مقالات

العراق.. التلاعب بالعقائد وتحيزات الدولة!

“المدارنت”
في قرار مفاجئ عدت مستشارية الأمن القومي في العراق، بتاريخ 27 نيسان 2025 «الحركة السلفية المدخلية» حركة تشكل تهديدًا عالي المستوى للسلم المجتمعي والأمن القومي. والواقع أنه لا يمكن فهم هكذا قرار إلا في سياقه السياسي، وليس السياق الأمني الذي تدعيه المستشارية!
فمن المعروف أن السلفية الجامية (نسبة إلى الشيخ محمد بن أمان الجامي 1930 ـ 1995) والتي يطلق عليها أيضا السلفية المدخلية (نسبة إلى الشيخ ربيع المدخلي الذي ما زال حيا) تيار ظهر في سياق التحولات التي حكمت السلفية نفسها، لكنها تحولت إلى تيار مركزي في حرب الخليج الثانية وبعدها من خلال الاستخدام السياسي للمقولتين الجوهريتين اللتين يعتمدهما هذا التيار وهما الابتعاد عن العمل في السياسة بالمطلق مقولة من تراث الشيخ الألباني القائل: «الآن من السياسة ترك السياسة». الذي تطرف في تبني هذه المقولة إلى حد إصدار فتواه الشهيرة للفلسطينيين يدعوهم فيها لمغادرة الضفة الغربية وغزة حفظا لعقيدتهم، رغم تراجعه عنها لاحقا بالقول إنه لم يفت بوجوب الخروج منهما، بل «أفتينا بوجوب الهجرة على كل مسلم لا يتمكن من المحافظة على نفسه أو على دينه أو على عرضه أو على أخلاقه». والمقولة الثانية التشديد على طاعة «أولي الأمر» طاعة مطلقة غير مشروطة بوصفها أصلا من أصول الدين، ووصم من يعارضه بالضلال وشرعنة التنكيل به.
في العراق، وقف التيار السلفي المدخلي الذي يتزعمه الشيخ محمد خضير، ويُكنى ويلقب بأبي منار العلمي (نسبة إلى مدينة العلم شرقي تكريت) موقفا مضادا لمواجهة الاحتلال الأمريكي والتأكيد على أن «جهاد الكافر المحتل لبلاد الإسلام باطل»، وتشجيع المواطنين، تحديدًا في محافظة صلاح الدين، على الانتماء للجيش والشرطة والمشاركة في العملية السياسية، وفي موالاة السلطة موالاة كاملة، بل إن زعيمها نفسه تولى منصب مدير الوقف السني في المحافظة. وقد نشر أبو منار العلمي عام 2004 كتابًا بعنوان (دحر المثلب على جواز تولية المسلم على المسلم من كافر متغلب) قدم له الشيخ عبد المحسن العبيكان.
كانت الفكرة المركزية للكتاب هي محاولة إثبات شرعية تولي المسلمين العراقيين للمناصب في الدولة المحتلة حتى إن جاء هذا التعيين على يد قوات «كافرة» محتلة، وأن «إمامة الكافر أو من يولّيه الكفار، على المسلمين صحيحة».
لاحقا وقف موقفا معاديا من الاحتجاجات التي اندلعت في الجغرافيا السنية ضد السياسات التمييزية الطائفية لرئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي في ديسمبر 2012 وأفتى بحرمتها باعتبارها خروجا على ولي الأمر.
وقد انتشرت آراء تقول بأن أبا منار العلمي لا ينتسب إلى السلفية الجامية/ المدخلية، بل ينتسب الى السلفية التقليدية، استنادا إلى ما قاله الشيخ ربيع المدخلي نفسه في تسجيل صوتي يصف أبا منار العلمي بأنه «أهل فتن وأهل مشاكل ولا يجوز لسلفي أن يتبع له»، لكن كل ذلك غير دقيق، فهذا موقف سياسي وليس موقفا يتعلق بالعقيدة.
بالعودة إلى قرار مستشارية الأمن القومي، كيف يمكن أن توصف جماعة تحظر العمل في السياسة، ومن غلاة القائلين بطاعة ولي الأمر، حتى وإن كان «كافرا متغلبا»، بأنها حركة تشكل تهديدا عالي المستوى للسلم المجتمعي والأمن القومي؟
