السودان.. ما بعد هجمات بورتسودان؟!
“المدارنت”
لا يمكن التقليل من أثر هجمات الطائرات المسيرة، التي ضربت عدة مواقع استراتيجية في مدينة بورتسودان شرقي السودان، خلال الأيام الماضية. استخدام الطائرات المسيرة بواسطة قوات المتمرد محمد حمدان دقلو «حميدتي» ليس جديدا، لكنه تكثف منذ بداية هذا العام، ليطال عدة مدن رئيسة مستهدفا منشآت حيوية ومجمعات خدمية. هجمات بورتسودان كان لها مع ذلك وقع خاص لأهمية المدينة، التي انتقل إليها مركز الحكم منذ سقوط الخرطوم في أيدي ما كان يعرف بـ»قوات الدعم السريع». تحاول المدينة بعد مرور أكثر من أسبوع من الهجوم المكثف، وتصاعد لهيب النيران أن تصمد، وأن تظهر الثبات وتحافظ على انسياب الحياة، لكن استهداف المطار الرئيس، الذي يعتبر حاليا المطار الدولي الوحيد، إضافة إلى استهداف محطة الكهرباء ومستودعات الطاقة، بما لذلك من تأثير على وقود المحركات، يجعل من الصعب تجاهل آثار هذه الهجمات.
الآثار ظهرت منذ الأيام الأولى عبر ارتباك ثم توقف حركة طيران عدد من الشركات الناقلة من وإلى بورتسودان، إضافة إلى تأثر الميناء وانتشار حالة من الهلع بعد وصول التفجيرات لأحد أهم الفنادق في المدينة، ليشكل كل ذلك صورة قاتمة توحي بأن البلد لم يعد آمنا.
هذه الرسالة، التي يتضح أن الميليشيا المتمردة كانت تريد أن توصلها للرأي العام الداخلي والخارجي، تكررت على لسان المتمردين في أكثر من سانحة. وفقا لما يمكن أن نفهمه فإن الغرض من كل هذا هو تقديم صورة معاكسة للصورة، التي كانت الحكومة تسعى لتثبيتها، وهي أن الميليشيا في تراجع، وأنها باتت ذات أثر محدود وسيطرة نسبية على مناطق قليلة وأراضٍ متناثرة. تحت وقع الهجمات، التي لم تتوقف حتى ساعة كتابة هذا المقال، لا نتوقع أن يبدأ فقط المواطنون اللاجئون بإعادة التفكير في أمر عودتهم إلى السودان، وإنما أن يعيد كثير من المستثمرين، الذين كانوا يتحمسون للعمل ولبدء مشاريع، دراساتهم حول جدوى تلك المشاريع في ظل المخاطر الناشبة، خاصة أن دولا كثيرة ومهمة بادرت للطلب من رعاياها عدم السفر في الوقت الحالي للسودان. لا يتعلق الأمر بالمستثمرين فقط، بل قد يؤثر استمرار هذه الحالة السائلة على السياسيين والدبلوماسيين الأجانب، الذين كانوا ينوون زيارة المدينة أو يخططون للعمل من داخل البلاد. بهذا تريد الميليشيا أن تذكر بأنها موجودة وقريبة من الجميع، ليس فقط بوجودها في أجزاء من مدينة أم درمان، التي تتبع بدورها لولاية الخرطوم الكبرى، أو في مناطق أخرى كمدينة النهود، التي دخلتها مؤخرا، مرتكبة فيها جرائم ذات طابع عنصري، كعادتها في كل بلدة تدخل إليها، وإنما في كل مكان يمكن أن تصل إليه طائراتها المسيرة، التي تم اختبار قدرتها بالفعل على الوصول إلى مناطق بعيدة عن سيطرة الميليشيا. لكن كل ما سبق ليس بنظرنا التفسير الوحيد لهذه الهجمات الهيستيرية، التي لا تفرق بين الأهداف العسكرية والمدنية، إلا إذا كنا نقرأ تمرد حميدتي كونه تمردا سياسيا تقليديا، أما إذا كنا نرى هذا التمرد على حقيقته، وعلى كونه تمردا بدوافع عنصرية، كما أكدت ذلك تحركاته خلال العامين الماضيين، التي رأينا فيها قواته وهي تنطلق من أجل الانتقام من مكونات بعينها ترى أنها تستحق السحق والإفناء، فإنه ستكون هناك قراءات أخرى لهذه الهجمات.
من هذه القراءات النظر لهذه الضربات المدروسة، كامتداد لعمليات الإفقار، التي طالت الملايين من السكان في الخرطوم وفي وسط البلاد من المنتمين لقبائل الشمال خاصة، ثم لغيرهم من أبناء القبائل، التي لا يضمها تحالف «الجنجويد». عمليات الإفقار الممنهج تلك حولت الملايين من الذين كانوا من متوسطي الدخل أو من ميسوري الحال بين ليلة وضحاها إلى مجموعة من البؤساء الهائمين على وجوههم، والذين لا يكادون يجدون مصدرا للرزق ولا مأوى. لن ننسى هنا أن القلة، التي استطاعت النجاة من محرقة الخرطوم ونجحت في نقل أسرتها وممتلكاتها إلى مدينة ود مدني تفاجأت بعد فترة قصيرة بانتقال المتمردين إلى تلك المدينة، التي لم تكن لها أية أهمية سياسية أو عسكرية تذكر، بخلاف أنها حاولت أن تستوعب جانبا من الأنشطة الاقتصادية والإنسانية الوافدة من الخرطوم. حينها لم يكن الغرض الرئيس لدخول ود مدني، هو تنفيذ عملية ذات أهمية عسكرية أو استراتيجية، بقدر ما كان مواصلة أعمال النهب والسلب والإفقار، التي طالت مواطنين عزل بزعم سخيف مثل قولهم، إن أولئك البسطاء هم من المستفيدين من السلطة.
دخول بورتسودان، التي انتقل إليها الثقل السياسي والاقتصادي، لن يكون سهلا بالنسبة للمتمردين، إذا ما أرادوا أن يدخلوها بشكل عسكري تقليدي، كما حدث مع مدن أخرى، لأسباب تتعلق بخصوصية المدينة والوضع العسكري للميليشيا، التي باتت، على الرغم من كل شيء، في أضعف حالاتها. لهذا السبب ربما تم اختيار الطائرات المسيرة كوسيلة استراتيجية لتحقيق الهدف ذاته، وهو إفقار النخبة المتمدنة، لاسيما المنتمية لأعراق تنظر إليها الميليشيا بكراهية، سواء كانت من أهل المدينة نفسها، أو ممن انتقلوا إليها من أنحاء أخرى من السودان. هذا طبعا بجانب الهدف الأشمل المتمثل في إلحاق ضرر واسع بالاقتصاد السوداني، الذي يتعامل معه المتمردون كأنه مال خاص بالجيش لا ضرر في أخذه أو إفساده. هكذا، ووفق النظرة العنصرية المريضة، التي تقود تحركات الميليشيا، فإن هذا الضرر، على ما يخلفه من تعطيل للحياة المدنية وإرباك للدفقات الإنسانية يصيب ما يسمونها «حواضن الجيش» بالدرجة الأولى، أو بعبارة أخرى المواطنين والموظفين والتجار من أبناء شمال ووسط وشرق السودان.
ساعدت حالة الإفلات من العقاب هذه الميليشيا في مخططها الهادف لتوسيع استخدامها للطائرات المسيرة، حيث لم تقتصر الهجمات على العاصمة المؤقتة، وإنما امتدت لتشمل مجموعة من المدن بشكل متتالٍ، ما يذكر بالاستراتيجية، التي كانت تتبناها الجماعات الإرهابية، والتي تتلخص في العمل على سحب الإحساس بالأمان، ما يجعل الجميع يتوقع ضربة في أي وقت وأي مكان. لمواجهة هذه الاستراتيجية، التي قوامها ما حصلت عليه الميليشيا من طائرات مسيرة ودعم لوجستي متقدم، فإنه يمكن التفكير في الاتجاه لتحييد الجهات الداعمة، من أجل تجفيف الخطوط المنتجة، أو الموصلة. هذا الاتجاه، إن نجح، سيجعل المتمردين يفقدون وسيلتهم الأهم لبث الرعب والتخريب. تحقيق ذلك يستوجب القفز على الحالة الشعبوية غير العقلانية، التي ترفض كل أنواع التفاوض، والتي تغذيها جهات تستفيد من استمرار هذه الأجواء، التي يسودها انعدام الاستقرار. هناك رأي آخر يثار في الأوساط الشعبية، وهو الذي يذكر بمساهمة بعض أبناء قبائل الجنجويد الموجودين في الأماكن المستهدفة في عمليات الإرشاد وإرسال الإحداثيات. وفق هذا الرأي، فإنه يجب التعامل بحذر مع أبناء القبائل المتمردة، خاصة أنه ثبت خلال العامين الماضيين أن ولاء الغالب الأعم منهم لعشيرته يفوق أي ولاء حزبي أو وطني أو عقدي آخر.
لا يحظى هذا الرأي بالدعم الكافي، على الرغم من وجود كثير من الشواهد على ضرورة أن يتم أخذه بعين الاهتمام، خاصة بعد الضربات الموجعة، التي تلقاها المعسكر الوطني على يد عسكريين وفاعلين منشقين استغلوا مواقعهم من أجل توجيه طعنات مؤلمة لأهداف حساسة.