ثلاثة أيام في مصر../ الجزء (11) والأخير!
خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة الحادية عشر والأخيرة من سلسلة: “ثلاثة أيام في مصر”، لإبن بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي، الطبيب اللبناني المقيم في البرازيل، د. بلال رامز بكري، والتي يختصر فيها مشاهداته، ووقائع رحلته الى أرض الكنانة/ مصر، والأحداث التي رافقته في هذه الرحلة السياحية السريعة، بخاصة، وأنها المرّة الأولى التي يزور فيها الكاتب هذا البلد العربي العريق، بهدف التعرّف على آثاره، وبعض مناطقه.
كتب د. بلال بكري:
برج القاهرة
وصلت إلى ميدان سعد زغلول في جزيرة الزمالك، قادما من الضفة الشرقية لنهر النيل عبر كوبري الخديو إسماعيل (وهو الإسم الذي قرأته على لافتة أسفل أحد الأسدين عند مباشرتي عبور الكوبري) أو ما يعرف اليوم بالإسم الشهير كوبري قصر النيل. من ميدان سعد زغلول انعطفت يمينا إلى شارع كثير الأشجار والخضرة باتجاه شارع آخر متفرع من هذا الشارع يسارا. في هذا الشارع الأخير تزداد الخضرة والأشجار تؤلف شيئا يشبه الغابة وتشيع جوا من السكينة والابتهاج. وكانت حركة الحناطير (مفردها حنطور وهي عربة يجرها حصان) جيئة وذهابا ملحوظة. لكنني آثرت السير على قدمي حتى الوصـول إلى مدخـل برج القـاهـرة.
فور دخولي وقفت في طابور طويل لشراء تذكرة الدخول. كان الوقت يقترب من المغرب، وكنت أمنّي النفس أن أستطيع الوصول إلى قمة البرج قبل الأصيل. لكن الانتظار الطويل في الطابور قد أجهض هذه الأمنية ولم يبقَ أمامي إلا الاكتفاء بالرؤية الليلية من أعلى البرج المطل على القاهرة المحروسة والكاشف لأبرز معالمها. علمت أن تعرفة الدخول هنا هي أربعمائة جنيه مصري لغير المصريين ومائة جنيه للمصريين.
وهذا بخلاف باقي المعالم السياحية البارزة حيث يساوى سائر العرب بالمصريين في المراعاة بالتعرفة. ولسبب أجهله، فإن برج القاهرة يشذّ عن هذه القاعدة ولا يراعي في السعر إلا المواطن المصري. هنا تقبل العملة الورقية لحسن حظي، ولا فرض لحصر التعامل بالبطاقات المصرفية. بعد انتظار في الطابور قارب النصف ساعة، أخيرا حصلت على تذكرة الدخول. لكن الأفق كان قد اصطبغ بالشفق الوردي، والسماء أصبحت حمراء، مما يعني أن احتمال صعودي قبل المغيب قد أخذ يتضـاءل حتى تلاشـى كليـا.
فالانتظار للصعود إلى أعلى البرج كان أنكى من الانتظار في طابور شراء التذاكر. فلكل تذكرة رقمها الخاص. وكان هناك لوحة إلكترونية تنظّم عملية دخول الأشخاص الى المصعد. فلا يستدعى إلا هؤلاء الذين يظهر اسمهم على اللوحة الالكترونية. وبحسب رقم تذكرتي، فإن مدة انتظاري كانت طويلة إذ أن عشرات من الأشخاص كانوا أمامي ينتظرون دورهم. وكان الاكتظاظ في هذا المعلم السياحي بمكان بحيث لم يعد هناك مقعد شاغر في المقهى الذي يخدم زوار البرج، مما اضطرني للجلوس على أحد الحيطان المنخفضة الارتفاع والمحيطة بالسلالم المؤدية إلى مصعد البرج. ورحت أنتظر دوري، وقد طال الانتظار حتى بلغ ساعة كاملة ربما. وأخيرا جاء دوري للصعود في المصعد.
أثناء انتظار الصعود، وجدت أخيرًا مقعدًا شاغرًا في المقهى أجلس عليه. وكنت قبل ذلك قد صليت المغرب جماعة في مصلّى البرج مع بضعة رجال، يبدو من لهجتهم أنهم خليجيون. ورحت أتشاغل تارة بالهاتف بعد أن دخلت الأنترنت بواسطة تشغيل “واي فاي” المقهى، وطورا أتشاغل بالتجوّل في حديقة البرج، ريثما تتكرم عليّ اللوحة الإلكترونية بطلب رقمي.
