مقالات

السودان وحرب الفضاءات المكشوفة!

“المدارنت”
شهدت الحرب الجارية في السودان هذا الأسبوع تصعيدا تجاوز كل ما يمكن توقعه على ما أحدثته بمداها الزمني الذي يقترب من الثلاثة أعوام من حرب يمكن تصورها بين طرفين، إلى حرب شاملة تستخدم فيها أسلحة فتك متنوعة وعمليات عسكرية لم تشهدها حرب داخلية أهلية منذ الحرب العالمية الثانية. فمن اقتحام المدن وارتكاب فظاعات بحق المدنيين والمقاتلين على السواء، إلى حرب شاملة تستخدم فيها منظومة الحرب الإلكترونية لضرب المدن والأعيان المدنية، بواسطة المسيرات الاستراتيجية.

إن الذي جرى من ضرب لمدينة بورتسودان الساحلية مقر حكومة الأمر الواقع، شكّل صدمة لم تكن ضمن حسابات القيادة العسكرية للجيش، فما الذي يجري ولماذا وصلت الحرب إلى ما يشبه نقطة اللاعودة، وتحول سير عملياتها العسكرية ومعها خريطة الحرب في المسافات والحدود الجغرافية.
جاءت هذه التطورات في أعقاب هجوم بالطيران نفذه الجيش على مطار مدينة نيالا (مقر الدعم السريع) غربي البلاد، حيث تسيطر قوات الدعم السريع على كامل الإقليم، ولم تكن المرة الأولى التي تقصف فيها هذه المدينة المستهدفة منذ بداية الحرب في أبريل 2023 والتي أوقعت العديد من الضحايا المدنيين، وطال التدمير البنية التحتية وزاد من معاناة النزوح في الإقليم المنكوب.
تمكن الجيش منذ بداية الحرب من استخدام سلاح الطيران، الذي يمتلكه بشكل واسع ضد مواقع الدعم السريع في العاصمة والمدن، ما حقق فارقا بين الطرفين في شن الهجمات الجوية، الأمر الذي لم يكن ليتحقق للدعم السريع، ما شكل نقطة ضعف لازمته طوال فترة الحرب في عاميها الأولين. وباستخدام المسيرات الاستراتيجية تكون الحرب بين الطرفين قد اقتربت من التوازن في القوة، رغم اختلافها على الأرض بسبب انسحاب وتراجع قوات الدعم السريع، وخروجها من وسط البلاد التي كانت تحت سيطرتها طوال المدة الماضية.

ويأتي الهجوم على مدية بورتسودان على مدى أيام وضرب مواقع استراتيجية في المدينة والميناء ومخازن الوقود والقواعد العسكرية، غداة رفض المحكمة الدولية دعوى السودان ضد الإمارات لدعمها لقوات الدعم السريع في الإبادة الجماعية، ومساندتها لهذه القوات في حربها ضد الدولة، بأنها، أي المحكمة لا تملك صلاحية اتخاذ تدابير ضد الإمارات.
فبعد أن انتقلت أزمة الحرب إلى الفضاء الدبلوماسي (المحكمة الدولية) تعقدت الأزمة المكتومة بين البلدين، بعد الهجمات الأخيرة التي اتهمت فيها الإمارات بشكل رسمي وقوفها وراء تلك الهجمات، وأخيراً كما جاء في بيان الخارجية السودانية بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، في سابقة نادرة في العلاقات السودانية العربية. وكما جاء في بيان أعلن مجلس الأمن والدفاع في السودان، الثلاثاء الماضي، قطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات العربية المتحدة، وإعلانها «دولة عدوان» وسحب السفارة والقنصلية العامة.
ودور الإمارات في مساندتها لقوات الدعم السريع كشفت عنه تقارير أممية وإعلامية، إلا أن الخطاب الرسمي لحكومة الجنرال البرهان لم يصعد في خطابه الخارجي طوال هذه المدة، وظل تبادل الاتهامات الإعلامية بين البلدين، وانتقلت الحرب بعد أن استنفدت أغراضها أرضيا إلى حرب إلكترونية موجهة باستخدام أسلحة غير تقليدية تصل إلى أعماق بعيدة تتحرك في الأجواء المكشوفة.
إن المسافة بين مدينتي نيالا وبورتسودان لم تعد بالتعبير الجغرافي في سياق حرب المسافات البعيدة تتحصن بالحواجز الطبيعية والفيزيائية، وبالبعد الزمني، ما يجنبهما غارات الطيران، أو الطيران المسير، بل أصبحت المدينتان مركز قيادة للطرفين. فالأثر العسكري لا بد له من نتائج سياسية، ذلك أن لرمزية بورتسودان السياسية والإدارية، كمقر لحكومة الأمر الواقع، بعد أن فقدت مقرها التاريخي في العاصمة الخرطوم، وتعرضها لضربات موجعة، كشفت عن خلل في منظومة دفاعات الجيش واستراتيجيته التقليدية في صد هجمات من قبل الدعم السريع.
وإذا كانت قوات الدعم السريع قد اعتمدت في هجومها على الاقتحام البري والالتحام المباشر، ولكن باستخدامها لمنظومة المسيرات الانتحارية وبهذا المدى، أضافت بعدا آخر في ميدان المواجهة المستمرة بينها وبين الجيش، وإن سجال المعارك بين مدينتي نيالا وبورتسودان، دخل إلى مرحلة الصراع عالي الوتيرة بالتعريف الاستراتيجي للحرب بما يشبه الحرب بين دولتين. فإذا كانت الغارات التي يشنها الجيش على مدينة نيالا، لم تكن تثير ما أثارته الضربات، وما خلفته من دمار في المنشآت المدنية والعسكرية، إلا أنها غيرت من خطاب الحرب للحكومة، ونقلته من صراع الداخل إلى صعيد الأزمة الدبلوماسية.

ولم يكن الأمر مستبعدا وصول الصراع بين الطرفين إلى مواجهات إقليمية ودولية أصبح معها السودان ساحة لتقاطع المصالح الدولية، وميدان نيران واسع النطاق مهد للتدخل الدولي والإقليمي بما يؤثر سلبا على مجريات الحرب. فكلا الطرفين المتصارعين يستندان إلى قوى خارجية في الدعم اللوجستي بين دولة جارة إلى جانب الجيش، وأخرى إن لم تكن أخريات مع الدعم السريع، في مدى تمددها في القارة الافريقية، فأصبح البحر الأحمر حيث تقع مدينة بورتسودان محور تجاذب بين قوى إقليمية، الإمارات وإيران وروسيا، ومخاوف تبديها دول ساحلها كالسعودية، فأدى التناقض في السياسات التي تحملها تصريحات المسؤولين السودانيين حول منح قواعد بحرية لدول تهدد قوى اقتصادية وعسكرية في العالم والإقليم في ميزان النظام العالمي.
فالسودان في ظل هذه الحرب الجارية غير مؤهل بصراعاته الداخلية وأزماته الاقتصادية الطاحنة للدخول في صراع القوى النافذة، فالأولى مراعاة مصالحه الأمنية والاستراتيجية التي تتطلب قرارات وسياسات من حكومة تحسن تقدير مصالح شعبها. ولأن السودان في وضعه قد يجعل منه، في وجود الصراع والتنافس الدولي على البؤر الاستراتيجية في القارة، منطقة رخوة وحلقة أضعف في توازنات القوى الإقليمية والدولية مما يرشحه أن يكون في وجود قوة دولية أخرى بالقارة ميداناً للتسابق الاستراتيجي للهيمنة على ثروات، يحتد التنافس الدولي حولها، لسهولة تخطي حدوده المفتوحة التي زادت الحرب من سيولتها.

واستمرار الحرب على هذه الوتيرة المرشحة للتصاعد بعد أن انتقلت إلى المواجهة المباشرة مع دولة الإمارات، تدخل الأزمة السودانية بكل مجالات صراعاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية، منحى آخر يحتاج إلى إدارة أزمة، أكثر من شعارات الحرب نفسها التي تفتقر إلى الاعتراف بضرورات السياسة وحقائق الاقتصاد، فالضغط الذي تمارسه سطوة قوة السلاح، أيا يكن نوعه ومدى تأثيره يخلق خللا مخيفا في التحول الذي يشهده مسار الحرب، خاصة أن جانبا منها لديه تداعياته الاجتماعية المتضررة من الحرب، تشمل مناطق وقبائل متعددة في إطار الاحتقان الداخلي لإفرازات الحرب، وستكون من نتائج هذه الهجمات الأخيرة اتساع الهوة بين السلام والمفاوضات لإنهاء الحرب، بل التصميم من قبل الجيش كما ورد في خطاب الجنرال البرهان على هزيمة قوات الدعم السريع ومن يساندها. وإذا كان من المتوقع أن تغير هذه الهجمات من خطة حرب الجيش، أو كما فهم الآخرون محاولة من الدعم السريع للضغط على الجيش للعودة إلى مائدة التفاوض، فإن التمدد الآخر للصراع مع الإمارات، كطرف لم يعد متخفيا على الأقل دبلوماسيا، بعد أن قطع السودان علاقته معها، يضيف عبئا عسكريا ليس في مقدور الطرفين تحمله بالاستمرار في الحرب أو تحمل شروطها.
وبما أنه من المستبعد أن يقبل الجيش والأطراف التي تقف وراءه تحالفا ودعما سياسيا، التراجع عن خطته بالقضاء على الدعم السريع، وبينما جددت قوات الدعم السريع الدعوة إلى حل سلمي شامل ينهي الأوضاع التاريخية المختلّة، ويؤسس لدولة جديدة لا تهيمن عليها فئة أو نخبة. وهي دعوة مهما حملت من نوايا لن تصمد أمام موجة خطاب الحرب بعد هذه الهجمات وتصاعد وسائل الحرب الدبلوماسية والعسكرية والتقنية.

ناصر السيد النور/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى