حكاية لا تسأل عن خاتمة.. (وشوشات).. الحلقة “1”
خاص “المدارنت”..
ينشر موقع “المدارنت” أول حلقة من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “حكاية لا تسأل عن خاتمة”، ضمن سلسلة من الحلقات الأسبوعية.
وجاء في الإهداء: إلى نور.. وحده الحب يغزل في الشرايين، وفي القلب يجدل اسمين بمكنونات الروح، يناجي الحاضر إن لمح عابرا في مكان، في زمان، في ساحة، في موّال، في خاطرة لا تزال تعنّ على البال إلى ما لا نهاية.
… من أنتِ؟ وما الأنثى فيكِ؟.. أفِتنة ليلٍ، أم حوّاء تصدح في عري المكان، تغمز في صوان الروح العالق في تمثال الألف عام. أيتها الشقية التي أغيم في عينيك ظلالاً، وعلى الجسد العاجيّ أمسّد كفي، وعلى ثنيات الحرف أنزلق إصبعاً يلهث خلف الإصبع. يعدّ الخطوات على صمت قديم. يشدّ على الشوق ويناجي: أين أنت يا ضجيج الروح تنفثين الحياة فوق الخد الجامد، فوق الجيوب الصفر، فوق ذلك الشكل الخابت لامرأةٍ أنجبت من الريح دزينة نهايات معقوفة بفواصل، فوق مواعيد مختومة بالأسرار والرموز والألغاز، فوق صمت يدور حولك مثلما أدور وأشتهي مطراً بلا إزميل يطرق قارعة الأمس بكثير من الصدى.
وهذا السكون المختلج بالذكريات، هل تسمحين أن أدخل في ظلّه؟ أن أنتشل وجهك من النشيد البارد، أن أكمل نصف ابتسامة إلى قمر مدوّر، أن أغمرك طويلاً كالانسجام، كالبرق، كالانصهار بك إلى حدود الحركة، أو لنقل إلى حدود أن نسهر معاً في الطريق المقفر الملغوم بالصخور وبالخطايا، تماماً مثل أي غريبين تجمعهما دهشة اللقاء الأول، رعشة اليد والصوت والسؤال: لمَ تقفين حذرة فوق أصابع قدميك العاريتين؟ لمَ تركضين بي إلى حقولك والجيوب الفواحة برائحة الأرض؟ لمَ تلاعبين الريح فوق صدرك المشقوق بالغوى ثم إنك تعدلين؟ لمَ أسمع ضحكاتك رنات من نور وبالكاد تبسمين؟ لمَ تشرقين في عينيّ وتغيبين في غموض الفجر؟ لمَ أنت في كل مكان هنا، هناك، في أمسي، في حاضري، في غدي، أنت يا شكلاً صامتاً، باسماً، حذراً، شامخاً، عذباً.
2-
أيها الرجل الذي ألتقيه بعد شتات، من النهايات تعال نبدأ حكاية. نبعثر أولها، ندمغ البقية بالمحظور من الذاكرة، في المساحة الهاربة من مثلث العيون، من احتمالات مفتوحة في أن نكون تعارفنا يوماً، في أن نكون تشابهنا في الأرواح، في أن نكون تشابكنا في الهالات، في أن يكون أحدنا علق في ظل الآخر، سكن في قلبه، في وجدانه، في صدى الصوت الذي يأخذ إلى البعيد.
وتعال نضبط المشهد. نعيد بناء جسور تصدعت، نضيء شمعة في دهاليز الروح. نتبع هتاف نسوة محاصرات في نوح الريح. نسوة يزنرن حواف النهر، يدخلن الغرف المظلمة، يلجن الطبقات السفلى، وفي العتمة تتداخل الحكايات بالوجوه، بالقدر المحتوم، بالتمتمات، وعزف بعيد.
وفي الدهاليز عازفة تنقر بأصابعها على أوتار قيثارة عملاقة، العازفة التي تشبهني، والمكان الذي يصيبني بالدوار، وذلك الخدر الذي يسري في الجسد، وفي أصوات تجمعها الحكاية، حكاية ثور ومصارع وأغنية. تقول الأغنية: “هبط ثور السماء، خار فقتل مئة رجل، خار ثانيةً فقتل مئتي رجلٍ ثم ثلاثمئة، ثم هجم على المصارع، فأمسك الأخير الثور بقرنيه، أرغى الثور وأزبد فنادى المصارع: ظفرنا به، وبين السنام والقرنين أنفذ السيف، فقتل ثور السماء وأخرج قلبه*“.
والمصارع جدير بالاختبار، في حلبة مزنرة بالموسيقى وبأجساد غضّيةٍ تتمايل، حسناوات وفاتنات وأنخاب وعازفة قيثارة وطريق تأخذ إلى الأنهار، الينابيع، الجبال، السماء، الأمواج، الزهرة ودنيا بنصف عقل ونصف وعي ونغمة تصيخُ السمع لقيثارة الروح وتطلب: أيها الزمن لا تدع اللحظة العابرة تهرول.
وأعود اليك، إلى المشهد القريب، إلى رجل يتقن المداهمات، مباغتا اللحظة، وزاويتي التي على قارعة كرنفال. يفرد أدوات الرسم وعدة ولوحات، يقابلني في الوجه، يتملى بي، يدقق في القيثارة بين يدي، يبسط ملامحه، يعدّل وضعية جسده ويطلب أن تابعي العزف، فيما ينهمك بالرسم، رسم يشبهني، وعزف يشبهه، وبيننا السؤال: متى تشردنا لآخر مرة؟ وهل التقينا من الأساس؟
وكانت العازفة في البعيد تضبط إيقاع القلب والأوتار والمشهد الاخير: ملكة في الأربعين، ممددة على سرير من خشب، قرب رأسها وصيفة، وقرب قدميها وصيفة، فوق ملابسها ثوب قصير لا يتجاوز الخصر، ثوب من سلاسل من خرز مصنوع من الذهب والفضة والأحجار الكريمة. وكانت السلاسل تنتظم بخيوط وتتصل بطوق حول العنق، تتدلى منه خيوط على الأكتاف. في الأذنين أقراط هلالية كبيرة الحجم، وعلى الرأس إكليل من الذهب الخالص، بشكل أوراق صفصاف، وقد ارتفعت فوقه ثلاث زهرات تبدأ من مؤخرة الإكليل الخلفية وتنحني حركة الخطوط مشكلة أنصاف أقواس .تجرعت الملكة السم، لحق بها 60 من حاشيتها، بقيت العازفة على قيد الأمل، عاش المصارع، وساد الخصب في البلاد.
* ملحمة جلجامش –الثور السماوي.
3_
أيتها الجميلة التي أتناثرُ خلف خطواتِهَا براعمَ تطلع من بين الشقوق. يا روح الأرض ولحن الصوت الأليف، يا وجع الأمس الراكع عند أقدام الصخور، يا حنيناً أغترفه مثل قبلة مسروقة من دفتر منسيّ، يا وردة أخبئها في أدراج العتمة، أهلا بك في أريج الأرض الطالعة من يباس عقيم، ولا تسأليني عن السنين التي في وجهي، وفي جبهتك، وحول عنقي، وفي غمازتيك، وفي خيوط العمر التي تدور بنا، وتراقصنا كعاشقين في صومعة… واعفني من السؤال: من أكون؟ ومن نكون؟
وأناديكِ أن اقتربي أكثرَ، أنتِ التي بيني وبينكِ مسافة حلم، أعْطيني غمضة عين لأعبر إليك، لأشتاق وأسافر في عروقك نشوة عطر، لأبحر إليك كالريح خلف النوارس، لأعانقك مثل غيمة في غيمة، لأجترح السهر تحت جفنيك مثل شامة حسن، لأسرج خيول الشوق إلى أراض تلوح، لأميّزك عن رفّة القلب، ونمضي معا خلف تطابق المسافة بالحلم وأضبط عيني في تلصصها عينيك .
وماذا تقول العين في حدقة العين، والوجه في عقدة الوجه، والذاكرة في تهدجها وتقوقعها على وجهين وعلامة سؤال… تقول: نعم كنا سوياً، ذات مساء شلّعته الموانئ، وسقطت في جفاف الطقوس، على قارعة غيم يدلك إلي، ويدلني إليك.
نعم كنا كأنفاس ينفثها المطر، في الطرقات المبلولة بالحكايا، وبذلك السيل الذي أخذ معه آخر خطواتنا، وآخر الكلام.
4–
كان كرنفالا صاخباً يوم التقينا، كشبحين يخترقهما المارة ويكملان المسير، في الطريق الذي لا شكل له، في العاصفة المتروكة على عبثيتها، في الجنون الذي لا ضوابط لجنوحه، في الأرض الموعودة بنا حكاية لا تسأل عن خاتمة.
في ذلك الصباح البارد بلا نهاية، فتحنا الباب على صف طويل من أسئلة تبادلناها في تحية: ماذا عن العازفة في اللوحات؟ ماذا عن لوحاتك في عزفي؟ ماذا عن المصارع؟ الثور؟ الحاشية؟ العربات؟ الموت الجماعي؟ الملكة النائمة؟ السم في الأكواب؟ وماذا عن أحداث نحسّها ولا نعيشها؟ ماذا عن وجهك العالق في ذاكرتي؟ ماذا عن وجهي الذي تسمر في عينيك من مثل حكاية قديمة؟ ماذا عنا نحن اللذين تجمعنا ريشة في مهب الفنون وفي دروب تتقاذفنا ثم إنها تحط بنا أخيراً في كرنفال بلا أدنى موعد.
وكان علي أن أبدأ العزف، نقرة على أوتار تجمعنا، ونقرة على أوتار تباعدنا، ونقرة على كيمياء استفاقت مارداً، خرجت من كبوتها بكل الشوق الذي اعترانا. أنهار كثيرة، مدن وخيالات ووجوه عبرت بنا، مستعجلة كأنها، في تأهب، في موت، في ولادة، في حدث طارئ، في أنفاق تخفق بالأنفاس، تخفق بالغنائم والحليّ وبأنوار الجسد.
وكان عليك أن تبدأ الرسم، وأواصل العزف، ومعاً نشكل ذاكرة تجمعنا في تفاصيل هزيلة، نغذيها بنوتة وقفل موسيقي، نرتقها بألوان خفيفة تتأرجح بين الأسود الباهت والرمادي، نشكلها بالإحساس وبحركة الأيدي في عفوية انسيابها، وفي عمدية تلاقيها، وفي تشابكها، وفي ذلك اليقين بأن ثمة خيطا لا زال مفقودا، يبحث عن مائدة وشمعة في ذلك الظلام الذي يأخذ إلى الرواق الطويل، يأخذ إلى موعد أول، وربما كانت قبله لقاءات مبيتة، لقاءات صاخبة، لقاءات منسية في الدرج العتيق.
5-
ضمّيني إليك، واحزمي أنفاسي مثل ارتعاشة في يقظة تفلت، تحلق، وتنهمر مطرا متقطع الأنفاس، كنوتة تلوذ بك من عيون مملوءة بنا، كعصفورة الروح في خباء اللحظة، تغط وتطير وتحتفي بتقاسيم شرقية على مقامات العشق وعلى غوايتين معقودتين عند الخاصرة، وعلى رغبة لا تطلب إذنا حين تهب وتصفر وتهدأ وتتهيأ للهبوب من جديد.
ومن الغمرة يولد صيف وشتاء، أشجار تورق لحبكة اللقاء، ولذاك السلّم الذي يرتقي من عتبة الوهج إلى الوميض إلى يدين تلتفان وترفعانك لقرص الشمس في تعامده، وفي انكسافه، وفي تثاؤب النهار، وفي الطواف رقصا على قدم واحدة، وفي صوتك ينثال من بين حروفي: دثّريني بك قبلة على جبيني أختم بها نزف السنين، أغرق جسدا مرتجفا من لهاث الشوق، ثالثنا الرغبة ورابعنا همس مؤجل يبدأ بقبلة تتمايل على أطراف المياه الراكدة.
وبقلبك خبئيني واصمتي صمتكِ الرائع، وما حاجتكِ للكلام، حين أسكن النبض والغنج في عينيك واندماجنا وجنون الأيدي في لعبة الأوتار، وحين لا أعود أعرف كيف تولد الحروف، وكيف تنصهر في الكلام إشراقة حياة وضحكة وعزف على جسدين معلقين في سحائب الفلك الدائر في اشتباك اللحظة، وفي تماسكنا، وفي ترنحنا وفي كل خلايا الحياة .
وبعينيك احبسيني كما لو كنت طفلا تائها، أقفز على الشاطئ، أواجه الأمواج، ولا أفكر في حاضر ولا آت، أستغرق في الحلم وأبتسم للأثير، و تحت الجفنين تخطين ظلالا من نور وظلالا من أرجوان وخطا يتراقص ويغري ويزجر.
وبروحك أحبيني، بهمسك، بتلك البحة في صوتك، بضحكتك، بجبينك الذي لوحته الشمس، بحنو البنفسج الأبيض بين يديك، بضمة خاطفة تزنّرني، ضمّة تخفق في الأنفاس قلبا يعترف: وإنك الحلم الدافق من فيض النور.