الجواب يرتبط بموقف الفاعل السياسي الشيعي، ومن خلفه إيران، من جماعة صوفية مستحدثة ظهرت لأول مرة بشكل علني في سياق الحرب على داعش أول ذكر صريح لهذه الجماعة وقفتُ عليها، كانت في عام 2015، وكان يشار إليها مرة بعنوان «مجلس علماء الرباط المحمدي»، ومرة بعنوان «مؤسسة رشد للتنمية والتطوير الثقافي – منظمة غير حكومية»، تضم فرعا يدعى «مجلس علماء الرباط المحمدي» بوصفه جزءا من المؤسسة، ثم اختفت هذه المؤسسة بشكل نهائي، وبرز اسم «مجلس علماء الرباط المحمدي».
وقد كانت مواقفها المعلنة داعمة للميليشيات الشيعية التي كانت تقاتل حينها في تلك المناطق، ومن خلال إصرارهم على استخدام الخطاب نفسه الذي تستخدمه تلك الميليشيات ومَن خلفها. ففي عام 2015 وصف زعيم هذه الجماعة داعش بأنها « تمثل السفيانية الجاهلية أتباع الدجال»!
وقد عمد الفاعل السياسي الشيعي، وبشكل خاص المليشيات العقائدية المرتبطة بإيران، إلى دعم هذه الجماعة بشكل علني وواسع في محاولة لتدجين المجتمع السني دينيا من خلال تبني مقولات عقائدية تتعارض مع التراث السني، فقد سوقت هذه الجماعة مثلا لسردية عيد الغدير بحمولتها الشيعية، وقالت بوصية إمامة الإمام علي بن أبي طالب ولآل بيته من بعده، وهو ما يخرجهم عمليا من أهل السنة والجماعة الذين ينكرون هكذا وصية من الأصل.
ومن أجل ذلك عمل الفاعل السياسي الشيعي على تمكينهم، عبر التلفزيون الرسمي العراقي «قناة العراقية»، الذي أتاح لهم فرصة تقديم برنامج تلفزيوني يقدمه أحد شيوخ الجماعة للترويج لخطابهم تحت عنوان «وأنا من الحسين»، وهذا الشيخ نفسه يشغل منصبا رسميا في المديرية العامة لمكافحة الإرهاب الفكري التابعة لمستشارية الأمن القومي! كما عملت على تمكينهم داخل الوقف السني من خلال منح أحد شيوخهم العضوية في المجلس الأعلى للأوقاف (في الوقت الذي كان يشغل فيه أخوه منصب مدير عام الدائرة الإدارية والمالية في الوقف السني نفسه مرشحا عن حزب تقدم، وقد فصل من منصبه عام 2024 بعد الحكم عليه بتهمة تتعلق بالفساد، وهو ما يعكس التداخل بين هذه الحركة والأحزاب السياسية السنية) لإتاحة الفرصة لهم للسيطرة على بعض الجوامع والمساجد لنشر أفكارهم. وهذا الشخص نفسه ظهر في لقاء تلفزيوني يحرض ضد السلفية المدخلية بشكل صريح. ووصل التعاون بين هذه الجماعة والميليشيات أنها أطلقت مشروعا أسمته «مكافحة الإرهاب الفكري» بالتعاون مع دائرة مكافحة الإرهاب في الحشد الشعبي!
كما تحظى هذه الجماعة بدعم مالي واضح مجهول المصدر، وعلى الأغلب يأتي من خلال دعم الفاعلين السياسيين الشيعة لها من أجل مد نفوذها في المجتمع السني؛ ففي شهر آذار 2025 رفعت صورة رئيس هذه الجماعة في مدينة الموصل، وتحديدا في جامع النبي يونس، وهو إجراء ما كان يمكن أن يحصل لولا دعم الميليشيات الشيعية التي تفرض سطوتها على الموصل عمليا، ولولا تواطؤ السلطات الرسمية، الأمنية والإدارية في ذلك!
من هنا يمكن فهم قرار حظر السلفية المدخلية في العراق وفهم طبيعة الصراع بينها وبين جماعة الرباط المحمدي، وهو صراع لا يقف عند الحدود التقليدية بين السلفية والصوفية، بل يرتبط بحرص الفاعل السياسي الشيعي على أن تخلو الساحة السنية من أي تيار عقائدي يمكن أن يشكل عائقا أمام تسويق الأفكار المنحرفة لجماعة الرباط المحمدي عن مقولات أهل السنة، أو يفضح هذه الأفكار وغاياتها السياسية.
إن دخول الدولة طرفا في التلاعب بالعقائد لأهداف عقائدية وسياسية، هو وصفة للخراب لا بد للعقلاء من التصدي لها، فهكذا محاولات ستستدعي بالضرورة خطابا مضادا، ويمكن أن يفضي إلى ردود فعل تتجاوز الخطاب!

يحيى الكبيسي/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى