الفصائل العراقية المسلّحة.. بين المسموح والمرفوض!
“المدارنت”..
يبدو أن المخاوف من حدوث عدوان “إسرائيلي” مُخطط له على العراق، نتيجة لخروج الفصائل المسلحة حدود سيطرة الدولة وسيادتها، تعود أسبابه للإشكالية والازدواجية في صياغة القرار الرسمي العراقي، والتخطيط لتنفيذه، وفشل النخبة السياسية الحاكمة في السيطرة على مقدرات البلاد، نتيجة غياب المشروع الوطني الذي يؤطر السلوك السياسي السيادي للدولة، سواء كان على مستوى علاقة النظام السياسي بالمجتمع من جهة، أو علاقة الدولة العراقية مع جيرانها والعالم، لضمان قدر من التوازن والمسؤولية في مواجهة التحديات التي يواجها العراق مع محيطه القريب والبعيد، والتداعيات الخطيرة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط في الوقت الحاضر.
من هنا فإن الخوض والتعمق في هذه الإشكالية، قد يحتاج إلى قراءة دقيقة لطبيعة الأهداف الرسمية للنظام العراقي، وفهم طبيعة العلاقة التي تربطه بالمجاميع المسلحة، ودورها في صياغة المشروع السياسي للدولة، للوصول إلى فهم ومن ثم رسم حدود المسموح والممنوع في مواقف العراق في علاقته مع الآخرين، وبالتالي الفصل بين الانتماء للأمّة والانتماء الطائفي، الذي يتجاوز الانتماء للوطن.
لا شك في أن أهم أسباب هذه الإشكالية تكمن في الدور الذي تلعبه الفصائل المسلحة، وحجم تأثيرها المزدوج في دعم تركيبة النظام السياسي وأسسه الطائفية التي بنيت من خلالها ركائزه الأيديولوجية، ناهيك عن مدى تأثيرها في عمل الدولة العراقية في علاقاتها مع المحيط العربي والدولي، ومن يساندها في الولايات المتحدة الأمريكية. وبمعنى آخر، تأثير هذه الفصائل المسلحة من خلال المشاركة في اتخاذ مواقف لا تخدم أهداف البلد، وتتناقض مع موقف الحكومة العراقية الرسمي الرامي إلى تجنب التصعيد، وإبعاد العراق والعراقيين من دائرة الصراع الإقليمي، والعمل على إحلال السلام في المنطقة.
وهذا ما يترجم حقيقة هذه الإشكالية والضبابية التي يراد منها الوصول إلى حالة من التعتيم الإعلامي للإرادة الرسمية العراقية، وصدقها للسيطرة على نشاط هذه المجاميع المسلحة، وعلاقتها بالخارج، والوصول في النهاية إلى غض الطرف لأسباب وجودها، ورفض إسقاطها، كونها ما زالت تمثل إحدى الركائز الحيوية التي بني عليها العراق الجديد.
تنفيذ قرار منع الحكومة العراقية لهجمات الفصائل الولائية من داخل الأراضي العراقية، لا يحرم العراق من دعمه للقضية الفلسطينية، والتنديد بمجازر اليمين المتطرف الإسرائيلي في غزة
من هنا أصبح من الواضح، لمس حجم التناقض والضبابية التي تميز النظام السياسي الجديد، في استمراره القبول بضم هذه الفصائل التي ترفض الانصياع لأوامره، والاستمرار في حملها ودعمها لمشروعً سياسي وعقائدي أجنبي مغاير لمشروع الدولة، وما تعلنه الحكومة العراقية المتمثل في عزمها ملاحقة الأنشطة العسكرية الخارجة عن سيطرة الدولة، ومنع استخدام الأراضي العراقية لشن أي هجوم بما فيه الملاحقة القانونية لكل مَن يشترك في أنشطة تهدد أمن العراق وسلامة أراضيه، وتأكيدها الرسمي في أن «قرار السِّلم والحرب من اختصاص الحكومة العراقية وحدها، وأنها مستمرّة في إجراءاتها لمنع استخدام الأراضي العراقية لشنّ أي هجوم».
وهذا ما قد يفسر الحالة التي وصلتها البلاد في ظل تداعيات الصراع “الإسرائيلي”/ “الإيراني” على الساحة العراقية، وفي ظل غطاء التوافق الأمريكي/ الإيراني، الذي تنفذه إدارة جو بايدن في القبول بنظام سياسي عراقي جديد، يحظى مسؤولوه وأحزابه بالرعاية والدعم الغربيين، ويعتمد في استمراره والدفاع عن أسسه وأيديولوجيته الطائفية، على المليشيات الولائية المسلحة المدعومة من الخارج، ما يدفع ويؤمن الحكومات العراقية المتلاحقة بتمسكها بالدور الأمريكي، الذي يضمن استمرار شرعية النظام دوليا من جهة، والقبول بالدور الذي تلعبه المجاميع المسلحة في إسناد النظام في الداخل، من خلال هذه العلاقة التي يمكن وصفها بإنها علاقة وشكل من أشكال سياسة المصالح المشتركة واللعب على الحبلين.
إن استمرارية المراوغة واللعب على الحبلين، أو ما يسميه البعض بـ(الحيادية)، سيصطدم عاجلا أم آجلا بحقيقة الأمر الواقع، في حال بدء العمل بسياسة إدارة الرئيس الأمريكي الجديد، في علاقته المقبلة مع جيران العراق. وبعد أن تنتهي الحاجة من النظام الطائفي لملء الفراغ الذي خلفه إسقاط الدولة العراقية، الذي كان الخيار المهم لإدامة الوجود الأمريكي واستمراره، من خلال كونه الحارس الأمين للنظام العراقي الذي أوجدته هي نفسها.
في المقابل، تستمر واشنطن في الاحتفاظ بأوراقها الضاغطة على النظام السياسي العراقي، وعدم السماح بتجاوزه للخطوط الحمر المرسومة له. وهذا ما قد يعطي للجانب الأمريكي، الوقت لإعادة رؤيته للأمور، ورسم مستمر لشكل المشهد السياسي العراقي، عن طريق ترتيب خريطة طريق سياسية عراقية جديدة تخدم استراتيجية الإدارة الأمريكية وأجندتها، التي جاءت من أجلها للعراق والمنطقة، وتضمن الدعم لمن لا يعاديها للخروج بحلول تضمن لها المصالح العليا التي جاءت من أجلها للعراق. وهنا تكمن قدرة العامل الأمريكي وأهميته كطرف مُنظم، فعال ورئيسي في قلب المشهد السياسي العراقي، ما قد يـُسهل عليه ممارسة الضغوط السياسية على الأحزاب الحاكمة، ومن ثم رسم خريطة طريقها وتحديد مسارها، وفقا للسياقات والظروف المحلية والإقليمية لإرضاء البعض، أو تنبيه البعض الآخر، والعمل على تصحيح بوصلة واجباتها في حال خروج قادتها عن المسار ومسهم بالتوافق العراقي ـ الأمريكي. وهذ ما قد يدفع الحكومة العراقية، للسماح في بقاء هذه المجاميع المسلحة التي تضمن دعم النظام، أو رفض أنشطتها العسكرية الخارجة عن سيطرة الدولة، ومنعها من استخدام الأراضي العراقية في حال خروجها عن دائرة المطالب الأمريكية، وهنا يكمن بيت القصيد في علاقة الدولة وإشكالية الدور الذي تنفذه المجاميع المسلحة.
إن تنفيذ قرار منع الحكومة العراقية لهجمات الفصائل الولائية من داخل الأراضي العراقية، لا يحرم العراق من دعمه للقضية الفلسطينية، والتنديد بمجازر اليمين المتطرف الإسرائيلي في غزة. وهي الخطوة المهمة العليا للحفاظ على موقف العراقيين التاريخي المساند للقضية الفلسطينية التي تعتبر قضية العالم العربي والإسلامي الأولى بامتياز، بعيدا عن الأجندات والنوايا التوسعية المذهبية، التي تعمل على تجييرها الدول المارقة وجعلها أداة للتفرقة ووسيلة للهيمنة على البلاد والعباد.