنّ التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية وضع عادي في ظلّ العولمة، ولكن على كلّ بلد الامتثال لوضعه الخاص باقتصاده والنظر برويّة إلى مصالحه ومصلحة تركيا، في حالة العجز الاقتصادي الذي تعيشه منذ فترة، هي الاقتراب من مصادر تحقيق النمو والعودة إلى سكّة تحقيق النمو الاقتصادي، ذلك أنّ التصريح الذي تصدّرت به المقالة تضمّن الإشارة إلى عدم الخشية من توقيع تلك الاتفاقيات، وكأن الجانب التركي يشير إلى أنّ المساوئ موجودة، ولكن لن تكون خلفية توقيع تلك الاتفاقيات معه.
ويعرف الجانب التركي، تمام المعرفة، الوضع الهيكلي الذي توجد عليه الاقتصاديات العربية، ولذلك هو يلعب على وتر الجوار الجغرافي، من ناحية، ووتر الفشل في التجارب مع الشركاء الآخرين، من ناحية أخرى، في باب الاتفاقيات الاقتصادية، سواء كانت شراكات أو اتفاقيات تجارة حرّة، ولكن، في الوقت ذاته، فإنّ ما يعرضه لا يختلف عما يعرضه الشركاء الآخرون، لأنّ أيّ علاقة شراكة أو اتفاقية تجارة حرّة، في العلاقات الاقتصادية الدولية، هي علاقات براغماتية، وترتكز على الاستقطاب عندما لا تكون الأطراف متساوية، أيّ غياب مُعطى الندّيّة من ناحية المستوى الاقتصادي، والوضع الهيكلي (عجز أو فشل)، إضافة إلى أنّ الجانب التركي سيركّز، حتماً، على القطاعات التي تُشكّل نقاط قوّة لاقتصاده، والتي تكون قد فشلت في العلاقات مع الشركاء الآخرين.
ولذلك، ذكر المسؤول التركي، في تصريحه المشار إليه، نجاحه في قطاع الصناعات التّحويلية عندما دخل في علاقات شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وكأنّه يشير، ضمناً، إلى أنّ اقتصاده قوي في هذا القطاع ويمكنه، في حالة التوقيع معه على اتفاقية تجارة حرّة، تحويل ذلكم النجاح إلى بلداننا، وهي دعوة اعتدنا على سماعها، وتتضمّن تحويل التكنولوجيا، وتحاول الإيحاء بنسب إدماج عالية، والإيحاء بإمكانية تطوير قطاعات بعينها في اقتصادياتنا، ولكنّها، في النهاية، تكون دعوات فارغة من أيّ مضمون لأنّ الاستقطاب هو الوضع الحقيقي لأيّ علاقة في حالة فشل هيكلي وهشاشة، بالنسبة لاقتصاديات محدّدة، عند دخولها في مشاريع اتفاقيات شراكة أو تجارة حرّة مع اقتصاديات متطوّرة أو قوية.
في الختام، على بلداننا التروّي في الإصغاء إلى هذه الدّعوات، والتفكير، مليّاً، في الإصلاحات، وتقوية التبادلات البينيّة بدلاً من الدخول، مرّة بعد مرّة، في مغامرات اتفاقيات لا مناص من الإعلان، مسبقاً، أنّها فاشلة، بالنظر إلى التجارب السابقة، فمن الغباء الانتظار من تجربة فاشلة أن تكون ناجحة، الآن، إذا نفّذت بالأدوات ذاتها، وفي ذاتها الفاشلة أو العاجزة.