مقالات

الشبّيح فادي صقر.. «سفّاح التضامن» أم «المقدّم النصيري»؟

الشبيح فادي صقر (فادي مالك أحمد)

“المدارنت”
في مستوى أوّل من السجال حول شخصية فادي مالك أحمد (أو فادي صقر لاحقاً، وراهناً) لا تُحسد سلطات (الرئيس السوري) أحمد الشرع الانتقالية على الورطة التي علقت بها بعد اتضاح منحها الأمن والأمان (ثمّ سلطة التوسط مع أبناء الطائفة العلوية، من حيّ عشّ الورور في دمشق، إلى بلدات قرفيص والدالة في أعالي جبال الساحل السوري). هذه، أغلب الظنّ، ورطة أخلاقية تمسّ ما قطعت «فصائل التحرير» من عهود وما أبرمت من عقود، ليس مع شخصيات تُحتسب على «فلول» النظام بمقادير مختلفة متفاوتة، فحسب؛ بل كذلك، وأولاً، مع شارع شعبي اقتنع، أو انطلت عليه بسهولة، مقولة أحمد الشرع بصدد الانتقال من عقلية الفصيل/ الثورة إلى عقلية الدولة/ القانون.

لكنها، أيضاً واستطراداً، ورطة سياسية تخصّ عناوين مثل التسامح مع الماضي أو طيّ صفحته (على عجل، كما يتوجب التشديد)؛ وإدخال خصوم الماضي إلى صفوف الحاضر والمستقبل (ليس بأقلّ عجالة، أو حتى تعجلاً، هنا أيضاً)؛ واستفزاز الضمير الشعبي العريض، المثقل بالجراح الغائرة والمظالم الجائرة ومطالب إحقاق الحق. الورطة أمنية، إلى هذا، في ضوء تقارير شتى متقاطعة أشارت إلى أنّ أعدادا غير قليلة ممّن قاتلوا في صفوف فلول النظام، خلال تمرّد 8 و9 آذار (مارس) وما تخلله على الجانبين من أعمال قتل على الهوية الطائفية، كانوا يحملون في جيوبهم وثائق تسوية أوضاع مع سلطات الأمر الواقع، لم تمنعهم من حمل السلاح تحت راية مقداد فتيحة وأضرابه. وهي، ثالثاً، ورطة قانونية وحقوقية تتجاوز، بكثير وبعمق جزائي ومقاضاة واجبة، عموميات أمثال حسن صوفان ونور الدين البابا حول «السلم الأهلي»؛ لأنها، في خطأ فادح أوّل، تستفزّ الضمير الشعبي العريض، المثقل بجراح غائرة ومظالم جائرة ومطالب إحقاق حقّ وراءه ملايين المطالبين.
منذا الذي، ابتداء من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، مروراً بوزير الداخلية أنس خطاب وليس انتهاء بأيّ عضو عالي المهارات في «التفلسف» حول العفو والتسامح والمسالمة الأهلية؛ يملك، اليوم أو في غد قريب أو بعيد، مقدرة طمس الصفات الدامغة التي اقترنت بشخص صقر؟ مَن يطمس عن مظهره الراهن، المُعاد إنتاجه وتدويره وتحسينه، سلسلة الصور التالية، الراسخة في ضمائر ضحاياه وخصومه قبل أنصاره ومحازبيه:
ـ أحد كبار قياديي ميليشيا «قوات الدفاع الوطني»، التي لم تكن بعيدة عن احتلال الصفة الأعنف والأشرس والأشدّ دموية في مساندة النظام، عن طريق ارتكاب المجازر الجماعية والفردية، وموالاة «الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» والميليشيات المذهبية العراقية تارة، أو موالاة القوات الروسية ومجموعات «فاغنر» تارة أخرى، في دير الزور كما في مخيم اليرموك، وفي القامشلي كما في حي حمص.
2 ـ المهندس، إذا لم يكن القائد الآمر، خلف سلسلة مجازر عُدّت «ممنهجة»، على ما في المفردة من بذاءة دلالية دموية، في حيّ التضامن الدمشقي خصوصاً، في سنة 2013، ولم تُفتَضح إلا بعد 9 سنوات حين كشفت تفاصيلها الوحشية صحيفة الـ»غارديان» البريطانية.
3 ـ «أمير الحرب» الذي اهتدى إلى الأشغال والأعمال والتجارة والنهب والفساد والإفساد، ومارسها وفقاً لأنساق شديدة الابتذال لم يكن لروائحها الكريهة إلا أن تزكم أنوف أسياده أنفسهم، وسيداته أنفسهنّ والحقّ يُقال؛ كما في ملفّ مجمّع الـ«بيغ فايف» الدمشقي، حين اضطرّ كبار تماسيح اللصوصية إلى إجراء الحدّ الأدنى من وضع الكمامات على الأنوف.
4 ـ فإذا كانت السلطة الانتقالية قد منحت صقر الأمن والأمان، فهل في وسعها التوسط له لدى البيت الأبيض والخزانة الفدرالية الأمريكية لرفع اسمه عن لائحة عقوبات، جمعته في الأصل مع أمثال لونا الشبل وعمار ساعاتي وآخرين من غاسلي دماء السوريين عن أيدي كبار مجرمي الحرب؟
وقد يتساءل متسائل، محقاً في درجات غير ضئيلة: ولكن… أليست هذه هي، بالضبط، الصفات التي منحت صقر موقعاً تفاوضياً، وامتيازاً خاصاً لدى بيئاته الاجتماعية والسياسية والمناطقية، ثمّ الطائفية تالياً، كي يحصل من سلطات الشرع الانتقالية على تفويض بالتوسط و«حقن الدماء»؛ حتى إذا كان الثمن مرافقة محافظ دمشق في تعزية ضحايا التصفيات الطائفية في عشّ الورور، أو قبلها التجوّل هنا وهناك في قرى الساحل السوري بهدف «تعزيز السلم الأهلي»، على نحو استعراضي فاقع ومسرحي هابط؟
نعم، بالطبع، من وجهة نظر السلطة الانتقالية الراهنة، قبل انطلاق معارك ّ»ردع العدوان» حيث يتردد اليوم كلام مثير عن التنسيق مع صقر وأمثاله، أو بعد سقوط النظام فجر 8 كانون الأول (ديسمبر) 2023، أو خلال وبعيد تمرّد الفلول ومجازر الساحل السوري مطلع آذار (مارس) الماضي. ولكن لا، بالطبع أيضاً، من وجهة نظر وطنية وسياسية واجتماعية وتاريخية لا تعتبر أبناء الطائفة العلوية، في غالبية عالية على الأقلّ، «مخابر تجريب» لدى قائد سابق في «قوات الدفاع الوطني»، استحقّ بالفعل لقب «سفاح التضامن»؛ لا لأي اعتبار آخر يسبق حقيقة وجود أبناء الطائفة العلوية في قلب المعمار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والوجداني السوري، ولهم بالتالي ما للآخرين من حقوق، وعليهم ما على الآخرين من واجبات مماثلة، وأفظع الحماقات سوف تكون زجّهم قسراً في قوالب مسبقة طائفية أو مناطقية.
وهذه السطور نأت على الدوام عن توصيف النظام الذي شيّده آل الأسد بـ«العلوي»، لأنه ليس دقيقاً بالمعاني السياسية أو الاجتماعية أو الديمغرافية أو حتى الاصطلاحية المجردة، ولسبب جوهري أوّل هو أن مكونات النظام، سواء في الأجهزة الأمنية أو الجيش أو الحزب أو مجلس الوزراء أو الإدارات الكبرى، ضمّت السنّة والعلويين والدروز والإسماعيليين من الطوائف المسلمة، والكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت من المسيحيين.
لا يصحّ، في المقابل، إغفال حيثية أنثروبولوجية ومذهبية في آن، ذات صلة بما تمنحه التعاليم النصيرية من تراتبية اجتماعية ــ دينية لشخصية الزعيم «الوليّ» أو القائد «المقدّم»، وما يرتبط بهما من مراتب أدنى تابعة مثل «الرؤساء» و«النقباء» و«النجباء» و«المخلصين» و«الممتَحنين».

وفي العصور اللاحقة، بعد فترات الاضطهاد المملوكية والعثمانية، ثمّ خلال الانتداب الفرنسي (1921 ـ 1945) توطد التحالف بين «المقدّم» و«الشيخ»، كما في زعامات مثل جابر عباس زعيم عشيرة الخياطين، ومنافسه إبراهيم الكنج زعيم عشيرة الحدادين، ثمّ سليمان المرشد الذي جمع بين الزعيم العشائري والشيخ وناشر الخزعبلات حسب تقرير للمخابرات الفرنسية بتاريخ 30 يناير 1924.
فإذا جاز الافتراض بأنّ فقهاء السلم الأهلي داخل السلطة الانتقالية يراهنون أيضاً على بُعد «المقدّم» في باطن شخصيات صقر المتعددة، التي تبدأ من مجرم الحرب ولا تنتهي عند تمساح النهب والفساد؛ فإنّ الخطأ هنا ليس جسيماً في مستوياته الحسابية كافة فحسب، بل هو إهانة لجراح تلك الأمّ التي تعرف الآن أنّ شقيقها قضى بأيدي عناصر سفاح اسمه فادي صقر، ولكنها تطالب بمعرفة مكان جثمانه، وتفرض على أمثال حسن صوفان ونور الدين البابا أن يجرّا المسامَح من أنفه كي يدلّ على القبر.

ليس هذا المطلب تهويلاً درامياً إلا عند أولئك الذين ثاروا ضدّ نظام «الحركة التصحيحية»، وزعموا رِفْع راية الحقّ في وجه الباطل، ونفروا خفافاَ وثقالاً حسب سرديات لم تغب عنها الدراما العالية؛ لكنهم اليوم أكثر عرضة لاحتمال الإصابة بصمم أو خرس إزاء تظاهرات سارت بالأمس في شوارع سوريا، ترفع شعار «لا سلام مع الإفلات من العقاب»!

صبحي حديدي/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى