مقالات

الساعات الأخيرة والخيارات الصعبة أمام العراق!

“المدارنت”..
في علم السياسة هناك مبدأ يقول، إن لكل زعيم سياسي الاختيار بين إجراء التقييم الذي يتطلب أقل جهد، أو إجراء تقييم يتطلب المزيد من الجهد. إذا أجرى التقييم الذي يتطلب أقل جهد، سيضطر بعد ذلك إلى دفع ثمن باهظ. وإذا كان يتصور أن سياسته ستنجح اعتمادا على عوامل النجاح التي في يد الآخرين، فلن يتمكن أبدا من تحقيق النجاح الذي ينشده. إذن هل هناك تقييم واضح لدى نظام بغداد، لطبيعة المرحلة المقبلة التي تواجه البلاد؟
لا شك أن ارتدادت الحدثين السوري واللبناني، ألقت ظلالها على الساحة العراقية. ويقينا أن فرائص الكثير من السياسيين العراقيين قد ارتعدت خوفا من المقبل، حتى بدأنا نسمع أصواتا تطالب بتحييد العراق عن هذين الملفين، ونسمع أصواتا أخرى أصابها البُكم، بعد أن كانت تملأ الإعلام زعيقا وتهديدا، وثالثة راحت تُراهن على الفعل الدبلوماسي، كمنجاة مما تخبئة الأيام المقبلة. وهذا الطرف يمثله رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي كانت أحاديثه واضحة في الفترة القريبة الماضية، عندما تحدث عن توسع قوس النار، وأن العراق كان مشمولا بما جرى. وعليه فقد دعى الى إعادة ترتيب ملف الحشد الشعبي على الأقل، وإيجاد حلول لموضوع انفلات السلاح.
ويبدو أن الهدف من كل ذلك هو إعطاء تصوّر بأن العراق قادر على حل مشاكله الداخلية، التي يمكن أن تتحوّل إلى مسوّغات لاستهدافه، بل إنه حتى حاول أن يُظهر نفسه وسيطا وليس طرفا في الصراع، من خلال الزيارات التي قام بها إلى المحيط العربي، والنأي بنفسه عما جرى في سوريا، وضبط الحدود وتوجيه رسائل إلى الداخل. ويمكن القول أن كل ذلك أتى في سياق أنه كان يستعد لفكرة أن إسرائيل ما بعد سوريا، كانت ستتجه إلى الجبهات التي كانت تُعد على أنها مصدر تهديد لها وبعيدة عن محيطها الجغرافي، وهي الجبهات المعروفة كالعراق واليمن وإيران. هذا الاتجاه دفع الطرفين العراقي والإيراني للقيام بزيارات متبادلة. فقد زار بغداد بصورة غير مُعلنه قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني، ثم كان الرد على الزيارة قيام رئيس الوزراء العراقي بزيارة طهران.
المفارقة هي أن العراق الذي يحاول تجنب العاصفة، بما يسميها سياسة النأي بالنفس التي يُبشر بها رئيس الوزراء، قابلها موقف مغاير تماما تحدث به المرشد الأعلى أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي فقال، يجب مواجهة الوجود الأمريكي بالعراق بحزم وجدية، وأن الحشد الشعبي لا يمكن حله بل المطلوب تعزيزه. ولعل أبرز وصف تنتجه هذه المفارقة هو، أن العراق بين مطرقة الضغوط الأمريكية وسندان الضغوط الإيرانية، وعلى الرغم من أنه الحلقة الأضعف في المنطقة، لكنه في عين العاصفة، وأن أي حرب ستحدث سيكون العراق ساحتها، خاصة أن الكل في واشنطن يتحدث عن أن إدارة ترامب تُحظّر سيناريو عسكريا ضد إيران، إذا فشل السيناريو الدبلوماسي معها. ولأن طهران تجد نفسها في وضع صعب جدا هذه الأيام، ولم يعد لديها خيارات كثيرة في هذه اللحظة، فخسارة سوريا هي خسارة استراتيجية، ولم تعد لديها قاعدة على الحدود السورية مع إسرائيل، ولم يعد بمقدورها تزويد حزب الله بالأسلحة. ووضعها الجيوستراتيجي بات في غاية الخطورة اليوم. ومن هنا تبرز أهمية العراق كورقة بيد صانع القرار الإيراني. لكن الحقيقة هي أن العراق ليست لديه القدرة أو الفاعلية أو الرغبة أو الإرادة، للعب هذا الدور. فهل تتخلى طهران عن ورقة العراق، بعد أن فشلت في الورقة السورية مؤخرا؟
