مقالات

السودان.. مرتزقة كولومبيون في صفّ “حميدتي”!

“المدارنت”..
تواترت الشواهد والإفادات منذ الأسابيع الأولى لحرب السودان حول وجود مرتزقة أجانب ضمن قوات (ميليشيا) الجنرال المنشق محمد حمدان دقلو «حميدتي». كان الحديث يتعلق آنذاك بأعداد تقدر بعشرات الآلاف من المقاتلين القادمين من منطقة حزام الساحل الافريقي، الذين كانوا يرون أن من مصلحتهم دعم مشروع دولة آل دقلو، الذي قد يوفر ملاذاً لعدد من القبائل، التي يسيطر عليها وهم التفوق العرقي.

ما تم إعلانه مؤخراً عن مقتل أعداد من المرتزقة الكولومبيين، الذين كانوا منخرطين في جبهات القتال في صفوف الميليشيا المتمردة، يشير إلى أن الأمر صار أكبر من مجرد انحياز بعض من يسمون بـ»عرب الشتات» في بلدان الساحل لحميدتي، بدافع التقارب الإثني، كما يؤكد أن الأمر تجاوز أيضاً مشاركة أفراد من دول الجوار الأخرى.
بعض متابعي الحدث السوداني رأوا في الاستعانة بمرتزقة من خارج نطاق الجغرافيا المحلية وأبناء قبائلها، الذين كانوا شديدي الحماس للقتال من أجل تحقيق انتصار لحميدتي، دليلاً على أن ذلك المخزون البشري، الذي كان يراهن عليه الداعمون للميليشيا، قد فقد أهميته. يمكن أن نرجع فقدان الأهمية وتراجع عدد المقاتلين من المحيط الافريقي لثلاثة عوامل رئيسية:

أهمها أن الحرب في السودان قضت على أعداد لا يمكن حصرها من أولئك المتطوعين، الذين دفع بهم إلى ساحة القتال، بجانب الرغبة في الحصول على الغنيمة، الحمية القبائلية، التي كانت تسهل ما يعرف في الثقافة المحلية بعمليات «الفزع». ذلك الموت الكثيف في أراضٍ غريبة وبعيدة عن ديارهم جعل الحواضن والمنابع تضغط على أبنائها من أجل العودة والكف عن الانخراط في صراع لا يخصهم.
نضع في الاعتبار أن الحرب استطالت بشكل لم يتوقعه أولئك المتحمسون، كما أن الخرطوم وود مدني وغيرهما من المدن لم تعد مغرية للبقاء فيها وحمايتها، بعد أن نفد كل ما فيها من أموال ومدخرات. ساعد على هذه الرحلات العكسية لدول المنبع كون أن لجميع تلك المكونات صراعات أخرى محلية في مناطقهم، إما ضد السلطات السياسية في بلادهم، أو ضد قبائل منافسة قد تستفيد من الهلاك الجماعي المجاني، الذي يتعرضون إليه.

يمكن أن نفهم ارتباط الجيوش الموازية وقوات المرتزقة متعددة الجنسيات بالحروب المعاصرة كأحد نتائج العولمة والحداثة، التي نعيشها، والتي استطاعت فتح الحدود للبضائع والبشر، وللجماعات المسلحة

السبب الثاني في انخفاض حماس المقاتلين من امتدادات قبائل الجنجويد الافريقية لساحة الحرب في السودان هو الانقلاب الواضح في موازين القوى، خاصة خلال الستة أشهر الأخيرة، حيث استطاع الجيش السوداني أن يعيد ترتيب نفسه وأن يمتص الصدمة، التي كان تعرض لها العام الماضي، بل أن يندفع لمحاصرة الميليشيا وطرد قواتها من مناطق كثيرة، مستعيناً بمجموعات من المتطوعين، ولكن أيضاً بحركات مسلحة من قبيلة «الزغاوة»، التي يمثل لها صعود الجنجويد تهديداً وجودياً.
جعلت هذه الصورة كثيراً من المنخرطين الأفارقة يدركون أن حلم دولة الجنجويد، التي أرادوا أن يكون لهم دور في بنائها وتأسيسها لتكون بديلاً عن دولهم، التي يرون أنها لا تمنح شعوبهم التقدير الكافي، صار بعيد المنال. هذه الخلاصات جعلت كثيراً من المقاتلين الأجانب يكتفون بأخذ ما خف وزنه وغلا ثمنه من مسروقات وثروات، قبل أن يبدؤوا رحلة هروب لا يأملون فيها إلا النجاة بأنفسهم.

السبب الثالث، الذي كان مهماً في ازدياد أعداد المرتزقة، كما كان مهماً في انحسار دورهم، هو ما تعلق بموقف الدول الافريقية المجاورة ذاتها. هذه الدول كان كثير منها يراهن في البداية على نجاح مخطط حميدتي، ويتعامل معه كزعيم مرشح لقيادة السودان. كان ذلك يمثل استفزازاً للسلطة القائمة في الخرطوم، ويقود إلى مزيد من التوتر في العلاقات، ما يقود بدوره إلى مزيد من التورط في دعم الجنرال المتمرد.
هذه العلاقات المتوترة جعلت دولاً إقليمية مهمة تغض الطرف أو تتواطأ بشكل مباشر بشأن إرسال قناصة، أو قتلة محترفين للسودان من أجل دعم الميليشيا، التي كانت تحتاج للإسناد، بعد أن فقدت منذ المعارك الأولى الكثير من عناصرها ذات التدريب المتقدم. الجديد هنا هو أن هذه الدول بدأت أيضاً اليوم تعدل مسارها وتدرك خطأ تقديراتها، التي دفعتها للانحياز لمتمرد بدا واضحاً اليوم أنه لا مستقبل سياسي له، خاصة بعد ارتباط عصابات الجنجويد بجرائم حرب وانتهاكات موثقة.
على عكس كل ما تعلق بالمقاتلين الافارقة فإن مشاركة جنود كولومبيين في حرب السودان تظل غريبة. هنا، حيث لا وجود لأي مشتركات أو انتماءات متشابهة، ناهيك عن وجود دوافع سياسية، لن يكون هناك أي دافع يمكن فهمه ومناقشته سوى المال، ومن أجل الاستعانة بمرتزقة بسمعة عالية مثل هؤلاء الجنود الكولومبيين، فلا شك أن الأمر يتعلق بقدر كبير من الأموال.
يمكن أن نفهم ارتباط الجيوش الموازية وقوات المرتزقة متعددة الجنسيات بالحروب المعاصرة كأحد نتائج العولمة والحداثة، التي نعيشها، والتي استطاعت فتح الحدود للبضائع والبشر، ولكن أيضاً للجماعات المسلحة.
منذ عقود خلت، فكرت دول نافذة، على رأسها الولايات المتحدة، في تشجيع تكون شركات أمنية خاصة. يمكن لهذه الشركات أن تقوم بكثير من مهام الجيش النظامي، خاصة المهام القذرة، التي لا يفضل العسكريون النظاميون التورط المباشر فيها. بهذه الحيلة يمكن للدول، التي تقف خلف هؤلاء العسكريين غير النظاميين، في حالة وجود مساءلة أن تخلي مسؤوليتها بالقول، إن هذه المجموعات لا تتبع لها وإنها غير مرتبطة بقواتها المسلحة الرسمية.
في الوقت نفسه تقوم هذه الشركات بتنفيذ أجندة الرعاة مهما كانت تكلفتها البشرية أو الأخلاقية مقابل المال. من أشهر هذه الشركات شركة «بلاك ووتر»، التي اكتسبت سمعة سيئة في المنطقة بعد سلسلة الجرائم، التي ارتكبتها في العراق كقوة مساندة للجيش الأمريكي في مجال «مكافحة الإرهاب».
“بلاك ووتر”، التي تضخمت مستفيدة من الإنفاق السخي عليها من أجل مهمة تطويق المجتمعات المحلية، بلغ بها الأمر أن صارت فوق القانون الأمريكي نفسه وباتت تهدد، وفق ما أكدت تسريبات “ويكيليكس”، حتى القانونيين الأمريكيين، الذين كانوا يحاولون فتح ملف انتهاكاتها ومساءلة القائمين على أمرها. وضع الجنود الكولومبيون، الذين كانوا في الغالب من العسكريين السابقين مختلف.
سِيَر هؤلاء الذاتية، التي تمزج بين حرب المدن ومكافحة المتمردين وملاحقة عصابات الاتجار بالمخدرات، كان تجعلهم على رأس المطلوبين للاستعانة بهم في كثير مما يعرف بـ”الحروب غير التقليدية”..
ووفق التعليقات، التي تم نقلها عن الإعلام الكولومبي في الأسبوع الماضي، فإن مجموعة المرتزقة، التي وصلت للسودان عن طريق المنافذ الغربية، التي تسيطر عليها قوات حميدتي، وقعت ضحية لخدعة، وأنهم لم يكونوا يعلمون طبيعة مهمتهم بشكل واضح، كما لم يكونوا يدركون أنه سيتم الزج بهم كجنود في أتون حرب صعبة. على أي حال، فإن هذه ليست المرة الأولى التي يشارك فيها جنود كولومبيون في بيئات حرب غريبة عليهم، فقد سبق أن وجدوا في العراق وفي اليمن وفي أفغانستان. إضافة إلى ذلك، فقد سبق أن ضلعت مجموعة من المرتزقة الكولومبيين في عملية اغتيال جوفينيل مويز رئيس هاييتي السابق في عام2021 .

في السودان يعيد اكتشاف وجود مرتزقة كولومبيين في البلاد طرح أسئلة حول من يقف وراء تدويل الصراع وتعقيده، وأسباب سعيه وإصراره على نصرة حميدتي مهما كانت تكلفة ذلك المادية والأخلاقية.

المصدر: د. مدى الفاتح/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى