المحددات الموضوعية لـ”المقاومة”.. الجزء (1-2)
خاص “المدارنت”..
تفاعلت عوامل متنوعة كثيرة؛ بعضها داخلي وبعضها خارجي، لتجعل الواقع العربي الراهن مزيجا من الأخطار التي تهدد الوجود العربي ومقوماته التاريخية، وفي مواجهة تلك الأخطار الوجودية ظهرت انواع مختلفة من المقاومات الشعبية، طلبا للتحرر والإستقلال، حققت الكثير من المهمات التحررية، وانجزت الكثير على صعيد التعبير عن الرفض الشعبي لكل عدوان خارجي أو داخلي على الشعب والأرض، قدمت في سبيل ذلك تضحيات كثيرة جدا من البشر والعمران، ومن الآمال النهضوية والتنموية والمستقبلية.
كان تضافر العدوان الخارجي مع كل أسباب التسلط والضعف الداخلي وبراعته في توظيفها وإستغلالها؛ السبب الرئيسي في إجهاض إنتفاضات شعبية كثيرة، لم تكن تنقصها روح التضحية والفداء، وفي تحوير المضامين الإيجابية للمقاومة إلى سلوكيات سلبية أو إرتهانات غير شعبية، أدت إلى ظهور محاولات جدية لإستخدام فكر المقاومة وتوظيفه في تطلعات سياسية خاصة، ليست متصلة بالأهداف الأساسية لمشروع المقاومة..
فهل من الممكن واللازم إعادة صياغة فكر المقاومة، لتبقى في إطارها السليم غير القابل للإندحار الذاتي او الإرتطام بطريق مسدود، أساسه الإستخدام السياسي الفئوي لتضحيات المقاومة وإستثمارها في غير أهدافها الموضوعية..
وحتى لا يبقى الكلام عموميا، يلزم تحديد ما المقاومة التي نتحدث عنها، لنصل الى تحديد ضوابط لها فكرية وميدانية لتبقى المقاومة القادرة على الإستمرار والإنجاز..
نحن أمة عربية، جزّأها أعداؤها تمكينا لهم من السيطرة عليها ثم أقاموا فيها نظاما للتجزئة الإقليمية، يفعّل تقسيماتهم لها ويحوّلها إلى وقائع، ويستدرج أبناءها ليخلق لهم قضايا فرعية محلية في مواجهة بعضهم البعض، للوصول إلى تناقض في الاهداف بين الخاص والعام، ثم إغتصب فلسطين، وأقام فيها بالقوة كيانا إستعماريا ليكون ذراعه وأداته في ديمومة نظامه الإقليمي، وضرب أيّ محاولة لنهضة أو تقدم أو تحرر في أي جزء أو في عموم الكل العربي.
قاوم الشعب العربي، ولا يزال يقاوم بوسائل متعددة ما يتعرض له من عدوان خارجي وقاعدته دولة العدو الصهيوني، وعدوان داخلي بقواعده المتعددة، فالمقاومة المعنية في هذا الحديث هي مقاومة الشعب العربي؛ كله أو بعضه أو حفنة منه؛ لكل مصادر العدوان عليه..
ونظرا لما تشكله قضية فلسطين من جرح غائر في الوجدان العربي، حافر في ضميره تعذيبا وتأنيبا؛ ونظرا لكونها عنوانا رئيسيا لكل قضايا العرب التحررية والنهضوية والوحدوية؛ فإنها إستجمعت في قلبها كل أفكار المقاومة، ولخصتها في مقاومة المشروع الصهيوني حتى دحره وتحرير فلسطين، جزءا أصيلا في أرض العرب وأمة العرب التي ينبغي لها أن تتحرر جميعا، فتتوحد فتتقدم وتبني مستقبلها الأفضل المرغوب..
إنها إذن مقاومة عربية، ضد كل خطر على فلسطين والأمة، وضد كل عدوان عليها وضد كل ما يعوّق تحررها ويعرقل مسيرتها ويشوش توجهاتها التوحيدية، ويضعف ثقتها بذاتها وقدرتها على التقدم وأهليتها للحياة الحرة الكريمة..
كيف لمثل هذه المقاومة أن تقوم؟ وكيف لها أن تبقى في إطارها السليم، فلا تنحرف ولا تتقهقر ولا ترتطم بجدار أصمّ او تعجز عن حماية ذاتها، فيتسنى لغير أهلها أن يستثمروها أو يستغلوها لأهداف فئوية خاصة بهم هم..
ثمة محددات موضوعية حتى تستقيم لنا مقاومتنا عربية حرة قادرة على الإنتصار..
1/عربي: إنطلاقا من وحدة المصير العربي، ومن وحدة مصادر الخطر والعدوان على الوجود العربي، ولما كان إغتصاب فلسطين مقدمة للسيطرة على الوطن العربي، ومنع تحرره ووحدته وتقدمه؛ فإن أيّ مقاومة تنشأ في أيّ بقعة من الأرض العربية؛ ينبغي ان تكون ذات توجه عربي واضح، تلتزم قضية المصير العربي، وتتطلع إلى إنتصار عربي على كل الأعداء، وبالأولى، أن تكون أيّ مقاومة فلسطينية أو تواجه الصهاينة أو تتخذ من فلسطين عنوانا لها؛ عربية الهوية والتوجه والإنتماء، عربية الولاء أيضا..
2/ شعبية: وحتى تستطيع الإستمرار وتضمن حماية ذاتها، وتؤمن لها مدادا من البشر والتضحيات والعطاء والمشاركة والإلتزام؛ ينبغي أن تبقى منصهرة في الإطار الشعبي العام؛ مبتعدة عن أيّ توجهات حزبية ضيقة أو فئوية خاصة..
إن البعد الشعبي الذي يحتضن المقاومة، هو المصدر الأساسي لحمايتها وتزويدها بما يلزم من بشر، وما يؤهلها للإستمرار فالمعين الشعبي خزان لا ينضب، كما أنه يضمن لها الإنتصار حينما تكون وتبقى ملتحمة به وبأهدافه، دونما متاجرة او فئوية من أي نوع…
3/ تقدمية: ولما كانت في الأساس مقاومة ضد كل ما يكبل إرادة الإنسان بالإحتلال والإستبداد والقهر؛ ويصادر أرضه وإرادته؛ وحتى تبقى في إطار إلتزامها حيال شعبها وأهدافه وتطلعاته، فإنها ينبغي أن تكون تقدمية في أدائها وعطائها بمعنى أن تستطيع نقل الإنسان من حيز القهر إلى ميدان الحرية، ومن معاناة الإحتلال إلى إنتماء حرّ إلى الوطن بأكمله، فإن لم تكن تسهم بفعالية في مثل هذا الإنتقال بالإنسان ومن ثم بالمجتمع كله؛ فإنها تفقد ركنا مهما من أركانها الموضوعية: “التقدمية”، وكل مقاومة تفجر في بيئة المجتمع أيّ إشكاليات تعوّق تقدمه؛ سواء بالإنقسام أو بأنواع العصبيات أو بالتقوقع الفئوي أو بالبلبلات الفكرية والثقافية والإجتماعية؛ ليست هي المقاومة القادرة على الإستمرار والإنتصار وضمان الإلتفاف الشعبي حولها..
4/ وطنية: إن ترابط المصير الوطني لأي شعب وأي وطن؛ بما يجعل كل قضية وطنية تستكمل أبعادها بإحتوائها لكل مطالب الشعب، أبناء البلد الواحد والتعبير عنها وإسهامها بفعالية في تحقيقها؛ مثل هذا الترابط يستدعي أن تلتزم أية مقاومة للمحتل او للعدو؛ تلك المصالح الوطنية مجتمعة، وحتى تكون مقاومة سليمة ذات توجهات موضوعية ينبغي أن يكون إلتزامها بقضايا الشعب الوطنية، حياتية كانت أو تحررية أو معيشية؛ موضع إهتمامها لا بل مهمة ذات أولوية في برنامجها النضالي، وحينما تفتقد المقاومة ذلك الإلتزام الوطني بما فيه من تبعات ومسؤوليات؛ فتنفصل عن مجمل المصير الوطني الواحد؛ تكون قد وضعت ذاتها في مواجهة مع أبناء وطنها في ذات الوقت الذي تقدم تضحيات في مواجهة العدو..
وحينما تترك ذاتها لتنجر في سياقات فئوية من أي نوع؛ بعيدا عن المصلحة الوطنية المشتركة، تكون قد سمحت بظهور ما يعرقل عملها ويسحب منها الإحتضان الشعبي اللازم..
5/ وجودية: ولما كانت الاخطار مصيرية وجودية، فإن المقاومة ينبغي أن تكون حضارية شاملة لكل ميادين الوجود والحياة..
فالمشروع الصهيوني عنوان للعدوان الإستعماري على الوجود القومي للعرب جميعا..وهو عدوان شامل يغطي كل جوانب الحياة العربية: من أول آحتلال الأرض إلى آخر إحتلال العقل مرورا بإحتلال الإرادة، فهو عدوان يستهدف تخريب كل مقومات الحياة العربية، حياة الإنسان الفرد وحياة الأمة كجماعة قومية واحدة..وبالتاىي فمن اللازم والمقتضى؛ أن تكون مقاومة العدوان هذا ؛ مقاومة وجودية شاملة تغطي كل جوانب الحياة: في السياسة والإقتصاد والعلم والثقافة والإجتماع والأمن والقيم والمشاركة، وبهذا تكون مقاومة أشمل وأعقد من الأعمال العسكرية، وعلى الرغم من الأهمية البالغة للمقاومة العسكرية؛ إلا أنها جزء من منظومة متكاملة للمقاومة تشمل كل أنواع النشاط الإنساني، آن مثل هذا المجال الواسع للمقاومة، يسمح لكل إنسان؛ كبير أو صغير، أن يشارك في عمل من أعمال المقاومة الحضارية الشاملة، في حين أن العمل العسكري لا يستوعب إلا نوعا معينا من الشباب، وعددًا محددًا منهم، فيستثني بقية أبناء المجتمع..
وحينما تكون المقاومة شعبية حضارية شاملة، فإن نتائجها تكون افعل وأمضى، فيما تتوزع تبعاتها وتضحياتها على جموع الشعب، فلا تبقى محصورة في جماعة من دون غيرها، وهذا ما يضمن بقاء الإلتفاف الشعبي حولها وعدم التخلي عنها، إذا ما إشتدت الخطوب وعظمت الأثمان وتزايدت جموع المعتدين وتكاتفت..