ثلاثة أيام في مصر../ الجزء (1)
خاص “المدارنت”..
ينشر موقع “المدارنت” اليوم، أولى حلقات سلسلة: “ثلاثة أيام في مصر”، لإبن بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي، الطبيب اللبناني المقيم في البرازيل، د. بلال رامز بكري، والتي يختصر فيها مشاهداته، ووقائع رحلته الى أرض الكنانة/ مصر، والأحداث التي رافقته في هذه الرحلة السياحية السريعة، بخاصة، وأنها المرة الأولى التي يزور فيها الكاتب هذا البلد العربي العريق، بهدف التعرّف على آثاره، وبعض مناطقه.
يقول الكاتب د. بكري:
“بعد رحلة شاقة جوًّا من مدينة ساو باولو إلى مدينة الدوحة، دامت خمس عشرة ساعة، وبعد انتظار بضعة ساعات في مطار العاصمة القطرية، آن أوان الصعود إلى الطائرة التي أخذتني إلى القاهرة المحروسة لأول مرة في حياتي.
جلستُ في المكان المحدد لي، بجانب أحد أبواب الطائرة، ولم يكن بجانبي إلا مقعد واحد سرعان ما ملأه رجل سمين ضخم الجثة في العقد السادس من العمر، تشي ملامحه باللطف والطيبة ممزوجين بشيء من الدهاء. وما إن جلس الرجل البدين بجانبي، حتى سمعنا صراخا في المقاعد الأمامية. ذهب رفيق رحلتي للتثبت مما يحصل وعاد بالخبر اليقين: إنه عراك بين شاب مصري وراكب آخر من جنسية لا أعرفها لسبب تافه. بعد بضعة دقائق من الصراخ والأخذ والجذب، تم إحتواء الإشكال، فتنفس الركاب الصعداء.
كان لا يزال العراك في احتدامه عندما مر بمحاذاتي مراهقان ومعهما امرأة في منتصف العمر. الفتى الأكبر كان ينادي المرأة باسمها “يا هدى”. أما الفتى الأصغر فسمعته ينادي المرأة ب”ماما”. إلتبس عليّ الأمر بادئ الرأي، لكنني ما لبثت أن تيقنت أن المرأة إنما هي والدة المراهقين، وأن الكبير بينهما قد رفع الكلفة بينه وبين والدته لدرجة أن يناديها باسمها حاف، دون ما يشير إلى توقير أو إجلال. الثلاثة كانوا يتكلمون بلهجة مصرية قاهرية لا غبار عليها.
وأخذ الركاب في الصعود الى الطائرة الواحد بعد الآخر، وراح كل منهم يأخذ مكانه في المقعد المخصص له. في لحظة معينة مرت بمحاذاتي امرأة منقبة ترتدي خمارا أسود، وسألت بصوت عالٍ لدى مرورها.
بمحاذاتي: “هل هذه طائرة؟”، فأجبت ساخرا ومندهشا:” بل هذا صاروخ”، ثم تبعها رجل خمسيني بلباس عربي تقليدي قائلا بلهجة خليجية ظاهرة: ” هذه أول مرة نركب الطائرة، وإنا لذاهبون إلى مصر الحبيبة”.
لم تكن تلك المرة الأولى التي أركب فيها الطائرة، بل كانت مرة من مرات كثيرة لا أملك لها حصرا ولا عدا، أولها كانت عندما كنت جنينا في بطن أمي ومن ثم في سن الخامسة، وبعد ذلك كرّت السبحة قسرا ورغبة وبحكم ظروف عمل ودراسة وغير ذلك. لكن كلمة “مصر الحبيبة”، التي تفوّه بها الكهل الخليجي، وقعت مني موقعا حميما، فرغم أني كنت أذهب إلى مصر لأول مرة في حياتي فإن حب أرض الكنانة كان قد ملأ مني الشغاف منذ نعومة أظافري.
كنتُ قد خشيتُ أن تتأخر الطائرة عن موعد إقلاعها بسبب الشجار الذي حصل بين الراكبين في مقدّمة الطائرة. لكن طاقم الطائرة عرف كيف يحتوي الإشكال بشكل حكيمٍ، ونقل أحد الراكبين من مكانه بجوار خصمه إلى مكان بعيد في مؤخرة الطائرة. وهكذا تسنى للطائرة أن تقلع في موعدها المسائي بغير تأخير يذكر. ما لفت انتباهي في طاقم المضيفين والمضيفات أنهم كانوا من جنسيات غير عربية، وأن اللغة السائدة على متن هذه الرحلة بين عاصمتين عربيتين هي الإنكليزية.
تقدّمت إحدى المضيفات من جاري في الرحلة ووجّهت له بعض الأسئلة باللغة الانكليزية فحواها إن كان راضيًا عن الرحلة، وإن كانت كل أموره تماما، وعما إذا كان يريد تناول طعام العشاء حين تقديمه أو لا. أجابها الرجل أن كل أموره تمام وأنه على الأرجح لن يتناول طعام العشاء وسيكتفي بالحلوى العقبية لأنه كان قد تعشّى في مطار الدوحة. هنا فكّرتُ في نفسي ووصلت إلى قناعة مفادها أن رفيق رحلتي هذا لن يرفض طعام العشاء حين يحين موعد تقديمه، وذلك أخذًا لبدانته بعين الاعتبار. وقلت في نفسي فلننتظر تقديم وجبة العشاء لنتأكد إن كان صادقا أو كاذبًا. وإنصرفت المضيفة بتهذيبها الجمّ. ولعلّ رفيق رحلتي لاحظ على وجهي أمارات الاستغراب والدهشة من الإهتمام الخاصّ الذي حصل عليه دون غيره من ركاب الدرجة الاقتصادية، فتطوّع من تلقاء نفسه لشرح الأمر لي، دون أن يكون قد صدر مني أي كلمة في هذا الشأن.
وانبرى يشرح لي بلهجته المصرية القاهرية عن هذا الإهتمام الخاص الذي حظي به. قال لي أنه بحكم عمله في دولة قطر فإنه زبون دائم ودوري في هذه الرحلة، بحيث يتنقل بشكل كثيف بين مقر عمله في قطر.
وبين وطنه مصر. وتقديرا لكونه زبونا دائما، فإن شركة الطيران تميزه بهذه المعاملة الخاصة. هنا لم أبح له عن شكوكي بشأن رفضه المبدئي لطعام العشاء، وكتمت هذا الأمر في نفسي.
وأخذ الحديث يتطور ويتشعّب. فقال لي جاري أنه يعمل مستشارا قانونيا في إحدى الشركات في دولة قطر، منذ ما يقارب العقد من الزمن، وإنه قبل ذلك قد عمل في دولة خليجية أخرى. وأن بداية حياته المهنية كانت في وطنه مصر حيث عمل محاميا لمدة، قبل أن ينتقل إلى الخليج العربي بشكل دائم. وأنه بشكل عام راضٍ عن العمل في الخليج، حيث تتوفر له فرص العيش الكريم والبحبوحة له ولأفراد أسرته.
إسترسلنا في الحديث بأريحية واحتلّ موضوعان الصدارة في حوارنا: الأول كان اللغة العربية في عصرنا هذا، والثاني كان الشأن السياسي في الوطن العربي. قال محاوري أنه في الخليج، في عمله، أحيانا يكون في اجتماع كل أفراده من العرب من عدة بلدان، وكلهم يتقنون العربية، ومع ذلك فإن لغة الاجتماع تكون الانكليزية ولا تكاد تُسمَع أي كلمة عربية. بل أكثر من ذلك، أخبرني أن العقود والاستشارات القانونية كلها اليوم باللغة الانكليزية، وأنه عندما حاول هو شخصيا ذات مرة التذكير بضرورة وجود نسخة عربية عن العقود والاستشارات، بحسب الدستور المعمول به في دولة قطر، فإن محاولته هذه باءت بالفشل، وتمّ الاكتفاء بالنسخة الانكليزية. أخبرني أيضا أن اولاده الشباب يتحادثون مع زملائهم وأصدقائهم باللغة الانكليزية رغم إتقانهم للغة العربية. ومما افتخر به محدّثي حفاظ المصريين على اللغة العربية رغم محاولات الاستعمار والامبريالية لضرب الهوية العربية والإسلامية في مصر.
ومن ثمّ عرّجنا في حوارنا على السياسة في المنطقة العربية. أبدى رفيق رحلتي أسفه لفشل ثورة 25 يناير في مصر، وأنحى باللائمة على الإخوان المسلمين الذين فشلوا برأيه في الحفاظ على مكتسبات الثورة، وأتاحوا المجال للعسكر للعودة بشكل دموي واستبدادي إلى الحكم.
وفي حديثنا عن الصراع العربي/ “الاسرائيلي”، قال لي أنه يأسف لخوض منظمة حماس في أوحال السياسة، وأنه كان من الأنظف والأنقى لها الاستمرار كمقاومة بحت. ونفس الكلام قاله عن حزب الله في لبنان. فقال لي أن حسن نصر الله كان يحظى بشعبية كبيرة في كل البلدان العربية عندما كان ينتهج المقاومة. أما اليوم فإن قناعه قد سقط، وحقيقته قد تعرّت أمام كل الجماهير العربية. وفي سياق الحديث بدر مني تعليق يشيد بقوة الجيش المصري، فسألني هل تدري لماذا هذه الميزة في الجيش المصري من دون باقي الجيوش العربية؟ فأجبت بالنفي. هنا جزم أن الأمر يعود إلى التجانس واللحمة في صفوف الجيش المصري الذي لا يميز بين مسلم وقبطي، وفي شعور المواطن المصري الذي يضع انتماءه الوطني فوق أي انتماء طائفي.
كان الحديث في أوجه عندما حان موعد تقديم طعام العشاء. طلبت طبقي من المضيفة بعد سؤالها عما أريد من طعام. لم تسأل جاري لأنه كان قد حسم أمره بحسب ما ذكرتُ آنفًا، وقدمت له صينية تقتصر على الحلوى والماء. وهنا حصل ما كنت قد توقعته، فالرجل طلب من المضيفة طبقا للعشاء! فصدق حدسي ووصل الحديث المتشعب الى نهايته إفساحا في المجال لتناول وجبة العشاء التي التهمناها بسرعة المسافرين المتعبين الجائعين.
بعد تقديم العشاء، عدنا أنا ورفيق رحلتي إلى دردشتنا الممتعة التي كان لها دور فعّال في تزجية الوقت. سألته عن الأزهر الشريف ودور المشايخ والعلماء في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر والأمة الإسلامية. فكان فحوى جوابه أن جلّ المشايخ والعلماء في هذه الأيام لا يقدّمون شيئا يذكر للأمة، وأن الربيع العربي وما تلاه من أحداث أسقط الكثير من الأقنعة. وأسف رفيقي، وأسفت معه، لكون الأزهر الشريف اليوم مؤسسة عاجزة عن إحداث أي فرق حقيقي لصالح المسلمين. وهنا أقول أن تماهي هذه المؤسسة الدينية العريقة مع الأوضاع المتردّية في مصر يرخي بظلاله الوخيمة على سائر الأقطار الإسلامية في العالم برمته.
قال لي رفيق رحلتي، الذي عرفت أن اسمه “منتصر”، أنه كثير السفر بحكم عمله وقد عرف الكثير من البلدان العربية والأجنبية ومن بينها لبنان. إلا أن ظروف العمل لا تسمح له كثيرا بالتجوّل السياحي في البلدان التي يزورها. وللوهلة الأولى ظن أن لهجتي تختلف عن لهجة اللبنانيين بشكل عام. خمّنت أن المسحة البقاعية في لهجتي ربما أظهرت لسمعه اختلافا عن لهجة اللبنانيين الذين يتعامل معهم في الخليج او في سفراته الى لبنان. واستطرد منتصر قائلا أن إحدى الملاحظات التي لاحظها في ترحاله أن العالم يتجه نحو تشابه متصاعد في كل شيء، من المأكولات والمشروبات الى الملبوسات ونمط الحياة بشكل عام. وأن الخصوصيات المحلية والإقليمية ذاهبة إلى انقراض.
هنا توقفنا عن الحديث بعد أن اقتربت الطائرة من موعد هبوطها في مطار القاهرة الدولي. كان الظلام دامسًا في تلك الليلة الليلاء من ليالي شهر تموز/يوليو الحارة في المشرق العربي. لكن النور كان يملأ صدري بالفرحة المرتجاة والمتوقعة بالتعرف على مصر العزيزة لأول مرة في
حياتي. كنت أشعر بالألفة على متن هذه الرحلة، ولا أشعر أبدا أنني ذاهب إلى بلد غريب. كنت أشعر بوحدة الهوية الدينية والقومية مع الركاب الذين كانوا بمعظمهم من المصريين.
قبل هبوط الطائرة بزهاء ربع ساعة أو ثلث ساعة بالكثير، أصدر طاقم الملاحة الجوية تعليماته المشددة للركاب بضرورة لزوم مقاعدهم وربط أحزمتهم. في هذه الأثناء يقع بصري على سيدة مصرية، بحجابها الكامل دون نقاب، في العقد السابع من العمر تقترب من مقعدي الذي يجاور أحد أبواب الطائرة ومراحيضها وتطلب من المضيفة بلغة الإشارات أن تأذن لها باستخدام المرحاض. ترفض المضيفة طلبها بصرامة وتشير إليها بأن تعود إلى مقعدها.
ترسل السيدة نظرات الاستعطاف لكن دون جدوى. تتوجّه السيدة بلهجتها المصرية إليّ وتطلب مني أن أترجم للمضيفة بالانكليزية أنها محقونة جدا وتعاني من أمراض عدة من بينها السكري، ولذلك فلا مناص لها من استخدام المرحاض. ألبّي طلب السيدة. فترفض المضيفة طلبي. فأتوجه للسيدة قائلا أن التعليمات صارمة ولا بد من رجوعها إلى مقعدها. هنا تتدخل هدى، والدة المراهقين، والتي كانت تجلس في أحد المقاعد التي تقع خلفي. تتوجه هدى للسيدة برقة وتهذيب بالغين، وتناديها بـ”يا ماما”، متوسلة إليها أن تتحمل قليلا إلى حين هبوط الطائرة.
وقد عجبت كيف توجهت إليّ السيدة المصرية المسنة بلهجتها المصرية بثقة يملأها اليقين من أنني من المتحدثين باللغة العربية. ربما أوحت لها ملامحي بأنني عربي الهوية رغم اغترابي الطويل. ثم تعجبت أكثر ليقينها بأنني أتقن الانكليزية ولهذا طلبت مني أن أترجم توسلاتها من العربية الى الانكليزية للمضيفة الصارمة. والعجيب أن شركة الطيران عربية، والرحلة بين عاصمتين عربيتين، ومع ذلك فإن الأجانب هم من يقودون الطائرة ويتولون شؤون ركابها العرب بغالبيتهم. لماذا لا تعطي الشركات العربية الأولوية لتوظيف المواطنين العرب؟ حتى في الحاسوب الخاص بتسلية الركاب، والذي يضم أفلام وأغاني وكتب، بحثت عن أي كتاب عربي لأسمعه لتزجية الوقت، فلم أجد إلا كتبا باللغة الانكليزية.
لكن كل محاولات السيدة المذكورة ذهبت سدى. لا المضيفة تأذن للسيدة المسنة بالدخول إلى المرحاض. ولا السيدة المسنة تعود أدراجها إلى مقعدها. تصل هذه الأزمة إلى نهايتها بهبوط طائرتنا في مطار القاهرة الدولي. هنا انشغلت كما باقي المسافرين بنفسي وأمتعتي، مستعدا للنزول من الطائرة، ولم أُعِرْ أمر هذه السيدة أي اهتمام بعد ذلك. ولا أدري إن كان قد أتيح لها استخدام المرحاض أو لا…”.
(يتبع)