وخلال تجولي في الحديقة رأيت لافتات مثبتة على الأرض على شكل ألواح مكتوب عليها نبذة عن البرج. الملفت أن كل هذه اللافتات كانت باللغة الانكليزية، مع غياب كامل للغة العربية. لكن ما علينا. فالتمعّن في القراءة أظهر لي خطأ من نفس فصيلة أخطاء المتحف الحربي في القلعة. تتحدث اللافتة أن البرج شيّد في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ودُشِّنَ في العام 1961. وحين ذكر المهندس العبقري الذي صمّم هذا البرج، فإن اللافتة نفسها قد كتبت حروف اسمه بشكل معيّن في أعلى اللافتة، وفي الأسفل عند ذكر اسم المهندس ثانية، فإن ترتيب الحروف كان قد تغيّر! إسم المهندس نعوم شبيب، وهو من أصول شامية كما قرأت عنه على الشبكة العنكبوتية، بالإضافة إلى كونه مسيحيًا كاثوليكيا.
تذكر المصادر المتنوعة على الشبكة العنكبوتية أن المهندس نعوم شبيب قد صمم هذا البرج على شكل زهرة اللوتس المصرية. وقد شُيِّد البرج بأمر من الرئيس جمال عبد الناصر ليكون رمزا للإنسان المصري الحديث، وكمشروع لتشجيع وتنشيط السياحة في وادي النيل. ويقدّر ارتفاعه بمائة وتسعة وثمانين مترا، ووفق المصادر فإن التمويل كان من هبةٍ منحتها الخزينة الأميركية للحكومة الناصرية الناشئة. وقد شُيّد في الجزء الجنوبي من جزيرة الزمالك. على أنني لم أعلم بوجود هذا البرج، إلًا منذ بضع سنوات، حين قرأت على وسائل التواصل الاجتماعي نبأ مفجعًا عن انتحار أحد الشبّان المصريين بالقفز من أعلى هذا البرج.
وأخيرا جاءت اللوحة الإلكترونية بالفرج، وطُلِب رقمي للتوجه نحو المصعد. ولكنه لسوء الحظ لم يكن الانتظار الأخير. فالأرقام المستدعاة تنتظر في ردهة على مقاعد جلدية مدة ربما كانت ربع ساعة أو ثلثها حتى يحين موعد الصعود. ولا ريب أن اكتظاظ يوم الإجازة قد أدى إلى مدة انتظار أطول. وفي أثناء الانتظار تعرفت إلى شاب سعودي وتجاذبنا أطراف الحديث. علمت منه أنه يجيء للمرة الأولى إلى مصر بغية السياحة. وأنه قد أتى هذه المرة وحيدا للاستكشاف، على أن يأتي في المرة القادمة بعائلته، بعد أن نالت مصر إعجابه واستحسانه.
وقد فاجأني هذا الشاب الثلاثيني بملاحظة وجهها لي. عندما سألني عن جنسيتي وأجبته بأنني لبناني، فاجأني بأنه جزم أنني مقيم في الخارج، وليس في أي دولة عربية. لا أنكر أن صدق فراسته قد أذهلني. أما كيف وصل الى استنتاجه هذا، فلا تسلني أيها القارئ الكريم، فها أنت تقرأ سطوري ولك أن تحكم على عربيّتي (لغته العربية)، وأما النطق فإنني حريص على اللسان العربي، ومحب له، ولا أظن أن الغربة الطويلة قد صبغته بشيء من العجمة والكسر، بل أحسب أنني ازددت عروبة لسان طوال كل سنين الغربة التي تجاوزت الربع قرن من الزمن.
وازدحمنا في مقصورة المصعد بعد أن نودي علينا. وهي مقصورة واحدة ووحيدة ولا تستوعب إلا عددا قليلا من الاشخاص، مما يعني أنها غير كافية لهذه الأعداد الكبيرة من الزائرين، وهذا ما فسّر الازدحام وطول الانتظار في الطوابير. وما هي إلا بضع عشرات من الثواني، بأقل من دقيقة على الأرجح، حتى وصلنا إلى القمة المبتغاة المرتجاة المشتهاة. كان الظلام قد خيّم والنهار قد ولّانا ظهره، ولذلك فمنظر المغيب من أعلى البرج صار متعذّرا شأنه في ذلك شأن رؤية القاهرة نهارا.
لكن المنظر من علِ ليلا كان بهيا ورائعا ومهيبا. فظهر بوضوح فرعا النيل اللذان يعانقان جزيرة الزمالك حيث يقع هذا البرج. وهناك في العمق، على الضفة الشرقية، استطعت التعرف على القلعة بسبب قباب ومآذن جامع محمد علي. وكان النسيم الليلي العليل يضفي مسحة من الحنو والألفة والتحنان على هذا العلو الشاهق. أعترف أنني لم أجد في نفسي رغبة لمشاهدة القاهرة عبر المناظير الموجودة هناك. فالرؤية الليلية ليست كالرؤية النهارية، وفي الليلة الليلاء ذات السماء الصافية يكفي النظر بالعين المجردة.
بعد جولة على قمة البرج الدائرية، شعرت انني أريد الجلوس في المقهى في الطابق السفلي الواقع مباشرة أسفل القمة. وحين نزلت الى حيث المقهى، جوبهت بالرفض من قبل القيمين الذين واجهوني بكلمة: “حضرتك حجزت؟” فأجبت بالنفي واستنكار أن أحدا لم يعلمنا بضرورة الحجز حين شراء التذاكر. وعلى كل حال فما كان هذا المقهى المطعم ليستوعب هذه الأعداد الهائلة من الزائرين. ولعل الحجز ما كان ليكون متوفرا في ما لو حاولت. لذلك فعدت الى أعلى البرج ثانية وقمت بجولة أخرى وأخرى حتى اشتهيت النزول. وحين هممت بذلك تفاجأت أن طابورا آخر بانتظاري، وهذا لم يكن في الحسبان أيضا، وهو طابور النزول!
أعترف أنني تململت وأصابني السأم حين علمت أن وقوفا جديدا في طابور آخر كان الطريقة الوحيدة للعودة إلى الأسفل. وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة ليلا، وفي صبيحة اليوم التالي يجب أن أكون قبل الساعة الثامنة في مطار القاهرة الدولي. لكن أمري لله، فلا مناص من الانتظار. ووقفت في طابور النزول الذي كان يسير بسرعة السلحفاة بل أبطأ. وكان من حسن حظي أن الواقفين أمامي في الطابور هم أفراد أسرة مصرية مؤلفة من رب الأسرة وزوجته، والاثنين في ثلاثينياتهما، ومن طفليهما اليافعين وهما ولد وبنت. فرحت أستمع لحوارات الأسرة ولأسئلة الأطفال الذكية.
وكانت هذه خير وسيلة متاحة للتسلية في أثناء الانتظار المضجر. وقد لفتني سؤال الولد لوالديه عن سر تسمية نهر النيل بهذا الإسم، فلم يجدا جوابا، فوجدت أنني لا أعرف أيضا. ولفتني أيضا تطعيم حوارات الأسرة بعبارات كاملة من اللغة الانكليزية. فالارقام يلفظونها بالانكليزية وبعض العبارات كذلك. وهكذا فإن الغزو الثقافي الغربي لمصر والأمتين العربية والإسلامية قد بلغ أعلى برج القاهرة. وفي هذا موعظة وتنبيه وتذكرة! ولا يمكن أن يكون أمر كهذا مجرد ملاحظة عابرة أو كلام لا قيمة له. إنه الغزو الثقافي وما أدراك ما الغزو الثقافي. وفي الأسفل اللافتات السياحية الرسمية عن البرج باللغة الانكليزية حصرا. وهذه هي مصر العروبة في الألفية الثالثة بعد الميلاد.
ولم تجدِ نفعا تأففات هذه الأسرة المصرية وتعب أفرادها في تقصير مدة الانتظار. فطال انتظارنا للنزول ربما بنفس قدر انتظارنا للصعود. وهذا ما أدّى إلى شجار أحد الزوار المصريين مع أحد القيّمين على البرج. إذ أن هذا الزائر قد اتهم إدارة البرج بسوء التنظيم وبالفوضى، وهو ما أوافقه عليه وإن كنت آثرت أن أظل بمنأى عن أي شكوى، فما أجمل أن يعدّي المرء الليلة على خير، كما يقول إخواننا المصريون، بخاصة إن كان هذا المرء وحيدا ومتعبا ومنتظرا للسفر في غضون ساعات. لكن كل آت قريب، والفرج أخيرا جاء بوصولنا سالمين غانمين إلى أرض جزيرة الزمالك. عدت سيرا على قدمي الى ميدان سعد زغلول، وقد استمتعت بالمشي ليلا في أجواء هذه الجزيرة النيلية الجميلة المليئة بالمساحات الخضراء. وعلى جانب الميدان المحاذي للضفة وجدت سيارة أجرة مركونة بجانب الرصيف. وبعد مفاصلة في السعر، ركبت باتجاه فندق البارون في شارع العروبة في مصر الجديدة.
بهية
وصلت إلى فندق البارون في حوالي الساعة العاشرة في ليلتي الثالثة والأخيرة فيه. كانت رحلتي القصيرة إلى مصر قد وصلت إلى ختامها. ففي صبيحة اليوم التالي، في تمام الساعة السابعة، من المفترض أن تمرّ سيارة الشركة السياحية لتأخذني إلى المطار. كان موعد رحلتي إلى بيروت في تمام الساعة العاشرة والثلث صباحا. ولم يكن موعد الانطلاق الى المطار مبكرا، فهذا كان ضروريا لتفادي أي تأخير قد يحدث بسبب إجراءات المغادرة.
في اليوم التالي، استيقظت قبل الفجر، جهزت حقائبي وتركتها على أهبة الاستعداد في بهو الفندق، وتوجهت نحو مطعم الفندق لتناول إفطاري الأخير قبل مغادرة الأراضي المصرية. وصل نفس الرجلين اللذين استقبلاني على المطار لدى قدومي من ساو باولو، المرشد السياحي الفتى حسام ومعه السائق الكهل محمد. وانطلقنا نحو مطار القاهرة الدولي.
كانت صبيحة السبت، الواقع في الثاني والعشرين من تموز، وكان ضباب الصباح يلف الأرجاء. وما هي إلا نصف ساعة أو يزيد حتى كنا في مطار القاهرة الدولي. وبعد إجراءات تمت في نوع من اليسر والسلاسة، كنت على البوابة المخصصة للرحلة المتجهة إلى بيروت. وكان غيابي عن وطني لبنان قد طال لمدة ست سنوات هذه المرة. وكانت المرة السادسة التي سأزور فيها وطني في خلال زهاء ربع قرن من الاغتراب.
غادرت مصر ولكنها لم تغادرني، ومكثت فيها لمدة قصيرة، لكنها باقية فيّ، مقيمة في النفس والروح والمهجة. لم أرَ منها إلا عيّنة صغيرة، لكن الكبير قد تكثّف في الصغير، والكثير قد دلّ عليه القليل. ولا أجد وصفا أطلقه على مصر خيرا من ذلك الذي تغنى به بصوته الشجي الحزين الشيخ إمام في أغنية “مصر يمّه يا بهية”، من كلمات رفيق دربه الشاعر أحمد فؤاد نجم. فمصر بهية وهي أم ليس لأبنائها فقط، بل إن كل عربي ومسلم يشعر أنها تحتضنه وترحّب به. لكن بهاء مصر يشوبه ما يشوبه من الأسقام والأوجاع في هذه الأيام، ورغم إقامتي القصيرة فإنني لمست أن مصرَ ليست بخير، وأن أحوالها ليست على ما يرام، وأن شعبها يئنّ تحت وطأة الأزمات التي تحيط به من كل جانب. فالأزمة الاقتصادية تهدده في معيشته الكريمة وتهدد مستقبل أبنائه، وسد النهضة الذي تبنيه الحبشة على مجرى النيل جنوبا يهدد بتعطيش الأجيال القادمة من المصريين.
ولم يكن من مجال ألا أتذكر رواية “يوتوبيا” للمصري للأديب الطبيب المبدع أحمد خالد توفيق رحمه الله. فهذه الرواية على مأساويتها تظهر بشكل جليّ الفرز الطبقي الجاري في مصر على قدم وساق، وتدق نواقيس الخطر لفداحة تحول المجتمع المصري الى طبقتين لا ثالث لهما: طبقة المترفين الفاسقين وطبقة البائسين المعدمين الفقراء فقرا مدقعا، وفي هذا فساد هؤلاء وهؤلاء وتفسخ الدولة والمجتمع تفسخا لا علاج له.
وأتذكر أيضا رواية طبيب أديب آخر وهو علاء الأسواني، الذي كتب روايته “جمهورية كأن” كمحاولة لتحليل وقراءة فشل ثورة 25 يناير. في هذه الرواية ينتقد الأسواني تحالف المنظومة السياسية الأمنية مع المنظومة الرأسمالية المتغوّلة والمنظومة الدينية. هذه المنظومات الثلاث يتهمها أسواني بخطف ثورة يناير 2011 وبإعادة البلاد الى الاستبداد. غني عن الذكر دور الإعلام والصحافة في التعريص والتسحيج والترويج لتحالف هذه المنظومات الثلاث التي سحقت المصريين سحقا.
مصر البهية أم الدنيا، وأم العرب والمسلمين، تستحق أن تعيش بكرامة ويستحق شعبها أن ينعم بحياة كريمة لا يهدد فيها بلقمة عيشه ولا أمنه، ويستطيع أن يقول رأيه في الحياة السياسية وأن يشارك فيها، دون الخوف من الاعتقال والإعدام. مصر البهية متعبة. ومصر الأم تعاني من عقوق فادح. لكن البهاء سيعود إليها حتما. والبرّ سينتصر على العقوق يوما ما.
لا أقول وداعًا مصر، بل أقول شكرًا جزيلًا.. وإلى اللقاء!
============================= (إنتهى)