طبقية القرارات التربوية..
خاص “المدارنت”..
لا شك أن الفترة الاستثنائية العارضة تتطلب قرارات تشبهها، ذات أبعاد منطقية وموضوعية، تخلو من أيّ حالة مرضية اجتماعية، إذ الاستثناء حالة قد تجاوزت المألوف نحو تعايش حالة من القلق والاضطراب، ثم عدم الانتظام، ولهذا تلزم شروط الدقة والتمحيص، مع تجنُب عشوائية التسرُع، مع ضرورة التأكيد على المصلحة الوطنية العامة، من دون الفردية الخاصة.
الكلام عن التربية والتعليم، قد يطول ويطول، إذ أنه مجال تنظير فكري شامل عام، من حيث تناوله جوانب الحياة العامة، بناء ، تكوينا، استمرارا، واشراقا، على اعتبارها محور الوجود الثقافي والحضاري، للبشرية جمعاء، بل هي الوجه الحقيقي للفضيلة والاخلاق. فالعربية والتعليم تعني كيفية صنع انسان الوطن، انسان الانسان، انسان الأمة، وكان الأمر كله متعلِق والامتحانات، مع التنفيذ لحفظ حقوق طبقة اجتماعية خاصة، من دون الأخذ بعين الاعتبار، تلك الطبقة التي تعاني العدم في كل شيء، انها رمز الاستثناء، انها القلق ذاته، انها المعاناة نفسها، انها… انها… كفانا تعلقا بقشور ما يستلزم الحق الأدنى لعيش كريم.
التربية والتعليم، انما هي عملية اجتماعية شاملة، لها وظيفتها التطبيقية في تكوين ذات الفرد، وتقويمها نحو استقامة لا اعوجاج فيها، فهي عملية تتأثر بحركة المجتمع وما يسوده من قيم، هي مرآة تعكس صور النظم الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، أيّ الكلّ يؤثر ويتأثر.
مع انطلاقة فكرة التربية والتعليم تتزاحم الصور في الذهن وتتسلسل، ثم تنتظم، فترى الاصل هو الفرد، هو الذات، هو الروح، هو الجسد، ومن ثم يتفرّع ويتوزّع، فترى صور المنهج، المناهج، طرائق التدريس، البناء، التقنية، الاقساط… كلها انعكاس لانفعال المادة وتداخلاتها. فالمسألة في غاية الخطورة والتعقيد، وليس كما يتوهمها أصحاب المعالي والمناصب، انطلاقا من فكرة حصرها، بالزمان والمكان، هذه الفكرة التي هي أصل علتنا في فهمنا وممارستنا لفكرة المواطنة، حيث تظهر غاية التعلُم في نيل الشهادة اولا، بغض النظر عن الطريقة التي تخوِلنا الفوز بها: غش، شراء، تزوير… فالاستخدامات متنوعة ومتعددة، فهل من مصحح ،أو مصوِب، أو محاسب؟ هل تؤخذ الكفاءة بعين الاعتبار؟ فاسألوا أهل السلطة والحكم؟ اسألوا من وصل أعلى المناصب واعتلى الكراسي، اسألوا من يسرح ويمرح، في الهدم، والتهشيم، والتخريب، وعلى أعلى المستويات، مستندا على ضعاف نفوس المجتمع، حيث عبث الجميع بالاصول الدستورية والتشريعية، وسنوا قوانين حماية أعمالهم، وتهوّروا في جعل الحق باطلا والباطل حقا، وزيّنوا العدالة بصور النقص والارتهان.
أيها العقلاء الحكماء، أليست هي حالنا التي نحيا ونعيش؟ هل تعتقدون أن رجال منظومتنا السياسية الحاكمة قد مرّت على مقاعد دراسية عادية، ونهلت مما نهل الآخرون بحالة طبيعية؟ هل مروا في زواريب الحياة العامة، وشاهدوا صور الاختلاف في العلائق الاجتماعية؟ هل خالطوا الطبيعة وشعروا بسعادة عدالتها؟ هل سامروا الشمس والقمر في سجودهما لمن نظٌمها وسيٌرها؟
نعم أيها العقلاء الحكماء، لهذه الأسباب وصفنا اعداؤنا بمجتمع التخلف والانحطاط، وحكوماتنا مستمرة على ضياع شخصيتنا ومسخ ذاتيتنا، وتجاهلت حال رعيتها، وذهبت إلى تقاسم الجبنة وامتصاص روحية الوطن، وتركته هيكلا عظيما لا يقوى النهوض.
أمام هذه الصورة المظلمة التي يحياها تلامذتنا وطلابنا، اضف الى حكم الضرورة، حيث يحجرون أنفسهم بسبب الكورونا، ذلك الحجر الذي اعتادوه بحكم الفيروس البشري الحاكم، والمسيطر، والناهب، جعلهم مع أسرهم، شعب لبناني هائم متهالك، شعب منهوك واهن القوى، في المقابل تنظر وزارة التربية والتعليم العالي طرائق التعليم عن بعد، وفي كيفية إنهاء العام الدراسي، وكأن رجالها لم تتحسس جنوبهم وخز خشبات تلك المقاعد، ولم تمزٌق مراويلهم نتوء المسامير، ولم تتسخ احذيتهم غبار التراب… تلك لا يمكن نسيانها لمن جالسها، ولا يمكن تذوقها لمن حاكاها. هذه الحال تظهر اليوم التربية والتعليم، تحاسب على القطعة متجاهلة خطة عامة شاملة عادلة نعم عادلة.
نختصر القول بضرورة القراءة الموضوعية لحاجات التلامذة والطلاب، من ظروف مكانية وزمانية، مع ضرورة أخذها بعين الاعتبار من راحة للنفس وامان واطمئنان، مع التأكيد على تطبيق الرياضة الروحية منها والبدنية، باعتبارها ،تجديد الخلايا والقوى الذهنية لدى الأطفال خصوصا والكبار عموما، وهذا تحقيق الصالح العام عن طريق تطبيق الإنصاف ثم الإنصاف، الذي ينزع عن الذهن غوغائيته، كما ويمنع الدسّ والغدر والتآمر. لان العدل في الرعية يعتبر جوهر القضية في البناء والتكوين، كما يعتبر روح انبعاث العبقريات والمواهب الفردية، لذلك هي سبب إشراق شمس الحرية، وانبلاج نور الحق، وانضاج ثمرة الفضيلة. وخلاصة القول أن الرقي الذي تهدف إليه التربية والتعليم، انما يتمثل بذاك الذي يرتقي به عامل الأخلاق وعامل الروح، من حيث أنهما ينظمان علاقة الإنسان بأخيه الانسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة التي يحيا فيها، وعلاقة الإنسان بخالق الإنسان.
وهكذا فالتطور المندفع، بسلامته وصدقه، انما يرتبط بالإنسان، ذلك المخلوق الذي اوكل إليه حق التصرف بمعطيات الطبيعة. وعليه فالأمر الحضاري يستحيل فصله عن المجتمع، وعن كفاءته المعرفية، لدى الجماعة ولدى الأفراد على السواء، كما أن هذه الكفاءة هي التي تسهم وبشكل عام وبالغ في الحركة التغييرية اليومية بعجلة الحياة، فركيزة ذلك التطور وهذا الامر، انما يتمثل بالتربية والتعليم، “نظريا وعمليا”، تحت لواء التكافل والتكامل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.. على اعتبار أن التربية والتعليم هي مصنع الإيجابي للمجتمعات والاوطان.
على هذا الاساس، فالمواجهة تتطلب: قراءة الواقع الذاتي والاجتماعي، الموضوعية الحقة، الصراحة والجرأة والتجرّد، “ومع منعطف الانهيار الشامل”، حَذر الانزلاق إلى مهاوي الادعاء الثقافي والوهم المعرفي.
أحوج ما يحتاجه مجتمعنا اللبناني، إصلاح عام وشامل، انطلاقا من إيجاد المؤسسات وصونها، عموما، وإيجاد مؤسسة تربوية صالحة وهادفة، خصوصا، هذه التي تلزم التوجه إلى شمولية النظرة وعمق اصولها، لديها من القدرة والكفاءة، تمكنها من بناء ثقافة مشتركة حيّة، أساسها المواطنة، من خلال خلق طاقة بشرية واعية منتجة، “ليست ناهبة” تملك قوة التغيير والتجديد، باعتبار أن القوة البشرية هي مصدر ثروة الوطن والامة.
ونخلص إلى التساؤل: لما هذا التمايز الوجودي عموما، وعلى مستوى المشاركة التربوية والتعليمية، بوجه مخصوص، وللعيان ترى وجود نظام تعليمي موجه للاغنياء، وآخر موجه للفقراء، اضف لبيان وجود انتقاءي في السياسة العامة “المخباة والمعلنة”، والكفاءة مرمية في سلة المهملات، والسبب في ذلك انما يرجع لفكرة التبعية والاستزلام، والتي تتجنب إعداد الفرد أعدادا كافيا وافيا، كي يتمكن النظر والحكم على الأشياء بوضوح دون الضبابية التي نحياها دون كلل أو ملل، وهذا الأمر الذي يُبقي الفرد والمجتمع على حاله من السذاجة والسلبية.
وعليه فإنما نريد إطلاق الفكر، وبجدية حاسمة، نحو التحرر، نحو التغيير النوعي من خلال فكر تربوي قويم، قادر على نقض فكرة الكواكبي في طبائع الاستبداد، لقوله: “تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكل ما تبنيه التربية، مع ضعفها، يهدمه الاستبداد بقوته”.