مقالات

بيروت تكرّم منح الصلح..

الكاتب العربي الراحل محمد خليفة/ سوريا

“المدارنت”..
انشغلت بيروت في الأسابيع الأخيرة، بتكريم المفكر الفذ منح الصلح، وشارك في التكريم كل (البَيارتة) من كل الطوائف والأطياف، مما أعاد لبيروت وهجها وروحها ووجهها الأصيل، وأزال عنه البقع الطائفية التي شوهته في العقود الأخيرة، وذكرنا بنمط من السلوك والقيم اختصت به بيروت الميثاقية والشهابية التي عرفها العرب في عصر ازدهارها الذي حطمه عسكر الاسد،.
بيروت التي لا تقصي ولا تلغي أحدا، بل تفسح مجالا من فضائها الرحيب لكل مبدع ومفكر ومناضل، بيروتيا كان أم لبنانيا أم عربيا أم أجنبيا. التكريم بحد ذاته قيمة انسانية تدل على الوفاء والحب والبر افتقدها العرب في العصر السابق ولا سيما نحن السوريون الذين حكمتهم الأحذية العسكرية التي تقوم على عقيدة سحق المنافسين وتغريبهم, حتى أن معظم رجالات سوريا الكبار ماتوا في المنافي وحرموا من ضريح صغير في ارض الوطن بتوجيهات صارمة من حافظ الاسد. أما بيروت فظلت في ظلال حداثتها وديموقراطيتها الاستثنائية مثابة للتعدد والتنوع والتلاقح ومنارة للحرية الفكرية والسياسية ومنبرا لكل صاحب رسالة.
بالنسبة لي كسوري وعربي عشت في بيروت فترة ذهبية من حياتي واستلهمت الكثير من (حضارتها) ولا زالت بصماتها مطبوعة على روحي فقد تابعت أخبار تكريم منح الصلح على مدى أسابيع بسرور فانتابني احساس بيقظة روح وعودة ذكريات متوهجة لم يطفئها الزمن المغبر والصدأ الكالح الذي اخفى كثيرا من معالم عاصمة الثقافة العربية الحديثة.
منح الصلح ليس مفكرا ولا اديبا لبنانيا أو بيروتيا وحسب, بل هو علامة فارقة من علامات بيروت. انه مزقة من كبدها وروحها الحية المتقدة يحمل جيناتها كافة: الابداع والجمال والتحضر والتسامح. والأهم إنه يحمل في ملامحه وجه بيروت العربي, ويحمل عقل لبنان المنفتح على حضارة العالم العصرية, إلى درجة أنه يمكن القول بثقة إنه ما من مفكر آخر يفوقه في استيعاب هذه الخصائص الفريدة مجتمعة, ولا عجب في ذلك لأنه سليل العائلة (الصلحية) العريقة وأحد أكثر رموزها ذكاء وأصالة وعمقا.

الراحل منح الصلح

مفكر كلاسيكي من طراز رفيع رغم ندرة التدوين في مأثوره, مثقف ينتمي لمدرسة الانتماء والالتزام التي سادت ما بين الخمسينات والثمانينات, أديب يمتلك أدوات الابتكار والتذوق وخاصة الفطنة وسرعة البديهة والحس النقدي, وملكة السخرية الحادة التي لا ترحم ولكن بلا ابتذال أو اسفاف بل محببة دائما. معتدل وهادىء ورصين ومستمع صبور ومتحدث لبق, افكاره مرتبة ومنطقية دائما, متواضع بنبل. وربما كانت هذه السجايا والخصال العظيمة هي الموانع التي حالت دون أن يتبوأ منصبا سياسيا بارزا كبقية أسرته, وخاصة ابوه عادل الذي كان محافظا لبيروت, وعمه تقي بيك أحد أبرز رؤساء الحكومة وكذلك رشيد الصلح.
شخصية منح كانت في المقام الأول شخصية مثقف ومفكر عصية على القوالب ومتمردة على الوظائف, ولذلك فشل في أن يتمسك بمنصبه في القصر الجمهوري في أثناء عهد الرئيس الجنرال فؤاد شهاب, وكان يسرب للصحف مسبقا ما ستتضمنه خطابات رئيس الجمهورية لاحقا, بحكم دوره ككاتب لخطاباته, وكان ذلك يسبب احراجات للرئيس وله ولكن دون أن يأبه بعواقب ذلك. ومع أنه كان أحد منظري الشهابية في لبنان, إلا أنه كان من أبرز نقادها وخصومها لاحقا, مما يبرز غلبة الطبيعة الفكرية والنقدية في شخصيته على التطبع الطارىء كصاحب منصب اداري أو سياسي.
ولكن منح الصلح ظل منذ أول يوم في مسيرته الناضجة ولا يزال حتى الساعة مؤمنا بالعروبة ايمانا عقائديا عميقا وانتماء تاريخيا وهوية ثابتة, لا لشخصه واسرته, بل لبيروت ولبنان الذي كان رياض الصلح الركن الركين في بنائه واستقراره وتحديد موقعه ودوره ضمن العالم العربي. ورغم هذا الانتماء لم يبتذل العروبة ولا ابتذل دوره كوريث لعائلته العريقة, وخاصة في حقبة الهيمنة العسكرية السورية على لبنان أو فترة هيمنة منظمة التحرير الفلسطينية على بيروت, ظل مترفعا ومحافظا على مكانته الرفيعة ولم يتسول على أبواب السوريين أو الفلسطينيين في ذروة هيمنتهم.
منح الصلح الذي ولد في 30 كانون الاول/ ديسمبر عام 1927 يبلغ اليوم 87 سنة, (توفي في 10 تشرين الاول 2014) وهو أرذل العمر, لكنه ما يزال يعي كل شيء يتابع ما يجري من حوله صامتا ومراقبا, وكان حتى سنوات قليلة يشارك في نشاطات بيروت المتنوعة, وندعو الله أن يحفظه ويمد في عمره.
عرفناه في هذه المجلة (الشراع) مع بداية تأسيسها عام 1982, كان يزورنا اسبوعيا ويقضي ساعات معنا, وقد أسهم في ترسيخ هويتها العربية, كانت له صفحة ننشر له فيها مقالا موقعا باسم مستعار, وهي عادته دائما, وكنا نأنس بجلساته, ونتعلم من ملاحظاته المهنية والفكرية التي يطلقها ببساطة ودون تعال. وكنا نعلم أنه يزور معظم الصحف والمجلات الاخرى وكأنه مشرف عليها كافة, ويحرص على صداقاته مع جميع المثقفين والكتاب من كل التيارات والفئات. وكانت افكاره وتعليقاته دائما تتداول لما لها من نكهة خاصة وجاذبية.
رجل كلاسيكي يمثل رجالات لبنان وزعمائها في عصر كمال جنبلاط وكميل شمعون وفؤاد شهاب وتقي الدين الصلح وصائب سلام وأحمد الاسعد.. إلخ. يتصرف كأنه الولي الشرعي لبيروت وحامل مفاتيحها وأختامها والمؤتمن على رسالتها. يتصرف بهذا النحو بلا ادعاء ولا تبجح, بل بحس عال من المسؤولية تجاه المدينة التي التصق بها إلى حد أنها جلده الذي يكسوه أو رئته التي يتنفس بها.
أتذكر بهذه المناسبة أنني زرته في بيته أثناء حصار “اسرائيل” لبيروت عام 1982، لإجراء مقابلة معه, وكانت الحياة في بيروت حينها قاسية جدا بسبب الحصار والعدوان الوحشي لشارون مما أجبر ثمانين في المائة من سكانها, ناهيك عن قادتها وزعمائها لمغادرتها, فسألته: يا منح بيك لماذا لم تخرج من بيروت كما فعل الآخرون..؟ فنظر الي وصوب عينيه في عيني وقال بهدوء وصوت حزين: هذا السؤال لا يوجه لي.. ليس انا من يترك بيروت في هذه المحنة, ولا يحق لي أن أفعل هذا.
بيروت التي لم يتركها منح الصلح في أصعب واقسى ايامها, هي نفسها بيروت التي تجتمع على تكريمه الآن وهو في أصعب أيامه!
ما أعظمك يا بيروت.. كبيرة كنت, وكبيرة ما زلت, وكبيرة تبقين.

نشر هذا المقال في “مجلة الشراع” اللبنانية في 27-6-2024.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى