السياسة والعقل السياسي العربي!
“المدارنت”..
إذا كانت السياسة تعتبر طريقة لإدارة كافة شؤون الدولة الداخلية، والخارجية، وتقوم على توزيع النفوذ والقوة ضمن حدود مجتمع ما. كما تعرّف أيضاً بأنها علم إدارة الدولة وفن التحكم بتوازناتها، فإن العقل السياسي العربي لا يزال ”ينوس” بين الأيديولوجيا والاستبداد في تخادم وظيفي مصلحي دائم.
فالايديولوجيا المحمولة على الغيبيات والأساطير والمطلقات والنوازع القبلية والطائفية والتعصب الديني تتخادم تبادلياً مع الاستبداد الذي يتأسس على حكم الفرد أو الزعيم المطلق الذي يكرس الاستبداد الشمولي للمجتمع والدولة بما يخنق تماماً الحريات العامة بما فيها حرية الرأي والتعبير وحرية التجمع والانتقال.. واستخدام كافة وسائل العنف المنفلت لمنع قيام نظام ديموقراطي يكون الحاضن الحقيقي، ويوفر المناخ المؤسس لأي إصلاح أيديولوجي وتغيير سياسي، يضع الدولة على سكة التطور والتقدم، ويفتح أمامها الٱفاق الرحبة للحداثة والتجديد..
وبما أن التحليل السياسي يقوم على فهم وإدراك عميق لجذور وأصول الممارسات السياسية.
وأن المحلل السياسي يقوم بتحليل الأوضاع السياسية المحلية والإقليمية والدولية وربط التداخل بينهما، والخروج بتصور موضوعي لما يحدث أو قد يحدث في المدى المنظور..
فإن مشكلة التحليل السياسي في أوطاننا سواء لدى الأفراد أو الجماعات أو القوى والتشكيلات الحزبية أنها تخلط في تحليلها بين الأيديولوجي والسياسي، أو الثوابت الدينية وبين المتغيرات السياسية، أو بين التحليل القائم على التوقع الرغبوي المغلف أحياناً بنزوع ثأري وبين حقيقة اتجاه الحركة السياسية الفعلية.. هذا الخلط المركب هو الذي قاد القيادات السياسية العربية (سواء القيادات الحاكمة أو قيادات القوى والتشكيلات السياسية) ولا يزال، إلى الفشل في اتخاذ قرارات صائبة، تُناقض واقع التطورات السياسية المتلاحقة خلافاً لما كانت تتصوره أو تعتمده، ليصطدم السياسي العربي في تحليله مع ما كان يجب أن يحصل ولكنه لم يحصل، ويحاول السياسي مرة أخرى، ومرحلة بعد أخرى بإعادة التحليل على ذات الأسس التي تبناها ويقع في ذات المطب الذي وقع فيه سابقاً.. وهكذا دواليك..
وإذا كانت الأيديولوجيا تعتبر معطى ثابت نسبياً من الصعب جداً أن تتغير بسهولة مع المتغيرات السياسية المتلاحقة، فإن إصرار السياسي على ربط التحليل السياسي برؤيته ومواقفه الأيديولوجية المسبقة سيؤدي إلى تعظيم الذاتي الأيديولوجي (القناعة الأيديولوجية) على حساب العامل الموضوعي في حركة السياسة وتحولاتها.. وأيضاً وكجزء من الأيديولوجيا فإن عدم التمييز بين الجذر الديني والأفق السياسي، أدى إلى فشل معظم الحركات الإسلامية سواء في الحكم (والحكم يقوم على فهم عميق للسياسة)، أو فشل تحليلها لمسار التحولات في المصالح سواء في تحالف المصالح أو في اشتباكها وتصادمها…
أما ما يتعلق بالطابع الرغبوي الذي هو انعكاس شعبوي بمنحىٰ أيديولوجي أحياناً، إذ يتطابق موقف السياسي مع الرغبوية الشعبية في التحليل بما يتمنى أن يحدث لا بما سوف يحدث فعلاً.. وفي هذه الحالة ينطلق السياسي الرغبوي إما بما يتمنى أن يحدث أو يستخدم ما يتمناه الوسط الشعبي لحشد الرضا أو التأييد له سواء فرداً أو حزباً.. وحينما تأتي النتائج عكس التحليل الرغبوي.. لا يتم الاعتراف بفشل التحليل أو التدبير القائم على هذا التحليل، وإنما يتم تغليف الفشل بقوى خارجية متٱمرة أو بتحويل الفشل أو الهزيمة إلى انتصار تحت ذرائع متعددة..
ومن هنا فإن التحليل السياسي مرتبط بنمطية التفكير أو نمطية العقل السياسي العربي المشدود إلى الماضي السياسي البعيد أو إلى الأيديولوجيا الموروثة القائمة على النزوع السلطوي الاستبدادي الرافض لأي تغيير أو انتقال ديمقراطي حقيقي.. ولذلك سادت كما يقول المفكر محمد عابد الجابري، في الفقه السياسي الإسلامي العبارة الموروثة ”من اشتدت وطأته وجبت طاعته“.
ورأى الجابري أن هذه العقلية رسمت فعلياً البنية السياسية التي بررت الاستبداد ورسوخ السلطة في أنظمتنا السياسية.. وبأن هذا النمط من من السلطة السلطانية كانت الأساس في إلغاء السياسة في المجتمعات العربية.. وبأنه لتجاوز المأزق التاريخي للعقل السياسي العربي لا بد من جهد مكثف إصلاحي ثقافي وجذري يعمل على تجاوز العقل السياسي لمفهوم القبيلة والغنيمة والعقيدة.. وبما يقابله اليوم مصطلح العشائرية والطائفية والتطرف الديني.. ويؤكد الجابري في هذا السياق ”بأن نقد الحاضر بما يحمله من بقايا الماضي هو الخطوة الضرورية الأولى في أي مشروع مستقبلي”.
ومن اللافت فعلاً ماكتبه الدكتور أنور مغيث، في تحليله للتناقض الحاصل في التعاطي مع الفكر السياسي الغربي، إذ يرى بأن المجتمعات العربية وأنظمتها تعتبر السلع بكافة أنواعها المستوردة من الغرب بمواصفاتها أو تقنياتها أو مستوى فعاليتها وأدائها لا يمكن مضاهاتها بغيرها ولذلك فإن الإقبال عليها له الأولوية على ما عداها.. في حين على مستوى الفكر الغربي والاستفادة منه في تدبير أوضاعنا السياسية سواء ما يتعلق بالفلسفة الجدلية أو بالعقد الاجتماعي، أو العلمانية أو حقوق الإنسان أو الديموقراطية وتجاربها.. فإن المجتمعات العربية ومن ورائها أنظمتها تعتبر ذلك استيراد غربي يتصادم مع خصوصية مجتمعاتنا، ومع المعايير الدينية والتاريخية لأمتنا..
وفي هذا السياق، سياق التخلف وعدم مجاراة ما يحدث من تطور عالمي مذهل، جاء تصريح الرئيس ترامب مؤخراً الذي يجسد نمط ”الكابوي” الأمريكي الجديد، بقوله أن الصراع في العالم اليوم بين الحضارة والبربرية، متكئاً على التخلف الكبير في دول العالم الثالث وذلك لتبرير إخضاع هذه الدول لسيطرة “عالمهم الحر” كما يفضلون تعريفه، معتبرين أن هذه الدول عالة على الحضارة البشرية المعاصرة..
وهكذا فإن تخلف الفكر السياسي والأداء السياسي، وتخلف دولنا في الرؤى السياسية أو تحليل ما يتغير حولنا وما قد يحدثه هذا التغير من انعطافات على مستقبل بلداننا ناتج عن بنية العقل العربي الذي يحتاج إلى عملية تجديد ثقافية شاملة، أو ثورة ثقافية في الفكر والأداء السياسي، وفي حركة مستمرة للتغيير والتجديد..
لكن الدعوة للتغيير والتجديد كا يرى المفكر السياسي الدكتور جمال الأتاسي، تبدأ بالنقد المزدوج للأنظمة الحاكمة والمعارضة معاً، لما تحمله من بنى استبدادية مشتركة في الفكر والممارسة، وصولاً إلى التغيير الجذري لأنظمة الاستبداد الشمولي المملوكي المشرقي، وبأنه لا بد من نهج استراتيجي ومسار تاريخي للتغيير وفق منهجية ربط الفكر بالواقع وهو يتغير، والفعل بهذا الواقع ومواجهة صراعاته، والعمل على الدفع الى التغيير الوطني الديموقراطي التداولي الذي يرسخ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين..
لكن عملية التغيير كما يؤكد ” الأتاسي ” لا تأتي بمجرد الرغبة في التغيير”.
“إذ أن عملية التغيير والتجديد نهج وخلق وإبداع لها شروطها وأسسها ومقوماتها: وأولها: استيعاب المرحلة السابقة وهضمها ، فالتغيير التقدمي ليس قفزات من فراغ، وثانيها: التأسيس لمرحلة قادمة واضحة الاستهدافات وليست خطوات أو قفزات نحو المجهول، وثالثها: أن يأتي التغيير استجابة لمعطيات واقعية ومجتمعية متجددة.. والبيئة التي يتحرك فيها – في التطبيق – ليست مجرد نقل ميكانيكي لتجارب الٱخرين..”.
والسؤال الكبير الذي يفرض نفسه على دولنا وأمتنا: هل فات الٱوان للانتقال من التابعية والانحطاط والتخلف إلى ٱفاق الحرية والتحرر ودخول عصر الحداثة والتطور؟
ويجب على هذا السؤال المفكر ياسين الحافظ:
“أعتقد أن شعوب الشرق لا تستطيع الإفلات، فإما أن تشارك في صناعة التاريخ ، وهو تاريخ العالم، كي تكون صانعة له، وإما أن تكون مادة له. وأخشى أن نكون انتكسنا في المرحلة الأخيرة فصرنا مادة لتاريخ العالم؛ عالم يقع خارجنا، ويقرر مصائرنا ونحن تابعون ولا نقرر أي شيء.. وننحدر”.