ثلاثة أيام في مصر../ الجزء (2)
خاص “المدارنت”..
ينشر موقع “المدارنت” اليوم، الحلقة الثانية من سلسلة: “ثلاثة أيام في مصر”، لإبن بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي، الطبيب اللبناني المقيم في البرازيل، د. بلال رامز بكري، والتي يختصر فيها مشاهداته، ووقائع رحلته الى أرض الكنانة/ مصر، والأحداث التي رافقته في هذه الرحلة السياحية السريعة، بخاصة، وأنها المرة الأولى التي يزور فيها الكاتب هذا البلد العربي العريق، بهدف التعرّف على آثاره، وبعض مناطقه.
في القاهرة
يتابع د. بكري، قائلًا: “أخيرًا وصلت الرحلة المنشودة إلى خاتمتها السعيدة بهبوط طائرتها سالمة في مطار القاهرة الدولي. ولئن كان الكثير من الركاب هم من العمال والموظفين المصريين في الخليج، والذين من المفترض أنهم قد اعتادوا على هذا الجسر الجوي بين وطنهم الأم ومواطن أرزاقهم، فإنني كنت سائحًا يترقبّ انقضاء هذه الليلة لكي يرى مصر المحروسة عيانًا بيانًا في وضح النهار للمرة الأولى في حياته التي دخلت في عقدها الخامس.
كانت شركة السفريات والسياحة التي سافرت عبرها من ساو باولو كانت قد أبلغتني أنه سيكون في مطار القاهرة الدولي من يستقبلني من قِبَلهم، وألا أقلق بشأن تأشيرة الدخول وبشأن توصيلي الى الفندق.
وبالفعل، بعد عبور بعض الممرات، وقبل المرور عبر الجمارك، وقعت عيناي على لافتة بالأحرف اللاتينية كُتبَ عليها السيد بلال بكري. كان يحمل اللافتة شاب في مقتبل العمر، ما لبث أن أقبل نحوي هاشًّا باشًّا فور إشارتي له بأنني أنا الشخص المكتوب اسمه على تلك اللافتة. بادر بمصافحتي واقترب مني شيئا ما، ولكنني حافظت على جسدي منتصبًا، وبردّة فعل تلقائية وجدتني أبتعد عن الفتى. لعله أراد المبالغة بالترحيب بي بالقبلات على الوجنتين، لكنني لم أفطن لهذا الأمر غير المعتاد في البرازيل، حيث أعيش منذ ما يزيد عن ربع قرن. عرفت أن الفتى اسمه حسام.
إصطحبني حسام الى المكان المخصص للحصول على تأشيرة الدخول، التي ألصقوها على إحدى صفحات جواز سفري البرازيلي الجديد الذي لم يسبق لي استعماله. وبعد ذلك توجهنا مباشرة الى طابور الجمارك الذي سار بسرعة. سألني رجل الجمارك الشاب عن جنسيتي الأصلية بعد قراءة اسمي العربي على جواز السفر البرازيلي. فقلت له إنني من لبنان. فأذن لي بالمرور، وختم جواز سفري بوجه يغلب عليه الوجوم.
ومن ثم انتقلنا إلى السِّير المخصص للحقائب. لم يكن حسام يعلم ما رقم السِّير الخاص بالأمتعة القادمة على متن رحلة الدوحة. استعلمنا من رجل يعمل في إحدى محلات المطار، فقال لنا أن نتوجه إلى السِّير رقم خمسة. وهكذا كان. كنت قد جلبت معي من ساو باولو حقيبتين من الحجم الكبير للشحن، وحقيبتين صغيرتين، احملهما معي في مقصورة الركاب في الطائرة.
في مطار الدوحة أخذ مني موظفو شركة الطيران إحدى حقيبتيّ اليد، وأودعوها مع الأمتعة المشحونة. لذلك ففي مطار القاهرة، كنت أنتظر حقيبتين سوداوين من الحجم الكبير، وحقيبة زرقاء من الحجم الصغير. وكان معي بيدي حقيبة يد للأوراق والملفات.
طال انتظاري للحقائب زهاء نصف ساعة، بدت كأنها الأبدية، وذلك بسبب الإرهاق الذي أصابني بعد أكثر من أربعة وعشرين ساعة ما بين انتظار في مطاريّ ساو باولو والدوحة، وبين طيران من البرازيل الى قطر فمصر.
كان بجوارنا كهل برفقته زوجته، علمت من كلامهما أنهما آتيان من البرازيل من ولاية ميناس جيرايس. تركت المرأة زوجها ينتظر الأمتعة برفقة مرشد سياحي مصري يتقن البرتغالية، وذهبت هي الى أحد المقاعد للجلوس من شدة التعب والإرهاق.
علمت من حسام أنه شاب أعزب قادم من إحدى قرى الصعيد، وقد جاء الى القاهرة، ليبدأ حياته في العاصمة المصرية. شكا لي من الغلاء الفاحش وأسرّ لي برغبته في السفر خارج البلاد هربًا من الضائقة المعيشية لو أتيحت له الفرصة.
كان هذا الفتى معي في منتهى التهذيب والدماثة. وحين وصلنا الى السيارة التي كانت تنتظرنا للذهاب الى الفندق، حيّيت السائق، الذي علمت أن اسمه محمد، وصعدت الى مقعدي. رحت أسأل حسام ومحمد عن ما تقع عليه عيناي في طريقنا الى فندق البارون في مصر الجديدة. وحين وصلنا الى شارع صلاح سالم قالا لي أن النزل الذي سيستضيفني يقع في شارع يتفرع من الشارع الطويل المسمى بإسم صلاح سالم.
بارون هندي أم أوروبي؟!
قال لي حسام أن إسم الفندق الذي سأنزل فيه، جاء نسبة إلى قصر البارون الواقع بجواره القريب المباشر، إذ أن شارعا فرعيا يفصل بينهما. وعندما سألته عن أصل وفصل هذا البارون وما الذي أتى به إلى مصر قال لي إنه بارون هندي كان يعاني من مرض ما وقدم الى مصر للاستشفاء والإستجمام، فأعجبته الإقامة بها، فابتنى بها هذا القصر واستقر على أراضيها. إستغربت رواية المرشد السياحي الشاب في ما يتعلق بالبارون المذكور، لكنني لم أشكك بها، فما لي علم من قريب أو بعيد بأي من بارونات أوروبا أو آسيا أو إفريقيا.
لم أقرأ في حياتي إلا عن بارون برازيلي شهير في عصر الملكية البرازيلية كان يدعى بارون دي ماوا، وهو شخصية بارزة في تاريخ الملكية البرازيلية في القرن التاسع عشر للميلاد. وقد كان له دور كبير في الاقتصاد البرازيلي في تلك الحقبة.
بعد أن توغّلنا في شارع صلاح سالم لمسافة ليست بالقصيرة، صرنا بمحاذاة قصر البارون الذي أشار إليه حسام فور محاذاتنا له. وكانت الإضاءة الليلية في تلك الليلة من ليالي تموز/يوليو الحارة تتيح رؤية هذا الأثر المعماري الفريد بشكل واضح. لون الطلاء الخارجي للقصر هو اللون البنفسجي الفاتح المشبّع بشيء من الزُّهرة. والطراز المعماري هو ذلك الطراز الهندي والجنوب شرق آسيوي. أناقة القصر تكمن في بساطته التي تنطوي على أبّهة حييةٍ خفورة.
إنعطفنا من شارع صلاح سالم إلى شارع العروبة، حيث وصلنا إلى فندق البارون الذي يبعد خطوات قليلة عن القصر الذي أعطاه اسمه. ساعدني حسام ومحمد في تنزيل الحقائب، التي مرّت إلزاميًا على جهاز المسح الذي يشرف عليه رجال الشرطة وأمن الدولة. وسرعان ما جاء الفرّاش الذي ساعدني بالصعود بحقائبي إلى الغرفة الخاصة بي، وذلك بعد أن أتممت إجراءات الدخول مع موظّف الاستقبال الذي أكد أن الحجز سليم وأن الإقامة مدفوعة سلفا لثلاث ليالٍ.
أخذني الفرّاش الأسواني الذي يدعى “الحارث” إلى غرفتي، وساعدني في أخذ الحقائب. وهو رجل أسمر خلاسي قوي البنية ربما في نهاية العقد الخامس من العمر أو بداية العقد السادس. بسمته توحي بالصدق والألفة وملامحه ملامح جدّ ووقار. التصنيف الذي وُضِع فيه الفندق على الشبكة العنكبوتية حين بحثت عنه في محرّك “غوغل” هو تصنيف أربعة نجوم. وفعلا فإن حالة الغرفة والهيئة العامة لهذا الفندق توحيان بأنه فندق يستحقّ هذا التصنيف العالي.
طلبت من موظّف الاستقبالات ان يوقظني في تمام الساعة الخامسة فجرا، إذ أنني كنت لا أريد أن تفوتني صلاة الفجر، وكنت أريد تناول طعام الإفطار في الفندق والاستحمام، قبل موعدي في تمام الساعة الثامنة مع موظفي إحدى شركات السياحة لمرافقتي في زيارة الأهرامات. وسرعان ما غططت في نوم عميق، مع الظن بأن ما أخبرني به حسام عن قصة البارون هو الحقيقة والصواب، رغم استغرابي للحكاية، فمن المتوقع ألا يخطئ المرشد السياحي في تفاصيل من المفترض أنه يعرفها عن ظهر قلب ويحفظ خباياها.
في فجر الخميس العشرين من تموز/يوليو 2023، استيقظت لأول مرة تحت سماء أرض الكنانة، وفوق أرض مصر الأمصار وإقليم الأقاليم وأم الدنيا بأسرها. وكان يظهر قصر البارون من نافذة غرفتي بوضوح. علمت في ذلك النهار أن قصة حسام بأسرها كانت مغلوطة. وأن البارون المذكور هو بارون بلجيكي أسس حي مصر الجديدة فوق الأراضي التي كانت تقع فيها هيليوبوليس (مدينة الشمس) الفرعونية البائدة ومعابدها. وأن الشيء الوحيد الذي له علاقة بالهند في حديث مرشدنا السياحي هو الطراز المعماري للقصر الذي بني في أوائل القرن العشرين. لسبب ما وقع اختيار النبيل البلجيكي على الطراز الهندي لبناء قصره الخاص.
المخابرات العامّة
كنت أرغب في التجوّل قليلا مشيًا على القدمين في شوارع المربّع المحيط بالفندق، لكي أستشعر شيئا من روح مدينة القاهرة. ولمّا أنني كنت وحيدا في رحلتي، آثرت الإطمئنان عن الأمان في ذلك الحي، واستعلمتُ من موظف الاستقبال عن الأمان في ذلك الحي وعما إذا كان ينصحني بالتجوّل سيرًا على القدمين. عَلَت الابتسامةُ محيّا الفتى ذي الملامح المصرية التي لا تختلف كثيرا عن ملامح المصريين القدماء التي تحتويها تماثيل الحضارة البائدة الخالدة، وبادرني قائلا: “زي ما حضرتك شايف، كله رجال مخابرات هنا”. بادلته الابتسام وشكرته على طمأنتي.
لم أفطن إلى المرامي وراء قول الموظف اللطيف إلا بعد أن انتبهت في يومي الأول ذاك على الأراضي المصرية أن فندق البارون يقابله مباشرة على الجهة الأخرى من شارع العروبة، مقابلة وجاهية مباشرة، أي الباب مقابل الباب، يقابله مبنى المخابرات العامة المهيب. وقد قال لي أحدهم أن درجة الأمان في ذلك الشارع تصل لدرجة أن يستطيع المرء أن يترك سيارة مليئة بالنقود بنوافذها مفتوحة، ومع ذلك فإن له أن يكون متيقنا ومطمئنا تمام الإطمئنان من أنها لن تسرق. حذّرني آخر أن كوني سائحا نازلا في ذلك الفندق بالذات يجعل مني هدفا للمراقبة الدائمة من رجال المخابرات، شأني في ذلك شأن أي سائح آخر. وعليه، فإنني لا بد لي من اتخاذ الاحتياطات اللازمة والابتعاد بكل الوسائل عما قد يجلب لي المتاعب مع هذا الجهاز المهيب الرهيب.
ترتبط ذكرى المخابرات المصرية في ذاكرتي بطفولتي ويفاعتي في وطني لبنان. وذلك عبر المسلسل التلفزيوني المصري الشهير الذي انتشر في الوطن العربي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وهو مسلسل “رأفت الهجان”، الذي يتناول بطولة من بطولات المخابرات المصرية في خضمّ الصراع العربي/ الصهيوني. وكان ذلك المسلسل الرائع من بطولة الممثل المبدع الراحل محمود عبد العزيز. وكان هذا العمل التلفزيوني الخالد السبب في تكريم المخابرات العامة لمحمود عبد العزيز، عبر نعيه حين وفاته. وهذا شرف لم يحصل عليه ربما أحد من الممثلين المصريين. ولا أزال أذكر موسيقى عمار الشريعي العبقرية لذلك المسلسل، ولا أزال أسمعها حتى يومي هذا من حين لآخر، بواسطة موقع يوتيوب على الشبكة العنكبوتية.
وقد كان كتاب الكاتب المصري صالح مرسي، تحت عنوان: “رأفت الهجّان” مع العنوان الفرعي: “كنتُ جاسوسا في إسرائيل”، الواقع في بضع مئات من الصفحات، كان أول كتاب من الكتب “السميكة والدسمة” التي أقرأها في حياتي من الجلدة إلى الجلدة. كان هذا الكتاب موجودا في مكتبة والدي في شقتنا في شتورة في لبنان. تلك المكتبة كانت تقع في الغرفة الخاصة بي وبشقيقي محمد، وكانت تضم في ذلك الحين كتب والدي العربية، ومعظمها ذات صبغة سياسية وأدبية، بالإضافة الى الكتب البرازيلية الخاصة بوالدتي باللغة البرتغالية، مع كتبنا نحن الأطفال، ومعظمها كتب للأطفال والشباب من مثل “مجموعة الفراشة”، “سلسلة الناجحون”، “سلسلة الأبطال”، وكانت هذه الكتب موجهة للأطفال واليافعين وتتناول الثقافة العامة وسِيَر العباقرة والعظماء من العرب والمسلمين والعالم، بالإضافة إلى موسوعتين ومعاجم باللغتين العربية والانكليزية. كان والداي حريصين جدا على غرس حب الثقافة والاطلاع في نفوسنا. وقد كنت حين أتممت قراءة كتاب: “رأفت الهجان”، يافعا في الحادية عشرة أو ربما في الثانية عشرة، وأذكر أن ذلك حصل في أربعة أيام من عطلة مدرسية قضيت جلّها في قراءة هذا العمل. ولا أزال أذكر كم شعرت بالزهو والفخر حينها أنني أتممت قراءة كتاب من كتب الكبار من الحجم الكبير من الجلدة الى الجلدة.
ومن الطرائف التي حصلت معي أنني كنت أجد صعوبة في فهم بعض كلمات الحوارات التي أوردها الكاتب باللهجة المصرية في سطور كتابه. فكنت أعجز عن فهم كلمة “أيوه” التي كنت أقرأها بضم الياء والشدة عليها، وبدت لي كأنها طلسم من الطلاسم الفرعونية. لاحقا بعد أن فرغت من ذلك الكتاب أن “أيْوَه” تقرأ بسكون على الياء وبفتح الواو وتعني باللهجة العامية “نعم”، وهي كلمة منتشرة جدا في مصر، ولكنها أقل انتشارا في كل من لبنان وسوريا.
ترتبط المخابرات العامة المصرية في ذاكرتي بمسلسل آخر عُرِض على شاشات التلفزة في لبنان في أواسط التسعينيات من القرن الماضي وهو مسلسل “الحفّار” الذي شارك في بطولته الممثل المصري حسين فهمي. وقد تناول هذا العمل التلفزيوني عملا بطوليا آخر للمخابرات المصرية في إطار “حرب الاستنزاف” مع العدو الصهيوني، وهو تفجير حفّار النفط الذي كان العدو الصهيوني قد استقدمه من كندا للتنقيب عن النفط في شبه جزيرة سيناء المحتلة حينها. أذكر في ذلك المسلسل “الضفادع البشرية” التي استعانت بها المخابرات العامة المصرية لتفجير الحفار في مرفأ أبيدجان. وأذكر جيدا أنني قرأت في جريدة “السفير” اللبنانية آنذاك، نقدا لاذعا للأستاذ (المرحوم) طلال سلمان، فحواه أن مسلسل “الحفّار” قد حطّ من شأن إنجازات المخابرات العامة المصرية حين أظهر العدوّ بمظهر كاريكاتوري، في حين أن الواقع يقول أن إنصاف العدوّ، وعدم الاستهزاء بمقدراته ومؤهلاته، له أن يعلّي من شأن بطولات جهاز المخابرات الذي تمكن من توجيه ضربة موجعة لعدو قوي مقتدر وليس لعدو ضعيف هاوٍ.
لاحقًا، في مهجري البرازيلي، راحت تتلاشى تلك الصورة الرومنسية التي انطبعت في ذهني عن المخابرات العامة المصرية، لتحلّ مكانها تلك الصورة القبيحة لجهاز صلاح نصر في مخازي وفضائح مهزلة ونكبة حرب الأيام الستّ، وما جاء قبلها من اعتقالات تعسّفية وتعذيب واضطهاد للمعارضين. ورحت أقرأ عن فظائع ذلك الجهاز المخابراتي الذي آلى على نفسه التفلت من أيّ رادع أخلاقي أو إنساني من أجل الحفاظ على السلطة الاستبدادية. لم يعد مسلسلا “رأفت الهجان” و”الحفار”، يثيران فيّ أيّ مشاعر رومنسية حيال جهاز المخابرات، وإن كانا يرتبطان بالحنين إلى أيام الطفولة واليفاعة. ولا أزال أشعر بالاعتزاز كلما تذكرت أنني قرأت ذلك العمل لصالح مرسي في تلك السنّ الصغيرة جدا.
(يتبع)