الـحــاجة إلــى الإعــراب..
خاص “المدارنت”..
الإعرابُ مصطلحٌ أقلقَ الطلابَ والمتكلمين في عصرنا، حتى أُعتبرَ من هموم التعلم، فظن البعض وجوب عدم الاهتمام به وعدم جدواه وضرورته، وأكثر من ذلك فهناك من يرى – لا عن بصيرة – أن لا حاجة إلى إتقانه، لا سيّما في هذا العصر البائس المستهتر بحقّ لغتنا، إلى أن وصلَ الحالُ بمن يعتلي المنابرَ، أن يلحنَ في القول، فيرفع المنصوب ويخفض (يحرك بالكسر) المرفوع، من دون حياء أو وجل، ما يؤدي أحيانا إلى الفهم الخاطئ عند السامع أو إلى الإبهام في الكلام.
إن قصور فهمنا لخاصيّة الإعراب في لغتنا، ليس مبررًا لإهمالنا صُلبَ هويتنا، فنلقي التهم بصعوبته وتعقيده جزافا.
كي ندرك حاجتنا للإعراب وإتقانه، لا بدّ لنا أن نتعرّف إلى هذا المفهوم لغويًا وإصطلاحًا، وأن نتعرّف إلى أنواعه، علـّنا بذلك نـُظهر أهمية وضرورة الإعراب، بل حاجتنا الملحة له.
جاء في لسان العرب لابن منظور، الإعراب والتعريب معناهما واحد، وهو الإبانة. يُقال: أعْرَب عنه لسانه وعرَّب أي أفصَحَ وأبانَ. وأعْرَب عن الرّجل: بين عنه. وقال ابن قتيبة: إنما سُمّيَ الإعراب إعرابًا، لتبيينه وإيضاحه. من هنا نلحظ أن كلمة إعراب إنما تعني التبيين والإيضاح.
أمّا اصطلاحًا، إرتبطت هذه الكلمة بالمعنى بصلة وثيقة، فقال اللغويون القدامى: “هو التعبير عن المعاني أو الإبانة عنها، أي معاني الكلام، ويكون ذلك بإشارات، أو علامات، تسمى حركات الإعراب (فتحة، ضمة، كسرة، سكون)، وإما بآخر حرف من هذه الكلمات، أي أحرف الإعراب (ألف المثنى، ونون الأفعال الخمسة، ونون جمع المذكر السالم… الخ) ظاهرة أو محذوفة لعلة.
لا يُخفى على العاقل، أنَّ العرب كانت تتكلم لغتها بفصاحة فطرية سليقيّة، إلى أن اختلطت بالأمم من حولها، ففشى اللحن في كلامها، ما جعلَ ضبط الكلام ضرورة حتميّة، لاسيما عندما وصل اللحن إلى القرآن الكريم، فقام أبو الأسود الدؤلي بضبط كلام العرب بالنقاط، التي تطورت فيما بعد إلى حركات الإعراب التي نعرفها.
أجمع القدماء على أنّ الإعراب من خصائص العربية، بل من أهم خصائصها التي تسْهمُ في إيضاح المعنى، فابن فارس يقول: “فأمّا الإعراب فيه تـُميّزُ المعانى، ويـُوقفُ على أغراض المتكلمين. “فلو قيل: ضرب زيد عمرو، من دون ضبط حركاته، لم يُعرف الضارب من المضروب. وقال: “…. وبه يعرب الخبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه مامُيِّز فاعل من مفعول، ولا مضاف من منعوت، ولا تعجب من استفهام…”، لنوضح هذا الكلام، سنضع بين يديّ القارئ بعضا من الأمثلة.
قال تعالى (… أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) التوبة/3، فلو استبدلت الضمة في (رسولـُه) بالكسرة لأصبح المعنى، أن الله يتبرأ من المشركين ومن الرسول أيضاً، وهذا بالطبع مخالف لما رمت إليه الآية.
قسّم المُحْدثين الإعراب إلى ثلاثة أنواع: الإعراب الشكليّ، والإعراب الدلاليّ، والإعراب الشكليّ الدلاليّ. فالإعراب الشكليّ، هو الإعراب الذي يُفهم به الكلام إن ظهر وإن لم يظهر، فلو قلنا: “بالعلم والمعرفة ارتقى الإنسان، وأنتج ما يسهّل عليه حياته، ويجعله يغزو الفضاء”، لوجدنا أننا وإن سكـّنّا هذا النصّ لن يمنع ذلك القارئ من فهمه.
بينما في الإعراب الدلالي، الذي يمثل كلُّ إعراب ٍلا تفهم معاني كلمات النصّ، إلا من خلال ضبطه، مثال ذلك الآية الكريمة: (وهذا كتابٌ أنزلناهُ مباركٌ فاتـَّبعـًوه) الأنعام/ 155، نجد كلمة (مباركٌ) مرفوعة، ما يدل على أنها نعت وصفة لـ(كتابٌ)، وليست حالا، وذلك للدلالة على أن هذا الكتاب مبارك دائما، بينما لو نصبت فكتبت (مباركًا)، لأصبحت حالاً، وأصبح هذا الكتاب مباركًا لحظة نزوله فقط، وهذا ليس دقيقًا.
أما الإعراب الشكلي الدلالي، فهو الإعراب الذي بضبطه أو عدم ضبطه يفهم الكلام، ولكن بضبطه يصبح المعنى أقرب منالا، فلو قلت مثلا: “خاطب العالم الناس”، لأدركنا أن عالمًا خاطب الناس ولكن إن ضبطنا أواخر الكلمات فقلنا: “خاطبَ العالـِمُ الناسَ”، لاتضح المعنى أكثر لدينا.
خلاصة القول: إنّ الإعرابَ ضرورة لا يمكن إهمالها في كلامنا، فهدفنا إيصال المعاني واضحة جليـّة، لا لبْسَ فيها إلى المتلقي، وهذا دور الإعراب في الكلام، ولا سبيل الى الوضوح والإبانة لمرادنا من الخطاب إلا به.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=