بوتين يدير المعركة.. هل تصبح كورسك مقبرة للأوكرانيّين؟
“المدارنت”..
على عكس توقعات كثيرة، لم يبادر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى حملة فورية كاسحة لطرد القوات الأوكرانية الغازية من مقاطعة كورسك الروسية الحدودية، وكان الهجوم الأوكراني عليها مفاجئا، وكاشفا لغفلة وخيبة أجهزة الاستخبارات والقيادة العسكرية الروسية، التي لم تتوقع الهجوم، وركنت إلى السلوك البيروقراطي المركزي البليد، وتركت كورسك ـ كما بيلجرود وبريانسك ـ خالية تقريبا من أي وجود عسكري مؤثر، ما جعل قوات الهجوم الأوكراني تتقدم بسرعة، وكأنها في نزهة خلوية، وسيطرت على عشرات القرى الصغيرة، وبلغت مكاسب الغزو أكثر من 700 كيلومتر مربع، حسب تقديرات أخيرة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
ويعلن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي وجنرالاته بالطبع عن مساحات سيطرة أوسع كثيرا، وإن كانت القوات الأوكرانية ظلت خلف نهر سيم، الذي دمرت جسوره، ولا يبدو أن قوات أوكرانيا قادرة على الوصول إلى هدفها الحيوي في محطة كورسك النووية، وهي ثالث أكبر محطة نووية لإنتاج الكهرباء في عموم روسيا.
لم يعالج بوتين مشكلة كورسك كحادث منفصل بل وضعها على رقعة الشطرنج الأوسع وربطها بمسارح القتال ولم يغفل وعده بجعل كورسك مقبرة للأوكرانيّين
صحيح أنه جرى تطويق قوات الغزو الأوكراني، ووقف تقدمها السريع، وانتزاع عدد من البلدات والقرى منها، لكن ليس هناك هجوم روسي كاسح حتى تاريخه، بعد شهر كامل من الغزو، ما أثار الكثير من علامات التعجب، خصوصا مع خطورة ما جرى رمزيا قبل وبعد الغزو العسكري، فهذا أول غزو عسكري لأراضي روسيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويصيب في الصميم معنى الهيبة الروسية المفترضة، ويؤثر سلبا بالطبع على مكانة «القيصر» الروسي، الذي بدا منفعلا مع بدء ما سماه استفزازا خطيرا.
لكنه لم يتصرف على نحو يسوقه إليه الانفعال الطارئ، ولم يقرر إعلان تعبئة عسكرية مضافة، ولا قرر سحب قوات روسية كبيرة من الجبهة لطرد الأوكران فورا من كورسك، وهي البقعة ذات الرمزية الوطنية الهائلة عند الروس، ففيها جرت أكبر معارك الدبابات في التاريخ، وفيها كانت النهاية الحاسمة لجيوش هتلر الغازية لروسيا السوفييتية وقتها، وبعد معركتها التاريخية، كان الزحف الروسي إلى برلين، وهو ما يعرفه بوتين بالطبع، كما عامة الروس؟
لكنه مع ذلك كله، فضّل التريث، والتصرف كلاعب شطرنج محترف، وراح يدير نقلات القطع بهدوء عاصف، ويضرب في عمق أوكرانيا بهجمات صاروخية مدمرة، كانت فيها صواريخ إسكندر وكينجال الروسية، أدوات انتقام تحت نووي، من مقاطعة سومي الأوكرانية عند الحدود مع كورسك، إلى مدينة خاركيف وكييف ومقاطعة دنيبرو بتروفسك وأوديسا، وإلى مقاطعة بولتافا، التي شهدت مذبحة دامية للعسكريين الأوكران، مع مدربيهم الأجانب، وإلى مدينة لفيف في أقصى الغرب الأوكراني.
وفي غمار هجمات صاروخية روسية لا تتوقف إلا لتتجدد، قصدت تدمير مراكز الطاقة ومصانع السلاح ومخازنه ومطارات الغرب الأوكراني بالذات، وعلى نحو زعزع ما تبقى من تماسك القيادة الأوكرانية، التي باتت تشعر بأن مغامرتها في غزو كورسك، كانت نقمة لا نعمة، فقد توالت إقالات واستقالات بالجملة لكبار المسؤولين والوزراء، قبلها أطاحت الهجمات الروسية الصاروخية بقائد القوات الجوية الأوكرانية، الذي ضحى به زيلينسكي على المذبح، ربما ليحمله مسؤولية إسقاط أول طائرة إف 16 وسط اشتباكات مع هجوم صاروخي روسي.
وكان للحدث على الرغم من الاختلاف في تفسير وقوعه، أثرا سلبيا محبطا عند الأوكران والداعمين الأمريكيين، ولجأ البنتاغون إلى اتهام الطيار الأوكراني المدرب أمريكيا بعدم الكفاءة، وأنه ارتكب خطأ قتله مع تحطم الطائرة وسقوطها، فقد كان زيلينسكي يعول كثيرا على أسراب طائرات إف ـ 16 الأمريكية، ويعتبرها مفتاح النصر وتميمته السحرية.
فيما تعهد الروس بإسقاط خرافتها تماما، كما أسقطوا من قبل خرافات راجمات صواريخ هيمارس ودبابات تشالنجر البريطانية وليوبارد الألمانية وأبرامز الأمريكية، وقد جرى تقديمها لأوكرانيا كأفضل دبابات في العالم، وانتهى الكثير منها إلى معارض الغنائم الروسية، فيما لم تنجح كثيرا الهجمات الأوكرانية على العمق الروسي، سواء بالطائرات المسيرة، أو بصواريخ ستورم شادو وسكالب البريطانية والفرنسية، ولا بصواريخ أتاكمز الأمريكية، وما هو أحدث منها، رغم تظاهر واشنطن الكاذب، بأنها تفرض قيودا على مدى استخدامها.
ورغم وعود الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخيرة، وتعهده بتقديم المزيد من بطاريات باتريوت ونظم الدفاع الجوي لصد الهجمات الروسية، فلا أحد في موسكو عاد يخشاها على ما يبدو، وقد توالت مذابح الباتريوت على أراضي أوكرانيا، التي ضاعف الروس من وتيرة سيطرتهم عليها بعد غزو كورسك، وضاعفوا سرعة عمليات القضم التدريجي للأراضي، وصاروا يتقدمون بالكيلومترات يوميا، بعد أن كان التقدم يحسب بالأمتار، أو بمئات الأمتار في أفضل الأحوال.
ورد بوتين ـ للمفارقة ـ على عملية كورسك في غرب الدونباس، وبالذات في غرب مقاطعة دونيتسك، ويكاد لا يمر يوم منذ غزو كورسك، إلا ويعلن عن سيطرة الروس السريعة على بلدة أو بلدتين، بالغتي التحصين، وانسحاب الأوكران المذعورين من التقدم الروسي، فقد سحبت القيادة الأوكرانية (الذكية) أفضل قواتها من الدونباس إلى كورسك.
وكانت تلك فرصة بوتين والقيادة العسكرية الروسية، التي تصرفت على نحو عكسي، وجعلت التقدم في الدونباس الغنى أولويتها الحاسمة، فهي تعتبر ـ سياسيا ـ أن الدونباس ـ كما كورسك ـ من أراضي روسيا سواء بسواء، وتعتبر عسكريا، أن التقدم إلى بوكروفسك وإلى أوجليدار أكثر أهمية وإلحاحا، وأن الوصول إلى حافة نهر دنيبرو عبر بوكروفسك، يتقدم ما عداه، ومدن وبلدات وقرى غرب الدونباس هى الأشد تحصينا على الإطلاق.
وقد قضى الغرب في بناء خطوط دفاعها أكثر من ثماني سنوات، أعقبت ضم روسيا الخاطف لشبه جزيرة القرم وميناء سيفاستبول عام 2014، وحتى بدء الحرب الجارية منذ أكثر من ثلاثين شهرا، وتعتبر موسكو أن إكمال السيطرة الفعلية على المقاطعات الأوكرانية الأربع (دونيتسك ولوغانتسك وزاباروجيا وخيرسون)، التي قررت ضمها رسميا أواخر سبتمبر 2022، هي المهمة الأولى للقوات الروسية قبل نهاية العام الجاري.
وهو ما لحظه حتى معهد دراسات الحرب (الأمريكي)، الذي وصف تقدم الروس البري الجاري في أوكرانيا بالأسرع منذ بداية الحرب، التي يواصل بوتين وصفها بالعملية العسكرية الخاصة، ولا يرغب في إعلان درجات أعلى من التعبئة العسكرية العامة، ولا في إثارة قلق داخلي بتجنيد أوسع للشباب الروسي، حتى لا يؤثر على الروح المعنوية وقوام القوة العاملة في ميادين الإنتاج، فهو ـ أي بوتين ـ لا يريد التأثير سلبا على ديناميكية الاقتصاد الروسي، الذي يواصل ويزيد معدلات نموه، رغم عشرات آلاف العقوبات التي فرضها الغرب الجماعي على روسيا، وصنع منها بوتين.
للمفارقة، سلالم صعود للاقتصاد الروسي، ولتكثيف الإنتاج الصناعي الحربي الروسي، وعلى نحو جعله يسبق إنتاج السلاح الغربي كله، فقد واجه بوتين التحدي الكبير، ليس بالخضوع له، بل بتحويله إلى فرص كبرى للصعود الروسي، وتمتين صلات التحالف الاقتصادي والعسكري مع الصين الكاسحة اقتصاديا، وتوسيع صيغ بريكس ومعاهدة شنغهاي، وتسريع تحول الأوضاع على القمة الدولية، والانتقال من حالة القطب الأمريكي الوحيد المسيطر إلى عالم تعدد الأقطاب، وتوسيع ملاعب المباريات والمطاردات بين تحالف الشرق الجديد وحلف الغرب القديم.
وبالجملة، لم يعالج بوتين مشكلة كورسك كحادث منفصل، بل وضعها على رقعة الشطرنج الأوسع، وربطها بمسارح القتال ذي الطابع العالمي على الأراضي الأوكرانية، ومن دون أن يغفل ـ على ما يبدو ـ وعده للجمهور الروسي بإنهاء ثغرة كورسك، وجعلها مقبرة شنيعة للمغامرين الأوكران، ونجح دون إعلان تعبئة عامة في حشد ما يكفي لتحقيق الهدف الأصغر، والبدء بحصار القوات الغازية في جيب حدودي متسع نسبيا، وجلب عشرات الألوف من القوات الشيشانية ولواء الدببة العائد من افريقيا، وتنظيم عمليات قصف متصل بطائرات الكاموف والصواريخ ودرونات لانسيت الانتحارية، واستدراج قوات الغزو إلى كمائن قتل جماعي، أبادت تسعة آلاف جندي أوكراني إلى اليوم، حسب بيانات وزارة الدفاع الروسية.
وقد تنطوي الأرقام المعلنة على مبالغات مفهومة، لكن ما يجري عموما، يوحي بسعي الروس إلى جعل ثغرة كورسك مصيدة ومقتلة للأوكران، الذين يعانون في كورسك من تباطؤ الإمدادات، ومن خطر زوال خضرة غابات الاختباء الكثيفة مع تقدم الفصول إلى طقس أكتوبر الخريفي، ووقتها وربما قبلها، قد يشرع الروس بتنفيذ وعد بوتين بالسحق الشامل، وجعل القوات الأوكرانية عبرة لمن قد يفكر مجددا في غزو روسيا بريا، ولن تكون مصائر زيلينسكي وصحبه وحلفه الغربي أفضل حالا مما انتهى إليه غزو هتلر ومن قبله نابليون.