هناك شبه إجماع على أن إيران لن تترك العراق يتصرف بطريقة سيادية، وقد تعزز هذا التوجه مؤخرا بعد الخسائر الفادحة في لبنان وسوريا. كما إن العراق هو حجاباتها الأخيرة، ولها معه حدود مشتركة بطول أكثر من 1200 كم. وهو يعني لها مرجعية شيعية كُبرى، وسوقا استهلاكية واسعة، وخزائن عملات أجنبية تموّل نفسها منها، بل اليوم بات العراق هو بوابتها على سوريا، إن عزمت على التلاعب بأمنه الوطني، لكن طهران تعلم تماما أن المقبل سيكون صعبا جدا عليها فجبهتها لن تُترك، وأن هنالك رسالة واضحة لها تقول، إنه يمكن نقل الضربات وبصورة أكبر إلى إيران ليس من جانب إسرائيل وحدها، بل الولايات المتحدة وأوروبا. والموقف الفرنسي واضح في لهجة الخطاب المتشدد تجاهها.
هذه المناخات بالنسبة لإيران صعبة، ولا بد أن تتكيف معها، والتحليل الدقيق للعلاقة الإيرانية العراقية اليوم، يشير الى إن طهران قد ناورت في إعطاء نوع من هامش للحركة للميليشيات العراقية المُؤتمرة بأمرها. وقد تمثل ذلك في عدم الدخول في صراع في سوريا، بعدما طلب النظام السوري السابق ذلك. أيضا يبدو واضحا أن هناك تحييدا عن استهداف إسرائيل في الأشهر الأخيرة. وهذا الموقف كان مرتبطا بالخوف من أن تخسر العراق أيضا، خاصة أنه في وضع هش للغاية، اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا وسياسيا، ما قد يدفعه للسير في ركاب ثورة عراقية، حيث إن هناك تناغما شعبيا واضحا مع الثورة السورية، وصل حد الإعجاب بها.
يبدو أن إيران تعلم جيدا أن الورقة العراقية خاسرة بيدها لا مُحال، إن لم يتم استغلالها بطريقة مختلفة عن السابق، في ظل المتغيرات وإعادة التموضع. والرسائل المقبلة من طهران إلى بغداد تفيد بعدم الرغبة في التصعيد، وربما تُعطي مساحة لفكرة دمج الحشد الشعبي في داخل الجيش العراقي ما صرّح به المرشد الأعلى، بهدف عدم تقديم مسوغات للاستهداف، فالنفوذ السياسي بالنسبة لها في العراق ما زال قويا وسيبقى قويا، لكن فكرة المواجهة والحرب أثبتت لها بأنها تقضي على نفوذها السياسي. لذلك الحفاظ على ما تبقى من مكتسبات في الجبهة العراقية سيكون هاجسا إيرانيا.
في حين أن الحفاظ على مكتسبات في اليمن سيكون أقل قدرة بالنسبة لطهران، لأن جبهة العراق هي المتنفس الحقيقي، لذلك سيتم التعامل معها بطريقة مختلفة. لكن هل يُبقي ترامب ذراع إيران في العراق سالما من البتر، وهو صاحب سياسة قطع أذرعها وإعادتها إلى حجمها الطبيعي كدولة من دول المنطقة؟ ألا يُثير قطع أذرعها في سوريا ولبنان لديه شهوة الاستمرار في هذا الفعل، خاصة وهو يعلم علم اليقين أن كل هياكل الدولة العراقية خالية من مطبخ صنع القرار، وأن قراره يصنعه الآخرون في الخارج؟ ربما هذه من أهم الأسئلة المطروحة اليوم.

المصدر: مُثنّى عبد الله/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى